في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
مكانة الفقيه عيسى الهكَّاري ودوره في الدولة الأيوبية:
الحلقة: الثامنة و الأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليوز 2020
هو الفقيه ضياء الدين أبو محمد عيسى بن محمَّد بن عيسى الهكَّاري ، أحد أمراء الدولة الصلاحية ، معولاً عليه في الاراء ، والمشورات ، وقام بتدريس الفقه في المدرسة الزجاجية بمدينة حلب ، واتصل بالأمير أسد الدِّين شيركوه عم صلاح الدين ، وصار إمامه يصلَّي به الفرائض الخمس ، ولما توجَّه أسد الدين إلى الدِّيار المصرية ، وتولَّى الوزارة؛ كان عيسى في صحبته ، وكان صلاح الدين يستشيره ، ويتبع نصحه ، وكان كثير الإدلال عليه ، يخاطبه بما لا يقدر عليه غيره من الكلام ، وكان واسطةً بين صلاح الدين والناس بما ينفعهم.
1 ـ إسناده لصلاح الدين في وزارته:
بعد أن تولَّى صلاح الدين الوزارة بتقليدٍ من الخليفة العاضد؛ اعترض بعضُ الأمراء النورية الذين طمعوا في الوزارة لأنفسهم على هذا الوضع ، ورفضوا طاعة صلاح الدِّين ، وخدمته ، وكادت تحدث فتنةٌ بين قوات نور الدين في مصر لولا الدور الذي قام به الفقيه عيسى الهكَّاري ـ وهو من الأكراد ـ فقد أخذ يسعى جاهداً بين هؤلاء الأمراء إلى أن جمعهم حوله بأنواع من الترغيب ، والترهيب؛ إلا أنَّ عين الدولة الياروقي فضَّل العودة إلى الشام لخدمة نور الدين محمود على أن يظلَّ تابعاً لصلاح الدين. وهكذا يتَّضح الدور العظيم الذي قام به الفقيه عيسى الهكَّاري في دعم صلاح الدين في وزارته ، فقد استطاع بقوة شخصيته ، وذكائه أن يوطِّد الأمور لصلاح الدين في بداية توليه ، حتى يتيح له الفرصة للتفرُّغ لما هو أهمُّ من هذه الصِّراعات ، ونعني بذلك: الجهاد الأعظم ضدَّ الصليبيين.
2 ـ إصلاح الموقف بين صلاح الدين ، ونور الدين:
كان الفضل للشيخ عيسى الهكَّاري في إصلاح الموقف بين صلاح الدين ، والسلطان نور الدين محمود عندما اعتذر صلاح الدين عن الزَّحف إلى حصن الكرك ، كما طلب نور الدين؛ الذي قبل وساطة الهكَّاري ، وحمَّله رسالةً إلى صلاح الدين ، مفادها: أن حفظ مصر أهمُّ عندنا من غيره. وكان صلاح الدِّين يعتمد عليه في كثيرٍ من الأمور؛ حتى أصبح الفقيه عيسى واحداً من كبار الأمراء الصَّلاحية ، وكان صلاح الدين يحترم علمه ، وعقله ، واراءه ، ويستشيره كثيراً في أمور الحكم ، ولم يكن يخرج عن رأيه.
3 ـ مساهمته في الصُّلح مع أهل الموصل:
وتتوالى الأحداث ، والمواقف بعد ذلك لتؤكد أهمية ، ومكانة هذا الفقيه في دولة صلاح الدين الأيوبي ، وذلك يتَّضح عندما أراد صلاح الدين في عام 578هـ/1182م أن يحاصر الموصل ، ويستعيدها من صاحبها الأتابك عز الدين مسعود ، ويضمَّها إلى الجبهة الإسلامية ، ويضمن وقوفها معه ضدَّ الصليبيين في معركته الفاصلة معهم ، ولكن بعد مناوشاتٍ عديدةٍ بين الطرفين تدخَّل الخليفة العباسي في الأمر ، وأرسل صدر الدين شيخ الشيوخ مندوباً عنه للتوسُّط في الصلح بين الطرفين، فأرسل صدر الدين إلى صلاح الدين يطلب منه إنفاذ بعض ثقاته لحضور مباحثات الصُّلح بين الطرفين ، فتقدَّم السلطان إلى الأجلِّ القاضي الفاضل ، وإلى الفقيه عيسى أن يحضرا ، وأن ينهيا إليه ما يسمعانه منه ، فمضيا ، وحضرا عند شيخ الشيوخ ، وقام كلٌّ من القاضي الفاضل ، والفقيه عيسى بالتباحث في الأمر نيابةً عن صلاح الدين؛ حتى استقرَّ الصُّلح بين الطرفين ، ورحل صلاح الدين عن الموصل ، وحقنت بذلك دماء المسلمين.
4 ـ التفاوض مع وزير خلاط:
قام الفقيه عيسى الهكَّاري في سنة 581هـ/1185م بمهمَّةٍ دبلوماسية أخرى ، أوفده بها السلطان صلاح الدين الأيوبي للتفاوض مع وزير خلاط كنائبٍ عنه؛ لأنَّه بعد وفاة شاه أرمن سكمان صاحب خلاط تولَّى مملوكه سيف الدين بكتمر البلاد ، فسار نحوه البهلوان أتابك شمس الدين محمد بن أيلدكز صاحب العجم لأخذ خلاط منه ، وطمع وزير خلاط أيضاً في الاستيلاء عليها ، وهو مجد الدين بن الموفق بن رشيق الذي أرسل إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي طالباً منه التدخل لحسم تلك الأطماع ، فبعث السلطان الفقيه عيسى الهكَّاري في هذه المهمة الدبلوماسية ليمهِّد الطريق ، ويناقش الأطراف ، وتحدَّث وزير خلاط مع الفقيه عيسى طالباً استعجال السُّلطان في الوصول قبل وصول البهلوان ، وكان السلطان بالفعل قد غادر الموصل في طريقه إلى خلاط ، ولما علم البهلوان بتلك التطوُّرات ، وذلك الموقف الحاسم؛ الذي وقفه الفقيه عيسى في مساندة وزير خلاط ، ورسالته العاجلة إلى السُّلطان؛ دخل البهلوان الخوف ، وطلب الصلح مع وزير خلاط ، والعودة إلى بلاده، فتمَّ الصُّلح، وانقضى الخلاف، وذلك بحكمة الفقيه عيسى الهكَّاري؛ الذي نجح في هذه المهمة ، وفتح أبواب الاستعطاف ، والاستمالة بين الفئتين.
5 ـ رجل المهمَّات الخاصة:
في سنة 582هـ/1186م قام السلطان صلاح الدين بعدة تعديلات في مصر ، والشام خاصَّةً بنوابه في البلاد؛ لرغبته في الاطمئنان على مستقبل البلاد بعد وفاته من ناحيةٍ ، وعدم حدوث خلاف بين أبنائه بالإضافة إلى تدريبهم على سياسة الملك في حياته ، وصيانة البلاد من الانشقاق من ناحيةٍ أخرى، لاسيما وأنَّه كان يعدُّ نفسه للدخول في معركةٍ فاصلةٍ من معارك جهاده ضدَّ الصليبيين ، فلما وصلته الأخبار بأنَّ ابن أخيه تقي الدين عمر ـ نائبه في مصر مع ولده الملك الأفضل ـ قد صدرت عنه تصرفات أثناء مرض صلاح الدِّين بحرَّان تدلُّ على رغبته في الاستبداد بالحكم في مصر؛ أرسل الفقيه عيسى الهكَّاري ، ـ وكان كبير القدر عنده مطاعاً في الجند ـ إلى مصر ، وأمره بإخراج تقي الدِّين منها ، والمقام بمصر. فأسرع الفقيه عيسى بتلبية الأمر ، وتوجَّه إلى مصر ، ونفَّذ ما أُمِر به ، وظلَّ بها حتى يصل العادل أخو صلاح الدين إليها ، وبصحبته ولده العزيز عثمان بن صلاح الدين.
وهذا يدلُّ على الثقة الكبيرة التي أولاها صلاح الدين للفقيه عيسى الهكَّاري ، وأطمئنانه إليه؛ خاصَّةً وأنه يعلم مدى تأثيير الهكَّاري في جند مصر.
6 ـ شجاعته في الحروب ضد الصَّليبيين:
بعد أن استتب الأمر لصلاح الدين ، وبدأ جهاده في جبهة الشام يشاركه الكثير من المتطوِّعين من الفقهاء ، والعلماء ، وفي مقدِّمتهم الفقيه عيسى الهكَّاري ، الذي يشاركه في جهاده ضدَّ الصليبييين مشاركةً فعليةً ، وحمل السِّلاح ، وقاتل في المعارك مجاهداً في سبيل الله ، وكان يلبس زي الأجناد بعمائم الفقهاء ، فيجمع بين اللِّباسين، وقد أثبتت المصادر الإسلامية هذه المشاركة الفعلية؛ التي قام بها هذا الفقيه في الجهاد ، فعندما خرج مع صلاح الدين في سنة 573هـ/1177م لمحاربة الصليبيين في عسقلان؛ قام بالإغارة عليها ، فقتل الكثير من الصليبيين ، وأسر الكثير ، وأحرق ما حولها ، ثمَّ واصل صلاح الدين بمن معه إلى الرَّملة ، فسبى ، وغنم ، ولكن لما تشاغل الجيش بالغنائم ، وتفرقوا في القرى ، والمناطق التي حولها ، وبقي صلاح الدين في طائفة قليلة من جنده؛ قام الصليبيين فجأةً بالهجوم عليهم ، فارتبك المسلمون ، وأخذوا يقاتلون الصليبيين؛ ولكن حلت بهم الهزيمة ، وقُتِل منهم أعدادٌ كثيرةٌ ، وأُسر الكثير منهم ، وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكَّاري ، وأخوه ظهير الدين ممَّن وقعوا في الأسر ، ويذكر ابن الأثير في هذا المجال: أنَّ الفقيه عيسى الهكاري كان أشد الناس قتالاً في ذلك اليوم.
وممَّا يدلُّ على المكانة العظيمة التي كانت للفقيه عيسى الهكَّاري عند صلاح الدين الأيوبي هو ما ذكره المؤرخون من أنَّ صلاح الدين افتداه من الأسر بعد سنتين بمبلغ ستين ألف دينار ، ويضيف المؤرِّخون بأنَّ صلاح الدين لم يقتصر في فك أسر الفقيه الهكاري على فدائه بالأموال فقط ، بل أطلق كثيراً من أفراد جماعة الدَّاوية، ممَّن كانوا عنده في الأسر ، وهذا يدلُّ على عظم ، وقدر الفقيه الهكاري لدى صلاح الدين الأيوبي. هذا؛ وقد توفي الفقيه عيسى سنة 585هـ.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: