في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
مكانة عبد الله بن أبي عصرون ودوره في الدولة الأيوبية
الحلقة: السابعة و الأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020
الشيخ الإمام العلامة ، الفقيه البارع ، المقرئ الأوْحَدُ ، شيخ الشافعية ، قاضي القضاة شرف الدين ، عالم أهل الشام ، أبو سعد عبدالله بن محمد بن هبة الله بن المطَهَّر بن علي بن أبي عصرون بن أبي السَّريِّ ، التَّميميُّ الحديثيٌّ الأصل ، الموصليُّ ، الشافعيُّ ، وقد تولَّى ابن أبي عصرون في عهد نور الدين قضاء سنجار ، ونصيبين ، وحرَّان، وغيرها من مدن ديار بكر ، وأصبح هناك أشبه بقاضي القضاة ، ينوب عنه في سائر المدن نوابٌ أشرف على تعيينهم بنفسه ، فقد ولد بالموصل سنة 492هـ أو 493هـ وتفقه على جماعة من العلماء ، وانتقل إلى حلب سنة 545هـ 1150م ، ثم قدم دمشق لدى دخول نور الدين إليها عام 549هـ 1154م ودرَّس في الزاوية الغربية من جامع دمشق ، وتولى أوقاف المساجد ، ثم رجع إلى حلب ، وأقام بها ، وصنف كتباً كثيرةً في الفقه ، والمذاهب ، ودرس على يده عددٌ كبير من التلاميذ ، وانتفعوا به ، وكان فقيهاً من طراز أول ، ووصف بأنه من أفقه أهل عصره ، وأنه إمام أصحاب الشافعي يومذاك ، وكان متوحِّداً في العلم ، والعمل ، وسرعان ما تقد م عند نور الدين ، فكلفه بالإشراف على بناء المدارس في حلب ، وحمص ، وبعلبك ، وغيرها ، ثم ما لبث أن ولاه قضاء ديار بكر ، ومنحه صلاحيات واسعة ، كما اعتمده عام 566هـ 1170م رسولاً إلى الخليفة المستضيء في بغداد.
1 ـ عبد الله بن أبي عصرون وصلاح الدين الأيوبي:
كان صلاح الدين على معرفة تامة بعبد الله بن أبي عصرون منذ أيام نور الدين محمود زنكي ، فكلاهما نشأ في ظلِّه، وتحت رعايته خاصة صلاح الدين ، وكان الاثنان من رجاله الأكفاء أحدهما يشتغل بالقضاء ، والحكم ، والفتيا ، والتعليم ، والعلم ، والاخر يشتغل بالأمور العسكرية ، ويوليها اهتماماً زائداً ، وتدلُّ مجريات الحوادث منذ أيام نور الدين محمود زنكي على أنَّ العلاقات بين الرَّجلين كانت سليمةً ، تسيرها روح الود ، والمحبة ، والتقدير ، فقد عرف كل منهما الاخر حقَّ المعرفة ، وبادله الاحترام بمثله ، والدَّليل على ذلك الرسالة التي بعثها صلاح الدين من مصر للشام إلى ابن أبي عصرون ، ولعلَّ اختياره بالذات تفضيلٌ له على غيره ، واعتراف بقدرته على التأثير في الأحداث ، لذا كانت رسالته تحمل في طياتها نوعاً من العتب عليه ، وأملاً في أن يعمل بجدٍّ لإفشال تلك الاتفاقية الغادرة ، وكان عبد الله بن أبي عصرون لا يحبذ تلك الاتفاقية ، ولم يوافق عليها مع من وافق ، ولعلَّه كان يعاني الألم النفسي لما حلَّ بالمسلمين من الضعف ، بل كان يحبِّذ مجيء صلاح الدين من مصر ليعملا سوياً ، وبانسجام تامٍّ لتحطيم مثل هذه الاتفاقية ، والانطلاق إلى تحقيق الهدف المعلن ، وهو طرد المحتل الصَّليبي الجاثم فوق الأرض الإسلامية في بلاد الشام.
ويبدو أنَّ ابن أبي عصرون كان يحبِّذ قدوم صلاح الدين من مصر إلى الشام ـ بعد وفاة نور الدِّين ، واختلاف الأمراء من بعده ـ ويؤيِّد هذا القول: أنَّه لم يوقع أولاً على الاتفاقية شأنه في ذلك شأن أُمراء الشام ، وقضاته خاصة ، وأنَّه كان من الشخصيات الكبيرة في المجتمع ، وثانياً: أنَّه وقف ضدَّ الأمراء الذين طلبوا الاستمرار في معاداة صلاح الدين الأيوبي ، والعمل ضدَّ قدومه إلى بلاد الشام الأمر الذي جعل صلاح الدين يوليه قضاء مصر، ومع ذلك ذهب عبد الله بن أبي عصرون من دمشق إلى حلب مع الملك الصَّالح إسماعيل بن نور الدين محمود زنكي قبل قدوم صلاح الدين إلى دمشق ، ولم يمكث طويلاً ، بل عاد إلى دمشق ثانيةً ، وكان بها صلاح الدين الأيوبي عام 572هـ ، وذلك عندما أشرف كمال الدين الشهرزوري قاضي الشام أيام صلاح الدين على الموت ، بل كان من الذين غسَّلوه ، وكفَّنوه ، وسار على رأس المشيعين بجنازته بعد الموت.
2 ـ تعيين ابن أبي عصرون على القضاء:
عندما شعر كمال الدين الشهرزوري بدنوِّ أجله؛ فوَّض القضاء في بلاد الشام إلى ابن أخيه ، أبي الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله الملقب ضياء الدين ، ولم يَسَعْ صلاح الدين سوى الموافقة على هذا التفويض؛ لأن ضياء الدين أهل للقضاء ليس إلا؛ لأنَّ القضاء من الرتب العليا؛ التي لا ينفع فيها توريث وقد كان لكمال الدين الشهرزوري جهود في تهيئة الأمور بدمشق لاستقبال صلاح الدين؛ لأنه اعتقد: أنه أكفأ من باقي الأمراء لمنازلة العدو الصَّليبي. وهذا العمل من الأعمال المجيدة التي تحسب لكمال الدين الشهرزوري ؛ حيث وضع المصلحة العامة للمسلمين فوق كلِّ اعتبار ، وفضَّل صلاح الدين على باقي مجموع الأمراء في بلاد الشام؛ الذين أمضوا الصُّلح مع العدو الصليبي. وسيأتي بيان ذلك مفصَّلاً في حينه بإذن الله تعالى. إلا أنَّ صلاح الدين بعد وفاة كمال الدين الشهرزوري كان ميله لتعيين ابن أبي عصرون على القضاء للأسباب التالية:
1 ـ قوَّة شخصية عبد الله بن أبي عصرون العلمية والأدبية ، ومكانته كشيخ للمذهب الشافعي في زمنه ، وقد شهد له معظم المعاصرين بهذا.
2 ـ حبَّ صلاح الدين الأيوبي لأتباع مذهب الشافعي ، وتقديرهم؛ سيما وإنه كان شافعياً إلى درجة التعصب أحياناً ، وأنه أراد أن يوَّحد الدَّولة على أساس المذهب الشافعي.
3 ـ احتضان صلاح الدين لعبد الله بن أبي عصرون عندما قدم إليه إلى دمشق ، لا بل تفويض قضاء مصر له ، كما روى المقريزي عام 570هـ ، وتوجيه كتاب له يحضُّه على إبطال مفعول معاهدة دمشق مع الصليبيين في نفس العام لدليلٌ على أن صلاح الدين يكن له الحبُّ ، والتقدير ، ويتمنَّى أن يكون قاضيه ، بل تعتبر الرسالة تمهيداً لاختياره في المستقبل.
4 ـ ثم إنَّ علاقات صلاح الدين ، وابن أبي عصرون كانت على درجةٍ كبيرة من المتانة ، وكان ابن أبي عصرون هو الذي تولَّى الإشراف على تزويج صلاح الدين بالخاتون عصمة الدين بنت الأمير معين الدين أنر ، وزوجة السلطان نور الدين ـ قبل وفاته ـ التي كانت تقيم بقلعة دمشق عام 572هـ.
5 ـ وجود شخصيات هامة في دولة صلاح الدين الأيوبي تُحَبِّذ أن يسند قضاء قضاة الشام إلى عبد الله بن أبي عصرون أمثال القاضي الفاضل؛ الذي كانت علاقاته به متميزة ، وكان ابن أبي عصرون كثيراً ما يخاطبه في مراسلاته بمجير الدين القاضي الفاضل دليلاً على احترامه ، وعلوِّ شأنه ، وكذلك الفقيه عيسى الهكاري أحد أمراء صلاح الدين ، والذي تتلمذ على يدي عبد الله بن أبي عصرون ، والذي كان يميل إلى أستاذه ، ويتمنَّى أن يراه قاضياً لقضاة الشام. ولا شكَّ في أنَّ لهاتين الشخصيتين أثراً كبيراً في جعل صلاح الدين يميل إلى عبد الله بن أبي عصرون ، ويسند إليه القضاء ، فللناس فيما يذهبون ، ويهوون مشارب ، ومذاهب.
6 ـ خطة عبد الله بن أبي عصرون ، وأعوانه؛ الذين بدأوا يذيعون أنَّ ضياء الدين سيعزل ، وربما يناله المكروه. فتحَرَّج موقف الرَّجل ، ودفعه هذا العمل إلى تفضيل السّلامة ، وقدم استقالته من القضاء ، والتي قبلت بسرعة، ودون تردُّد ، مما يفسِّر لنا: أنَّ صلاح الدين يميل إلى عبد الله بن أبي عصرون؛ مع أنه لا يريد الإحراج لضياء الدين، وإقالته. ومهما قيل؛ فإنَّ مجمل هذه الأسباب مجتمعةً هيأت الظروف لأن يتولى شرف الدين بن أبي عصرون قضاء القضاة في جميع ممالك بلاد الشام الخاضعة لصلاح الدين الأيوبي عام 573هـ ، وكان شرط صلاح الدين على هذا التعيين أن يكون محيي الدين أبو المعالي محمد بن زكي الدين ، والأوحد داود نائب كمال الدين الشهرزوري في الحكم ، والقضاء قاضيان يحكمان ، وهما عن منابته يوردان ، ويصدران ، وتوليتهما بتوقيع من السلطان نفسه.
3 ـ إنتاج ابن أبي عصرون العلمي:
كان ابن أبي عصرون شخصيةً متميزةً لها سماتها الفريدة ، فقد وصفه صاحب النُّجوم الزاهرة بأنَّه كان: إماماً فاضلاً مصنفاً. ووصفه السِّبكي صاحب طبقات الشافعية بقوله: نزيل دمشق، وقاضي القضاة بها، وعالمها، ورئيسها. وقال عنه موفق الدين بن قدامة المقدسي: كان إمام أصحاب الشافعي في عصره. ونعته ابن الصلاح بأنَّه أفقه أهل عصره ، وإليه المنتهى في الفتاوى، والأحكام. ووصفه العماد الأصفهاني بقوله: حجَّة الإسلام، مفتي العراق، والشام شيخ العلم ، العلامة، وبفتياه توطدت للشَّرع الدَّعامة، وله الفخار ، والفخامة ، وليس في عصرنا مَنْ أتقن مذهب الشافعي عنه مثله ، وقد أشرق في الافاق فضله ، وصنَّف في المذهب تصانيف مفيدةً ، قواعدها في العلم مهيدة. ومما صنفه ابن أبي عصرون: صفوة المذهب في نهاية المطلب، وهو سبع مجلَّدات، و«الانتصار» في أربع مجلدات، و«المرشد» في مجلدين، و«الذريعة في معرفة الشريعة» مجلد، و«التيسير» في الخلاف في أربعة مجلدات، و«ماخذ النظر» و«مختصر الفرائض» و«الإرشاد المغرب في نصرة المذهب» ولم يكمله، وذهب فيما ذهب له بحلب. وله مؤلَّفات أخرى منها: «التنبيه في معرفة الأحكام» و«فوائد المهذب» في مجلدين. و«الموافق والمخالف» ، و«فوائد المنذري» في مجلدين ، وجمع جزءاً في جواز قضاء الأعمى.
وأضاف البغدادي في هداية العارفين فتاوى ، ومسلسلات في الحديث.
4 ـ إنتاج شرف الدين بن أبي عصرون الأدبي:
اشتهر شرف الدين في علوم الفقه ، والأصول ، والخلاف ، والفتاوى ، والقضاء ، وكذلك بالجانب الأدبي ، فقد كان شاعراً أديباً أورد له العماد الأصفهاني ، وغيره مقطوعاتٍ شعريةً كثيرةً تنمُّ عن إحساسٍ متدفِّق ، وخيالٍ خصبٍ واسع ، ونفس مجربة عركتها الحياة.
ومن أشعاره:
كلُّ جمعٍ إلى الشتات يصير
أنتَ في اللَّهو والأماني مقيمٌ
والذي غَرَّه بلوغ الأماني
ويك يا نفسي أخلصي إنَّ ربي
أيُّ صفو ما شابه تكديرُ
والمنايا في كلِّ وقتٍ تسيرُ
بسرابٍ وخُلَّبٍ مغرورُ
بالَّذي أخفتِ الصُّدور بصيرُ
ومن شعره:
أمستخبري عن حَنِيني إليهِ
لكَ الخبرُ إنَّ بقلبي إليكَ
وعن زَفَراتي وفرط اشتياقي
طمأً لا يُروِّيْهِ إلا التلاقي
وقال أيضاً:
يا سائلي كيف حالي بعد فُرْقَتِهِ
قد أقسم الدَّمعُ لا يجفُو الجُفُون أسىً
وحاشاكَ ممَّا بقلبي مِنْ تَنَائيكا
والنَّوم لازارها حتَّى ألاقيكا
هذه شخصية ابن أبي عصرون المتميزة فهي متكاملةُ الجوانب ، لها أثرها في مجال القضاء ، والفتيا ، والسياسة، والإدارة ، والدبلوماسية ، والسَّفارة ، تمتعت بقدر كافٍ من العلم ، والأدب أهَّلها إلى أن تتسنَّم أرقى المناصب، وأرفعها ، وهي: قضاء القضاة ، والسَّفارة ، ومشيخة الشَّافعية في عصرها.
5 ـ حمله البشارة إلى الخلافة العباسية:
من المهام الجليلة التي قام بها القاضي شرف الدين بن أبي عصرون هي حمل البشارة إلى الخلافة العباسية سنة 567هـ/1171م بقطع صلاح الدين الخطبة للخليفة الفاطمي العاضد ، وإقامتها للخليفة العباسي المستضيء بالله، وكتب معه نسخةً لهذه البشارة تُقرا بكلِّ مدينة يمرُّ بها ، فسار إلى بغداد ، ولم يترك مدينة إلا دخلها بهذه البشارة الجليلة القدر ، وقرأ فيها هذا المنشور العظيم الخطر ، والذكر؛ حتى وصل إلى بغداد ، فخرج الموكب إلى تلقيه ، وجميع أهل بغداد مكرمين لخطير وروده ، معظمين لجليل مورده ، ونثرت عليه دنانير الإنعام ، وحُبِيَ بكل إحسانٍ، وإكرام ، وأرسلت التشريفات إلى نور الدِّين ، وصلاح الدين.
واستمرَّ القاضي شرف الدين بن أبي عصرون مشاركاً في الحياة السياسية بعلمه ، وآرائه ، وسفيراً لصلاح الدين إلى الخلافة العباسية ببغداد ، حتى كانت موقعة حطين سنة 583هـ/1187م.وأكَّد المؤرخون مشاركته لصلاح الدين في هذه الموقعة العظيمة؛ التي فتح الله بها معظم مدن الساحل الشَّامي ، وبيت المقدس.
6 ـ عبد الله بن أبي عصرون يصاب العمى:
ظلَّ شرف الدين بن أبي عصرون قاضياً يحكم بالشَّرع حتى عام 577هـ ، حيث أصيب انذاك بالعمى ، وفقد بصره ، فتكلَّم الناس في عدم أهليته للقضاء ، وطعنوا بها. وهنا وقع صلاح الدين في حرج شديد ، وورطة فقهية ، فهو لا يريد أن يمسَّ مشاعر صاحبه الذي فقد بصره ، ويعزله عن منصب القضاء ، وهو في نفس الوقت يتعرَّض لأقوال الفقهاء؛ التي تطعن في بقاء ابن أبي عصرون في منصبه لعدم أهليته ، وقد تصدَّى شرف الدين بن أبي عصرون لهذه المشكلة بنفسه ، وأصدر كتاباً في جواز قضاء الأعمى مخالفاً في هذا مجموع الفقهاء ، وكان سند ابن أبي عصرون فيما ذهب إليه من جواز قضاء الأعمى وجهٌ ورد في جمع الجوامع للروياني ، واختاره شرف الدين بن أبي عصرون ، وصنَّف فيه جزءاً في جواز قضاء الأعمى ، وظلَّ هو قاضياً لمَّا أصيب بالعمى.
وكانت حجَّة الجمهور: أن الأعمى لا يعرف الخصوم ، ولا الشهود ، فكيف يحسن قضاؤه فيما يعرض عليه؟! وحجَّة من جوَّز هذا: أن شعيباً نبي الله كان أعمى ، فما دام هذا نبيٌّ مرسل؛ فالقاضي بطريق أولى أن يكون قاضياً، لأنَّ النبي أشرف من القاضي لتفضيل الله له على غيره ، وقيل: إن شعيباً لم يثبت عماه ، فلو سلَّمنا بعمى شعيب ، فإنَّ الذين امنوا به كانوا قلَّةً ، فربما أنهم لم يحتاجوا إلى من يحكم بينهم ، ولو فرضنا أنهم احتاجوا؛ فإنَّ الوحي ينزل على النبي شعيب يزوِّده بالحكم الفاصل ، ولا يتسنَّى هذا للقاضي؛ إذ لا وحي ينزل عليه.
وأمام هذه المشكلة التي يقف فيها شرف الدين بن أبي عصرون وحده في جانب ، وجميع الفقهاء في الجانب الاخر بالشام انتابت صلاح الدين الحيرة ، فماذا عساه صانع؟ فالتفت صلاح الدين إلى القاضي الفاضل ، وكان في مصر انذاك ، فأرسل إليه يستعين به على حلِّ هذه المشكلة ، بأنَّه يتوجب عليه أن يتَّصل بالشيخ أبي طاهر بن عوف الإسكندري ، ويسأله عمَّا ورد من الأحاديث في قضاء الأعمى، علَّه يجد له حلاًّ لما استعصى عليه ، ثمَّ لم تلبث أن وردت إجابات القاضي الفاضل إلى صلاح الدين الأيوبي ، وجاء فيها: لن يخلو الأمر عن قسمين ، والله يختار للمولى خيرة الأقسام ، ولا ينسى له هذا التخريج الذي لا يبلغه ملك من ملوك الإسلام: إما بقاء الأمر باسم الوالد بحيث يبقى رأيه ، ومشورته ، وفتياه ، وبركته ، ويتولَّى ولده النيابة ، ويشترط عليه المجازاة لأول زلَّةٍ ، وترك الإقالة لأقل عثرة؛ فطالما بعث حب المناقشة الراجحة على اكتساب الأخلاق الصالحة ، وإما أن يفوِّض الأمر إلى الإمام قطب الدين ، فهو بقيَّة المشايخ، وصدر الأصحاب ، ولا يجوز أن يتقدَّم عليه في بلدٍ إلا من هو أرفع طبقةً في العلم منه.
وفي هذا الجواب وجد صلاح الدين المخرج بلا حرج ، فأبقى شرف الدين على رأس القضاء ، وفوَّض الأمر إلى ولده محيي الدين أبي حامد محمد بن شرف الدين؛ على أن يكون والده هو الحاكم الحقيقي ، ويظهر للناس على أنه نائب عن أبيه بحيث لا يظهر للناس صرفه عن القضاء. وهكذا بقي شرف الدِّين بن أبي عصرون يمارس قضاء القضاة في بلاد الشام ، وولده نائب عنه ، بفضل دفاعه عن نفسه ، والغوص في أعماق الفقه ، واستخلاص ما يجيز قضاء الأعمى ، ثم تضامن صلاح الدين معه ، ومساندة صاحبه القاضي الفاضل له بالحقِّ.
7 ـ وفاة ابن أبي عصرون:
توفي القاضي ابن أبي عصرون في حادي عشر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمئة ، ولما بلغ الخبر القاضي الفاضل بمصر كتب رسالةً بهذه المناسبة يُعَزِّي بشرف الدين ، ويردُّ على الرسالة التي وردته بالخبر من الشام: وصل كتاب الذات الكريمة جمع الله شملها ، وسرَّ بها أهلها ، ويسَّر إلى الخيرات سبلها ، وجعل في ابتغاء رضوانه قولها ، وفعلها ، وفيه زيادة هي نقص الإسلام ، وثلم في البرية يتجاوز رتبة الإنثلام إلى الانهدام ، وذلك ما قضاه الله تعالى، وقدَّره من وفاة الإمام شرف الدين بن أبي عصرون ، رحمه الله تعالى ، وما حصل بموته من نقص الأرض من أطرافها ، ومن مساءة أهل الملَّة ، ومسرَّة أهل خلافهما ، فلقد كان علماً للعلم منصوباً ، وبقية من بقايا السَّلف الصالح محسوباً ، والعلم بالشام زرعه ، وكلُّ من انتفع فعليه كان ، وإليه ينسب نفعه ، رضي الله عنه ، وأرضاه ، ونقع بماء الرَّحمة مثواه ، وما مات من أبقى تلك التصانيف التي هي المعنى المغني ، بل ما مات مَنْ ولده المحيي ، فإنَّه والله لآثاره ، ولعلمه ، والحضرة تنوب عني في تعزيته ، والقيام بحق تسليته ، وقد شاءتني الغيبة عن مشهده ، وتغيير القيام وراء سريره ، والتوسُّل إلى الله في ساعة مقدمه ، ولقد علم الله اغتمامي لفقد حضرته ، واستيحاشي لخلو الدنيا من بركته ، واهتمامي بما عدمت من النصيب الموفر (كان) من أدعيته. وما مات بحمد الله حتى أحرز غيبته بأولادٍ كرامٍ بررةٍ ، وأنشأ طلبةً للعلم نقلة ، وللمداس عمرة ، وحتى بنى لله المدارس ، والمساجد ، وأحيا نهاره ، وليله بين راكع ، وساجد ، فهو حيٌّ لمجده ، وإنما نحن الموتى بفقده.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: