في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
مكانة الحافظ السلفي ودوره في الدولة الأيوبية (2):
الحلقة: الخامسة و الأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020
1.علاقته مع الدَّولة الفاطمية:
تجنَّب السلفي الاصطدام بالدولة الفاطمية ما أمكنه؛ حتى لا يؤذوه ، كما اذوا غيره من علماء الإسكندرية ، أو يمنعوه من التحديث ، كما فعلوا من قبل مع المحدث أبي إسحاق الحبَّال المصري، فتجنَّب نقدهم ، والإساءة إليهم بشكلٍ يثير حفيظتهم عليه ، فابتعدوا عنه ، وتركوه وشأنه ، بل إنَّ بعضهم كان يذهب إلى حلقة درسه ، ويستمع إليه. ومما ساعد الحافظ السِّلَفي في نجاحه في تأدية رسالته: أنَّ الدولة الفاطمية في تلك الفترة في 511هـ 567هـ قد أخذ نجمها ينحدر نحو الأفول ، والزوال ، وأنَّ الخلفاء أنفسهم كانوا ضعافاً مسلوبي الإرادة ، والإدارة ، يتحكَّم في أمورهم ، ومصائرهم الوزراء المتصارعون على كرسي الحكم ، ومركز القوَّة ، والسُّلطان ، وأنَّ أولئك الوزراء لم يكونوا حريصين على رعاية المذهب الفاطمي ، والمحافظة عليه بقدر ما كانوا حريصين على السَّيطرة ، والبقاء في سدة الحكم ، بل كان بينهم وزراء سِّنيُّون ، وهؤلاء الوزراء جميعاً على اختلاف مذاهبهم لم يكن يهمهم أمر المذهب الفاطمي في كثيرٍ ، أو قليل.
وكانت صلته بولاة الإسكندرية السُّنِّين ـ الذين لم يتمذهبوا بالمذهب الفاطمي ـ حسنةً طيبةً ، فهم كانوا يحبُّونه، ويجلُّونه ، ويعرفون له قدره ، ويحضرون دروسه ، ويقرؤون عليه ، فالوالي قسطة الامري كانت بينه وبين «السِّلَفي» مودةٌ ، ومكاتبةٌ. قال عنه في معجم السفر: وقسطةُ هذا من عقلاء الأمراء الماثلين إلى العدل ، المثابرين على مطالعة الكتب ، وأكثر ميله إلى التواريخ ، وسير المتقدِّمين ، وكانت بيني وبينه مودةٌ ، ومكاتبةٌ، وأما نائب والي الإسكندرية أبو الرضا عبد الله بن الفضل بن دُليل الحضرمي؛ فقد قال في ترجمته: .. وكان يلازمني ، ويراجعني في المسائل؛ التي يتشكَّك فيها ، وقرأ عليَّ «البخاري لابن بطَّال» قراءة درايةٍ ، لا رواية. وأما والي الإسكندرية العادل بن السلار ، فقد أكرمه ، ووضعه في مكانةٍ عالية؛ تليق به ، وبنى له المدرسة «العادلية» وعهد إليه إدارتها ، والتدريس فيها ، وكفاه الإنفاق عليها بأن وقف لها أوقافاً تدرُّ عليها ، وتسد نفقاتها ، واحتياجاتها. هذه أمثلةٌ لصلة الحافظ السِّلَفي برجال الدولة الفاطمية الرسميين ، وهي كما تبدو علاقةٌ طيبةٌ ، واضحٌ فيها التقدير، والاحترام رغم أنَّه لم يَزُرْ واحداً منهم في بيته ، أو مقرِّ عمله.
2 ـ علاقته مع رجال الدولة الأيوبية:
فرح الحافظ السِّلَفي فرحاً عظيماً لزوال الدَّولة الفاطمية الشيعية ، ووقيام الدولة الأيوبية السنية على أنقاضها؛ الذين شرعوا منذ اللحظة الأولى من قيام دولتهم يدعون إلى إعادة اعتناق عقيدة أهل السنة ، وإلى إزالة كلِّ مظهرٍ من مظاهر الاعتقاد الفاطمي ، وإلى تخويف كلِّ من يحاول إعادة المذهب الفاطمي ، أو الدَّعوة إليه. ومع هذا فإنَّ الحافظ السِّلَفي لم يقرع باب أحدٍ من السلاطين الأيوبيين ، أو أمرائهم لا مهنئاً ، ولا شاكراً ، تماماً كما كان يفعل مع حكام الفاطميين ، وأمرائهم من قبل ، وأَكْبَرَ سلاطينُ بني أيوب ، وأمراؤهم في السِّلَفي هذا السلوك ، وأخذو يسعون هم إليه ، ، يحضرون حلقات دروسه ، فيستمعون إليه ، كما يستمع غيرهم ، بكلِّ تقدير ، وإجلالٍ ، وإكبار ، فالسُّلطان صلاح الدين على مهابته ، وجلال قدره ، وعلوِّ مكانته كحاكم لمصر كلِّها ذهب بنفسه من القاهرة إلى الإسكندرية ـ يصحبه ولداه الأفضل «عليٌّ» والعزيز «عثمان» وأخوه «العادل» وسكرتيره «العماد الأصفهاني» وكبار رجال دولته؛ لزيارته ، وليسمع الحديث منه.
يقول القاضي ابن شدَّاد في وصف تلك الزيارة أثناء حديثه عن أخلاق السُّلطان صلاح الدين ، وعن حبِّه لسماع الحديث الشريف: وكان السلطان شديد الرغبة في سماع الحديث ، ومتى سمع عن شيخ ذي روايةٍ عاليةٍ ، وسماعٍ كثيرٍ ، فإن كان ممَّن يحضر عنده؛ استحضره ، وسمع عليه ، وإن كان ذلك الشيخ ممَّن لا يطرق أبواب السلاطين ، ويتجافى عن الحضور في مجالسهم؛ سعى إليه ، وسمع منه... وقد تردَّد إلى الحافظ «السِّلَفي» بالإسكندرية ، وروى عنه أحاديث كثيرة. وقد نقل أبو شامة صاحب كتاب الروضتين عن العماد الأصفهاني وصفاً تفصيلياً لتلك الزيارة ، فقال: ثم خرج السلطان من القاهرة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان ، واصطحب معه ولديه الأفضل «علياً» والعزيز «عثمان»... ثم وصلنا إلى ثغر الإسكندرية ، وتردَّدنا مع السلطان إلى الشيخ الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السِّلَفي ، وداومنا الحضور عنده ، واجتلينا من وجهه نور الإيمان ، وسعده ، وسمعنا عليه ثلاثة أيام: الخميس ، والجمعة ، والسبت رابع شهر رمضان ، واغتنمنا فرصة الزمان ، فتلك الأيام الثلاثة هي التي حسبناها من العمر. ومن ألطف ما حدث في تلك الزيارة ، أنَّ الملك العادل ، كان يجلس في أحد تلك الأيام الثلاثة بجوار أخيه السُّلطان ، فمال عليه ، وهَمَس في أذنه بكلام غير مسموع ، فلما راهما الحافظ «السِّلَفي» زبرهما ، وأظهر لهما عدم الرِّضا ، فأصغيا.
3 ـ السِّلَفي الشاعر ، وعلاقته بالشُّعراء:
كان الحافظ السِّلَفي ـ رحمه الله ـ شاعراً ، ينظم الشعر ، ويتذوَّقه ، وينقده عن دربةٍ ، ودراية ، وكان يحبُّ الاستماع للشعراء ، والمنشدين ، ويجزل العطاء لمن يمدحه. وكان يحبُّ حفظ الشعر ، وروايته ، والاستشهاد به في مجالسه ، وترديد ما كان يعجبه على مسامع جلاَّسه ، فهو كثيراً ما كان يردِّد قول الشاعر:
قالوا نفوس الدَّار سكَّانُها
وأنتم عندي نفوسُ النُّفوس
وقال الشاعر:
نحن نخشى الإله في كُلِّ كَرْبٍ
كيف نرجو استجابةً لدعاءٍ
ثمَّ ننساه عند كشف الكُروب
قد سَدَدْنا طريقَهُ بالذنوب
وقول الشاعر في المشيب:
حلَّ المشيب بعارضي ومفارقي
رحل الشباب فقلت قف لي ساعة
بئس القرينُ أراه غير مفارقي
حتى أودع قال إنَّك لاحقي
وقال الشاعر في عزَّة النفس:
منزلي منزلُ الكرام ونفسي
وإذا ما قَنِعْتُ بالقوتِ دَهْري
نفسُ حُرٍّ ترى المذلَّة كفرا
فَلِمَ أزورُ زيداً وعَمْرا؟
وكان يعجبه قول أبي إسحاق الشيرازي في الصَّديق الوفي:
سألتُ النَّاسَ عن خلٍّ وَفيٍّ
تمسَّكَ إنْ ظفرت بودٍّ حُرٍّ
فقالوا ما إلى هذا سبيل
فإن الحُرَّ في الدُّنيا قليل
وقد حفظت لنا بعض الكتب حكاياتٍ حدثت له مع بعض الشُّعراء ، نروي منها هذه الحكاية؛ لما كان لها من أثر في تحريك عواطفه ، وإثارة مكامن الشَّوق ، والحنين لأهله ، وبلده أصبهان.. يقول أبو أحمد أبو محمد عبد الله بن محمد التجيبي الأندلسي المعروف بابن المليح: إنَّ أبا الحجَّاج ابن الشيخ أنشد أبا الطاهر «السِّلَفي» هذه الأبيات:
أيا مَنْ حلَّ نورَ عيني
ويا مَنْ حازَ كُلَّ عُلاً وزْينِ
أنا مُذْ صِرْتُ عبدك زدتُ فخراً
أتيتُكم لأقرأَ أو لأرويَ
قريح القلب لم أظفر بشيءٍ
يروح الناسُ عنك بكلِّ خيرٍ
وما ذنبي سوى أنِّي غريبٌ
وزال بملككم نقصي وشَيْني
فعدت لمنزلي صِفر اليَدَين
كأني لم أكن أهلاً لِذَيْنِ
وأرجعُ لابساً خُفَّي حُنَيْنِ
وقومي حِيْل بينهُمُ وبَيْني
يقول أبو محمد ابن المليح: قال لي أبوالحجاج: لما وقف الشيخ أبو طاهر على هذه الأبيات ، وبلغ قولي:
وما ذنبي سِوى أنِّي غريبٌ
وقومي حِيْل بينهُمُ وبيني
تواجد ، وبكى ، وصاح بأعلى صوته: «وقومي حيل بينهُمُ وبيني» حنيناً إلى وطنه أصبهان ، وشوقاً إلى ما خلَّف من القرابة ، والإخوان ، وغُشي عليه ، فجعل طلبته يلومونني ، ويقولون لي: ما هذا الذي جنيت علينا اليوم؟! وأُدخل الشيخ داره ، فلم يخرج إلا بعد أربعة أيام.
وكان يقرض الشِّعر ، ومما قاله:
إنَّ علم الحديث علمُ رجالٍ
فإذا جنَّ ليلهم كتبوه
تركوا الابتداع للأتباع
وإذا أصبحوا غدوا للسَّماع
وقال معتزاً بما أكرمه الله به من معرفةٍ بعلم الحديث:
إذا ذُكرت بحار العلم يوماً
هو البحر المحيطُ وما عداه
فقول المصطفى لا غَيْرُ بحري
فأنهارٌ صِغارٌ منه تجري
ومدح الإِمام الشافعي في قصيدةٍ طويلة جاء فيها:
فعليك يا مَنْ رام دينَ محمَّدٍ
أعني محمَّد بن إدريس الذي
وعلا على النُّطراء طّراً واغتدى
وابحث كذا عن صَحْبهِ وأحبَّهُم
وتجمَّلَنْ بهم وكنْ مِنْ حِزبهم
بالشَّافعي وما أتاه وقالا
فاقَ البريَّة رتبةً وكمالا
شمس الهدى والغير كان هلالا
وأجلَّهُم للهِ جلَّ جلالا
فهُمُ الجَمَالُ لَئِنْ أردْت جَمالا
وردَّ في هذه القصيدة على أصحاب التجسيم ، والمعطِّلة ، وتناول فيها مشاهير المذهب الشافعي واحداً إلى أن وصل إلى قوله:
وأعلم بأنَّ أعزَّهم وأجلَّهم
مَنْ لم يخفْ في الله لومةَ لائمٍ
ذاك ابنُ حنبلَ الإمامُ المقتدى
شيخُ الأنام سَجِيةً وَفِعَالا
وبماراه من الأذى ما بالا
مَنْ فاق بين العالمين خِصالاً
4 ـ وفاته:
في صباح يوم الجمعة ـ وقيل: ليلة الجمعة ـ الخامس من ربيع الثاني سنة 576هـ غربت شمس حياة السِّلَفي من الوجود ، وأفل نجمه من سماء الإسكندرية إلى الأبد ، فانتهت بذلك حياةٌ طويلةٌ عامرة ، دامت قرناً من الزمن ، قضاها صاحبها في رحاب العلم ، والتدريس ، والمطالعة ، والكتابة ، والتحصيل ، والإفادة ، لم يتوقف عن ذلك يوماً من الأيام ، ولم يمنعه مانعٌ ، وإنما ظلَّ يتابع ، ويفيد حتى اخر أمسيةٍ من أمسيات حياته. وصلى عليه صاحبُه أبو طاهر بن عوف ، فقيه الإسكندرية المالكي بعد ظهر الجمعة بجامع عبد الله بن عمرو بن العاص ، ودفن في مقبرة «وعلة» التي ذكرها ابن خلِّكان بقوله: وهي مقبرةٌ داخل السور عند الباب الأخضر ، فيها جماعةٌ من الصالحين ، كالطرطوشي ، وغيره.
وقد زار قبره من المؤرخين المشهورين أبو شامة صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين. وذكر ذلك في أحداث سنة 576هـ فقال: وفيها توفي الحافظ السِّلَفي ، وقد زرتُ قبره داخل الباب الأخضر.
إنَّ الحافظ أبا الطاهر السِّلفي من علماء الأمة الكبار ، وقد أكسب الإسكندرية بوجوده بها شهرةً عالمية في علم الحديث ، والقراءات طول القرن السادس الهجري ، وعلى أهل الإسكندرية أن يفتخروا بهذا العالم الجليل ، ويردُّوا له الجميل ، فيَعرِّفوا الأجيال بمكانته ، أو يعيدوا للأذهان اسمه بإطلاقه على أحد المعاهد ، أو المدارس ، أو أن ينشروا تراثه.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: