في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
مكانة العماد الأصفهاني ودوره في الدولة الأيوبية:
الحلقة: الخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليوز 2020
القاضي الإمام ، العلاَّمة المفتي ، المنشئ ، والوزير: عماد الدين ، أبو عبد الله محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الأصفهاني الكاتب ، يعرف بابن أخي العزيز ، قدم بغداد ، فنزل بالنظامية ، وبرع في الفقه على أبي منصور سعيد ابن الرَّزاز ، واتقن العربية ، والخلاف ، وساد في علم الترسُّل ، وصنَّف التصانيف ، واشتهر ذكره ، واتَّصل بابن هبيرة ، ثم تحوَّل إلى دمشق سنة اثنتين وستِّين ، واتَّصل بالدولة ، وخدم بالإنشاء الملك نور الدِّين، وكان يُنشيءُ بالفارسية أيضاً ، فنفَّذه نور الدين رسولاً إلى المستنجد ، وولاَّه تدريس العمادية سنة سبع وستين ، ثم رتَّبه في إشراف الدِّيوان ، فلمَّا توفي نور الدين أُهمِل ، فقصد الموصل ، ومرض ، ثم عاد إلى حلب ، وصلاح الدين محاصرٌ لها سنة سبعين ، فمدحه ، ولزم ركابه ، فاستكتبه ، وقرَّبه ، فكان القاضي الفاضل ينقطع بمصر لمهمَّات ، فيسدُّ العماد في الخدمة مَسَدَّه، وصار العماد معاون القاضي الفاضل في كلِّ الأمور ، واستعاد مقامه القديم ، وصار كاتب سرِّ صلاح الدين ، واسكتبه صلاح الدين ، ووثق به ، وقرَّبه إليه وصار من خاصته ، ويصرِّف الأمور ، ويقسم الأموال الَّتي سلَّمها إليه السُّلطان ، ويوقِّع على ما يوقِّع عليه دون مراجعةٍ، ويقضي حاجات من يلجأ إليه من الناس ، ويزاحم الوزراء ، وأعيان الدولة؛ وإن لم يصل إلى نفس المكانة العالية؛ التي كانت للفاضل في نفس صلاح الدين. وقد لزم العماد صلاح الدين بعد هذا أكثر من القاضي الفاضل؛ الذي كان يتخلَّف عن السلطان كثيراً ، ويقيم في القاهرة ، ودمشق؛ ليشتغل بالأعمال السُّلطانية... وأنشأ في عهد صلاح الدين الرَّسائل ، والمناشير ، والتبشيرات الكثيرة ، ودخل مجالس المشورة.
ولما مات السلطان صلاح الدين سنة 589هـ أفل نجم العماد ، فاختلت أحواله ، وساءت أموره ، ولم يعامله أولاد صلاح الدِّين معاملة أبيهم له ، وأقصوه عن مركزه ، وفي ذلك يقول العماد في مقدمة البرق الشامي: ولما نقله الله الكريم إلى جناب جنانه؛ اقتسم أولاده ممالكه؛ وقلت: سلكوا مسالكه ، ونسكوا مناسكه ، وإنهم يعرفون مقداري ، ويرفعون مناري ، ويشرحون صدري ، ولا يضعون قدري ، فأخلف الظنُّ ، حتى قطعوا رسومي ، ومنعوا مرسومي ، وغوَّروا منابعي ، وكدروا مشاعري.
وبعد موت صلاح الدِّين لا يذكر المؤلفون الذين ترجموا للعماد شيئاً من أخباره ، فيقول ياقوت: إنه لزم بيته ، وأقبل على التصنيف ، والإفادة. كما يذكر ابن خلكان: أنه لزم بيته ، وأقبل على الإشتغال ، والتصانيف. ويبدو: أنَّ العماد عاد بعد هذه الفترة إلى الدرس ، والتأليف ، ويتَّضح ذلك من رسالة بعث له بها القاضي الفاضل من مصر سنة 595هـ يشكو فيها حياة العزلة في مصر ، ويعدُّ مقدرة العماد على الإنكباب على الدرس ، والتأليف نعمةً يتعيَّن شكرها ، فيقول: وأنا على ما يعلمه المولى من العزلة؛ إلا أنها بلا سكون ، وفي الزاوية المسنونة لأهل العافية في الزمان المجنون ، ونحن على انتظار البرق الشامي أن يمطر، وحاشا ذمة الوعد به أن تخفر، واشتغال سيدنا في هذا الوقت بالدرس ، والتدريس ، والتصوير ، والتكييف ، والتصانيف؛ التي تصرف فيها بالبلاغة أحسن التصاريف نعمةٌ يتعيَّن شكرها على العلماء ، ويختص باللَّذة بها سادتهم من الفقهاء.
ومما قاله من شعر:
وللناس بالملك الناصر الصَّلاح
هو الشمَّسُ وأفلاكُهُ في البلاد
إذا ما سَطَا أو حبا واحتبى
صلاحٌ ونصرٌ كبيرُ
ومطلَعُه سَرْجُهُ والسَّرير
فما اللَّيثُ؟ مَنْ حاتم؟ ما ثَبِيْر؟
وارتحل في موكبٍ ، فقال في القاضي الفاضل:
أمَّا الغَارُ فإنَّه
فالجوُّ منه مُظِلمٌ
يا دهرُ لي عبد الرَّحيم
مِمَّا أَثَارَتْه السَّنَابِك
لَكِنْ تباشيرُ السَّنَابِك
فَلَسْتُ أخشى مَسَّ نابك
وقد توفي العماد في الإثنين مستهلَّ شهر رمضان سنة 597هـ/5 حزيران 1121م ، ودفن في مقابر الصُّوفية خارج باب النصر.
ثامناً: الخَبُوشاني:
الفقيه الكبير ، الزاهد ، نجم الدين أبو البركات محمد بن موفَّق بن سعيد الخُبُوشاني ، الشَّافعي ، الصوفي ، تفقَّه على محمد بن يحيى ، وبرع ، وكان يستحضر كتابه المحيط وهو ستة عشر مجلداً ، وأصله من نيسابور ، وكان السلطان صلاح الدين يُقَرِّبُهُ ، ويعتقد فيه ، وقد اشتهر بالفضل والدِّيانة ، وسلامة الباطن ، وكان متقشِّفاً في العيش ، صلباً في الدِّين ، وكان يقول ـ قبل نزوله إلى مصر ـ أصعد إلى مصر ، وأزيل ملك بني عُبيد اليهودي. فنزل بالقاهرة ، وصرَّح بمثالب أهل القصر ، وجعل سَبَّهم تسبيَحَهُ ، فحاروا فيه ، فنفذوا إليه بمالٍ عظيم ، قيل: أربعة الاف دينار ، فقال للرسول: ويلك! ما هذه البدعة؟ فأعجله ، فرمى الذَّهب بين يديه ، فضربه ، وصارت عمامته حِلَقَاً ، وأنزله من السلم.
وعندما نزل مصر عام خمس وستين وخمسمئة ، نزل ببعض مساجدها ، فأتَّفق: أنَّ الخليفة العاضد لدين الله رأى في منامه أنه بمدينة مصر ، وقد خرج إليه عقربٌ من مسجد معروف ، بها ، فلدغه ، فانتبه مذعوراً ، واستدعى عابر الرؤيا ، وقصَّ عليه ما رأى ، فقال: ينال أمير المؤمنين مكروهٌ من شخص مقيم بهذا المسجد ، فألزم الوالي بإحضار مَنْ في المسجد ، فمضى إليه ، وأحضر منه رجلاً صوفياً: فسأله العاضد من أين هو؟ ومتى قدم مصر؟ وفي أي شيء جاء؟ فأجابه عن ذلك ، ولم يظهر للعاضد ما يريبه ، بل تبيَّن منه ضعف الحال مع الصدق ، فدفع إليه مالاً. وقال له: يا شيخ أدع لنا ، وخلاَّه لسبيله ، فعاد إلى مسجده ، ولم يزل به؛ حتَّى قدم شيركوه من دمشق ، وقام في وزارة العاضد السُّلطان صلاح الدين يوسف بن ايوب ، وشرع في إزالة الدَّولة ، فاستفتى فقهاء مصر ، فكان أشدَّهم مبالغة في الفُتيا ، وعدَّد مساوىء القوم ، وسلب عنهم الإيمان ، وأطال القول في الحطِّ عليهم.
وكان يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر، فقد جاءه حاجب نائب مصر المظفَّر تقي الدين عمر ، وقال له: تقيُّ الدين يُسلِّمُ عليك. فقال الخُبوشاني: قل: بل شَقِيُّ الدين ، لا سَلمَّ الله عليه! قال: إنَّه يعتذر ، ويقول: ليس له موضعٌ لبيع المِزْرِ. قال: يكذب. قال: إن كان ثَمَّ مكان؛ فأرناه قال: ادْنُ. فدنا ، فأمسك بشعره ، وجعل يلطم على رأسه ، ويقول: لستُ مزَّاراً ، فأعرفَ مواضع المِزْر. فَخَلَّصوه منه. وعاش عمره لم يأخذ درهماً لِمَلِكٍ ، ولا من وقْفٍ ، ودفن في الكساء الذي صحبه من بلده ، وكان يأكل من تاجرٍ صَحِبَهُ من بلده. هذا؛ وقد مات الخَبُوشانيُّ في ذي القعدة سنة سبعٍ وثمانين وخمسمئة.
فهذه التراجم لسير بعض العلماء في عهد صلاح الدين ، وكانت مكانةُ هؤلاء العلماء ، والفقهاء عند صلاح الدين بالغة الرفعة ، ونالوا حظاً وافراً عنده ، فكان مجلسه حافلاً بأهل العلم ، والفضل ، ويذكر العماد في هذا الشأن: أنَّه كان: يؤثر سماع الحديث بالأسانيد ، وتكلَّم العلماء عنده بالعلم الشرعي المفيد ، وكان لمداومة الكلام مع الفقهاء ، ومشاركة القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية ، والأسباب المرضيَّة ، والأدلة المرعيَّة.
كما يذكر ابن شداد عنه: ومتى سمع عن شيخ ذي روايةٍ عاليةٍ ، وسماع كثيرٍ ، فإن كان ممَّن يحضر عنده ، استحضره ، وسمع عليه ، فأسمع مَنْ يحضره في ذلك المكان من أولاده ، ومماليكه المختصِّين به... وإن كان ذلك الشيخ ممَّن لا يطرق أبواب السلاطين، ويتجافى عن الحضور في مجالسهم ، ويسعى إليه ، وسمع عليه. وقد كانت علاقة صلاح الدين بالإمام قطب الدين النيسابوري علاقةً وطيدةً؛ لأنَّه كان دائم المناقشة ، والبحث مع مشايخ أهل العلم ، وأكابر الفقهاء فيما يحتاج إلى تفهمُّه.
وخلاصة القول: إنَّ العلماء ، والفقهاء كانوا يحتلُّون مكانةً عظيمةً ، وحظوةً كبيرةً عند صلاح الدين ، ونالوا منه كلَّ عطف ، ورعاية ، واحترام ، وتقدير من الناحيتين: المادية ، والمعنوية ، وكانت آراؤهم موضع اعتبارٍ ، وتقديرٍ من هؤلاء الملوك ، واستشارتهم واجبةٌ في كلِّ الأمور الشرعية؛ الَّتي تمسُّ كلَّ نواحي الحياة في الدَّولة ، بل أصبح لهؤلاء العلماء ، والفقهاء السيطرة الروحية على أذهان الناس ، وبلغت مكانتهم حداً كبيراً من الرفعة لدرجة أنَّهم أَثَّروا تأثيراً بالغاً في الشعوب ، والحكومات ، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ الحكومات قد أسلمت زمام الدفاع ، والقتال لرجال العلم ، والفقه ، أمثال الفقيه عيسى الهكَّاري؛ الذي أجاد ، وبرع في الناحيتين الدينية ، والحربية في عصر صلاح الدين.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: