الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

في سيرة صلاح الدين الايوبي:
جوانب من مظاهر الإصلاح الاقتصادي في عهد صلاح الدين
الحلقة: الحادية و الخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليوز 2020


كانت الدولة في عهد صلاح الدين تعيش في سعةٍ من الرزق ، وبحبوحة من العيش ، وذلك لأنَّ مواردها كثيرةٌ ، ومنابع الأرزاق فيها متنوعةٌ ، ويمكن أن نحصر هذه الموارد:
*وضع يده على كنوز الفاطميين الكثيرة بعد أن أصبحت مصر تحت سلطانه.
* موارد الجزية التي كانت تأتيه من غير المسلمين.
* موارد للفدية التي كانت تصله من الأسرى.
*موارد الغنائم التي كان يحصل عليها أثناء الحروب.
*موارد الخراج الذي كان يؤخذ من أصحاب الأراضي؛ التي فتحت صلحاً ، إلى غير ذلك من هذه الموارد المشروعة ، ومنابع الثروة المسنونة ، ولم يكن صلاح الدين من السَّلاطين؛ الذين ينفقون الأموال في غير وجهها ، ويضعونها في غير موضعها ، وإنما كان ينفقها في سبيل الله ، وإقامة الحصون ، وتشييد القلاع ، والإصلاح العمراني، وفي كلِّ ما يعود على الدَّولة بالنفع.
أولاً: اهتمامه بالزِّراعة والتجارة:
لأجل أن يجنِّب صلاح الدين البلاد ويلات المجاعات؛ التي تسببها الحروب اعتنى بالزراعة ، ووسائل الري اعتناءً بالغاً؛ لتنبت الأرض أطيب الثمرات ، وتنتج من كلِّ زوج بهيج ، وقد تعاونت مصر ، والشام في تبادل المحاصيل الزراعية ، وتعزيز المصالح الاقتصادية ، وتموين الجيوش بالثروات اللاَّزمة ، ووقف الإقليمان جنباً إلى جنب أمام اعتداءات الفرنج الغادرة ، وتزويد الجيش الإسلامي بكلِّ ما يلزم من مواد غذائية ، وعتاد ، كما عني صلاح الدين بالتجارة عنايةً كبيرةً ، فكانت مصر في عهدة حلقة الاتصال بين الشَّرق ، والغرب. وقد انتعشت مدنٌ أوربيةٌ كثيرةٌ بسبب هذه التجارة ، مثل مدينة «البندقية ، وبيزا» الإيطاليتين ، وقد سمح للبنادقة فيما بعد بتأسيس سوق تجارية في الإسكندرية ، كان يطلق عليه «سوق الأيك» وأولى صلاح الدين الأسواق التجارية كل اعتنائه ، واهتمامه؛ حتى يزدهر الاقتصاد ، ويزداد الإنتاج في دولته ، فكثر عددها في مصر ، والشام ، واهتمَّ بإصلاحاتها ، وتوسيعها ، ومرَّ الرحالة «ابن جبير» ببعض هذه الأسواق في رحلته أيام صلاح الدِّين سنة 578هـ فسجل إعجابه بنظامها ، فقال: في معرض الحديث عن مدينة حلب: أما البلد فموضوعه ضخم جداً ، جميل التركيب ، بديع الحسن ، واسع الأسواق ، كبيرها ، متصلة بالانتظام ، مستطيلة ، تخرج من سماط صنعةٍ إلى سماط صنعةٍ أخرى إلى أن تفرغ من جميع الصِّناعات المدنيَّة ، وكلَّها مسقَّف بالخشب ، فسكانها في ظلالٍ وارفة ، فكلُّ سوق منها تقيِّد الأبصار ، وتستوقف المستوفز تعجباً ، وأكثر حوانيتها من الخشب البديع الصنعة.
كما وصف «ناصر خسرو» في كتبه «سفر نامه» مدينة طرابلس الشام في عهد صلاح الدين ، فقال: إنها بلد جميل ، حوله المزارع ، والبساتين ، وكثير من قصب السكر ، وأشجار النارنج ، والموز ، والليمون ، وبها مغازل ذات أربع طبقات ، أو خمس ، أو ست ، وشوارعها ، وأسواقها جميلةٌ نظيفة؛ حتى لتظنَّ: أنَّ كل سوق قصر مزيَّن ، وفي وسط المدينة جامعٌ عظيم ، نظيفٌ جميل النقش حصين ، وفي ساحته قبَّةٌ كبيرة تحتها حوضٌ من الرُّخام، في وطسه فوارة من النحاس ، الأصفر ، وفي السُّوق مشرعةٌ ذات خمسة صنابير ، يخرج منها ماءٌ كثير ، يأخذ منه الناس حاجتهم.
ثانياً: اهتمامه بالصناعات:
اهتمَّ صلاح الدين بصناعة السِّلاح ، والمنسوجات ، والأقمشة ، والملابس الحريرية المزركشة ، وسروج الخيل المطهمة ، وصناعة الزجاج ، كما انتشرت في عهده صناعة الخزف ، والسفن ، والأساطيل إلى غير ذلك مما يزهر الاقتصاد ، ويضاعف الإنتاج ، ويمكِّن للدولة أسباب القوة. ولقد كان أصحاب الحرف ، والصنَّاع في عهد الدولة الأيوبية من أكثر الناس وفاءً لتقاليدهم الموروثة ، فقد بقيت طوائف العمال ، والحرف تسير على نفس النُّظم ، والطرق الصناعية التي كان مستعملةً في العهود التي سبقتها ، وكان الصنَّاع ينتظمون في نقاباتٍ تحمي حقوقهم ، وتشرف على تأدية واجباتهم على الوجه الأكمل ، بحيث كان لها نظمها ، وتقاليدها؛ التي يحترمها الجميع ، وتؤيِّدها الدولة بنفوذها. وكان من تقاليد نقابات ، وطوائف الحرف ، والصنَّاع الحفاظ على أسرار تلك الحرف ، وقصرها على أفرادها ، وأسرهم. ولعلَّ هذا يفسِّر لنا ما شاع من تخصُّص بعض الأسر في حرفةٍ واحدةٍ يتوارثها الأبناء عن الاباء ، فضلاً عن صعوبة دخول الغرباء على الطائفة في صفوفها.
ومن أشهر مراكز الصناعة في العصر الأيوبي:
1 ـ مدينة القاهرة:
لم يكن القصد من بناء مدينة القاهرة أن تكون عاصمة للدولة ، وبيتاً لكل سكان مصر ، بل قصد أن تكون مسكناً خاصاً للخليفة ، وحرمه ، وجنده ، وخواصِّه بعيداً عن مصر الفسطاط ، وامتدادها ، وقد أصبحت القاهرة بعد قرنٍ واحد على الأكثر مركزاً عمرانيَّاً هامَّاً سرعان ما أُسِّست فيه حياة مجتمعٍ ما بكلِّ طبقاته ، ومتطلباته ، فانتشرت في أرجائه أنشطةٌ حرفيةٌ ، وصناعيةٌ مختلفة ، راجت رواجاً كبيراً خلال العصر الأيوبي. ومن الواضح: أنَّ أسواق القاهرة قد ازدهرت في عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي؛ حيث تعرَّضت المدينة لمتغيرات اقتصادية ، واجتماعية ترتب عنها زيادةٌ في الطلب عن منتجات الأسواق بشكلٍ عام ، كما أنَّ هذه التطورات هي التي أوجدت أغلب المتغيرات؛ التي شهدتها أسواق المدينة في تلك الأثناء.
ومن أبرز هذه المتغيِّرات ظهور التخصُّص في الأسواق ، أي: أن يكون لكلِّ نوعٍ من أنواع السلع سوقاً متخصِّصةً بها ، وهو إجراء تنظيمي بدئ باتخاذه منذ عهد صلاح الدين الأيوبي؛ حيث يلاحظ: أنَّ غالبية الأسواق الرئيسية؛ التي ظهرت في العصر الأيوبي كانت متخصِّصة ببيع فئةٍ واحدةٍ من السِّلع ، والبضائع ، وهذه ظاهرةٌ لم تكن معروفةً قبل العصر الأيوبي. ومنها أسواق تباع فيها الثياب المخيطة ، والفرش ، ونحو ذلك ، كما أن سوق الجملون الكبير قد أنشء في عهد صلاح الدين ، كان هذا السوق مخصصاً ببيع الأقمشة الحريرية ، كما اختصت بعض الأسواق ببيع جهاز العروس ، وأساورهنَّ ، وأيضاً ظهر سوق بين القصرين الذي كان يوجد به سوقاً للسِّلاح ، والقسي ، والنشاب ، والزرديَّات وغير ذلك مما يحتاجه الحند من أنواع الأسلحة المختلفة. كما ظهرت أسواقٌ أخرى مثل الشرابِشيين ، والخوائصيين؛ حيث كانت تباع في هذين السوقين ملابس الأجناد ، وأزيائهم علاوةً على الخلع التي يلبسها السُّلطان للأمراء ، والوزراء ، والقضاة.
وقد حدث انتقال بعض الأسواق ، والصناعات من الفسطاط إلى القاهرة ، وكانت هذه الظاهرة طبيعيةً لإباحة القاهرة لسكنى العامة ، والجمهور في عهد صلاح الدين؛ حيث سيجد العديد من التجار ، والصناع في ذلك فرصة للانتقال للقاهرة لممارسة نشاطهم بالقرب من رجال الدولة ، وأمرائها بعد تخلص الدولة من الجهاز الصناعي؛ الذي كان قائماً في الحاصلات في العصر الفاطمي ، وأدَّى إلى تحوُّل عددٍ كبير من هؤلاء الصنَّاع إلى الأسواق المختلفة للعمل فيها ، ممَّا أسهم على وجه التأكيد في زيادة النشاط الصناعي ، وتطوره في القاهرة ، والذي ساهم بدوره في ازدهار التجارة القائمة على الصِّناعات في عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي.
2 ـ مدينة الفسطاط:
يمكن القول: إنَّ الحريق الذي قام به شاور عام 564هـ كاد أن يأتي على الفسطاط نهائياً؛ لولا أن تداركتها عناية بني أيوب ، فمنذ أن ولي أسد الدين شيركوه الوزارة؛ أظهر الحرص على إعادة عمارتها ، ثم واصل المهمة من بعده ابن أخيه صلاح الدين؛ الذي وجَّه اهتماماً كبيراً نحو الفسطاط ، فقام بإصلاح جوامعها ، ومنشاتها الرئيسية ، وبنى بها المدارس ، وتوَّج أعماله هذه بضمِّها مع القاهرة في سورٍ واحدٍ يضمن من خلاله توفير الحماية لهما ، وترتَّب على هذا الاهتمام أن أخذ العمران يعود إلى المدينة بشكل تدريجيٍّ ، وكانت فرصة البناء بالفسطاط مواتيةً منذ عهد الناصر صلاح الدين؛ حيث جرى إنشاء المباني ، والأسواق ، والمصانع في هذه المنطقة. وسميت مصانع الفسطاط بـ: «المسابك» فقيل: «مسابك النحاس» «ومسابك الفولاذ» ونحو ذلك ، والذي لا شكَّ فيه: أنَّ المسابك كانت قائمةً بالفسطاط ، وتنتج الخامات المعدنية المصهورة ، والمسبوكة ، وما كان صناع المعادن في مصر في حاجةٍ إليه لعمل العديد من الأسلحة ، والالات الحربية؛ علاوةً على الأدوات المنزلية ، والتحف المختلفة.
3 ـ تنيس:
تعتبر تنيس من أهمِّ المراكز الصناعية للمنسوجات في العصر الأيوبي ، فقد أطنب كثير من المؤرخين ، والرَّحالة في صناعة منسوجاتها ، فكان لا ينسج مثل هذا القصب في جهة أخرى غير تنيس. ومن الجدير بالذِّكر: أنَّ مدينة تنيس بقيت عامرةً بنشاط أهلها الصناعي ، والتجاري إلى حين خرَّبها الملك الكامل محمد بن أيوب ، وهدم سورها، وبيوتها في سنة 624هـ/1226م.
4 ـ ومن المدن التي اشتهرت كمراكز صناعية في العهد الأيوبي مدينة دمياط ، وأخميم ، والإسكندرية ، وجزيرة الروضة ، ومدينة دمشق ، ومدينة حلب ، وغيرها.
ثالثاً: إلغاء المكوس والاكتفاء بالموارد الشَّرعية:
لم يكن غريباً ألا يوجد في خزانة صلاح الدين بعد وفاته سوى 46 درهماً فضةً ، وديناراً ذهبياً واحداً ، فقد كانت واردات دولته ضخمةً ، كما كانت نفقاته الحربية ضخمةً ، وكلَّما كانت البلاد التي تقع في يده تزداد؛ كانت وارداته منها ، ونفقاته من أجلها تزداد بصورةٍ مطَّردة ، وكانت قاعدته الدائمة:
1 ـ إلغاء المكوس ، والضرائب غير الشَّرعية في جميع البلاد التي فتحها.
2 ـ الاكتفاء بالموارد الشرعية من زكاةٍ ، وجزيةٍ ، وخراجٍ ، وغنائمٍ ، وعشور التجارة.
وكانت واردات مصر هي مصدره الأول؛ لأنه اعتبرها مملكته ، ولذلك ألغى ما كان يأخذ فيها من رسوم الحج على المغاربة ، وألغى المكوس على تجَّار اليمن ، والضرائب المماثلة في دمشق حين فتحها ، وفي حلب ، وسنجار ، والرقة ، وتظهر سياسته المالية في المنشور الذي نشره عند إسقاط مكوس الرقَّة: إن أشقى الأمراء مَنْ سمَّن كيسه ، وأهزل الخلق ، وأبعدهم عن الحقِّ مَنْ أخذ الباطل من الناس ، وسماه الحق ، ومن ترك لله شيئاً؛ عُوِّضه ، ومن أقرض الله قرضاً حسناً؛ وفَّاه. ولما انتهى أمرنا إلى فتح الرقَّة أشرفنا على سمنٍ يؤكل ، وظلمٍ ممَّا أمر الله به أن يقطع، فأوجبنا على أنفسنا ، وعلى كافة الولاة من قِبَلنا أن يضعوا هذه الرُّسوم بأسرها... وقد أمرنا أن تسدَّ هذه الأبواب ، وتبطل ، ويعفى خبر هذه الضرائب في الدواوين ، ويسامح بها جميع الأغنياء ، والمساكين مسامحةً مستمرة الأيام.
وهكذا كان إسقاط الضرائب التي كان يحصِّلها الصليبيون من الصَّلت ، والبلقاء ، وجبل عوف ، والسَّواد ، والجوان ، وكان الفرنج يأخذون نصف حاصلها ، وقد أعاد صلاح الدين فريضة الزَّكاة ـ التي كان الفاطميوُّن قد ألغوها ـ إيذاناً بعودة مذهب أهل السنة ، وجعلها البديل على المكوس ، والرسوم غير الشَّرعية ، واهتمَّ بجمعها ، وأقام لها ديواناً تسلَّمه «متولي الزكاة» وكانت حصيلته زهيدةً ، وكانت الزكاة تؤخذ على الذهب ، والفضة ، وعروض التجارة ، والماشية ، والمزروعات ، مع إعفاء المواد الغذائية كالسمسم ، وبذور الكتان ، والزيتون ، والخضار. وكانت ضريبة الخراج تجبى بنظامها ، وأوقاتها في مصر ، فلما اقتضى الأمر تحويل السنة الشَّمسية القطبية إلى الهجرية سنة 567هـ لأنَّ موعد الجباية صار يسبق موعد الإنتاج عدَّل صلاح الدين ذلك. وأما المناطق الأخرى في الشام ، والجزيرة؛ فكان الخراج يؤخذ على مساحة الأرض بالفدان ، وضريبة القمح ، والشعير أردبين ونصف للفدَّان الواحد ، ويجمع المنتفعون الضريبة ، ثم يسدِّدونها لديوان السلطان ، وكان على الفول ، والحِمَّص مثل ذلك. وثَمَّ ضرائب نقدية على بعض الحاصلات ، كالكروم ، وثمار الشجر ، وتتراوح بين دينار ، وخمسة على الفدَّان ، وفي السنة الثالثة لا تزيد على ثلاثة دنانير.
ويدفع أهل الذمة الجزية ، ويعفى منها الصبية ، والنساء ، والرُّهبان ، وتسمَّى ضريبة الجوالين (ج: جالية) وتختلف حسب أحوال الشخص ، من دينارٍ واحد واحد إلى (5،4) دينار ، إضافة إلى درهمين ونصف الدرهم على الجميع كلَّ لسنة.
ولما كانت المعادن ، والأخشاب لازمةً لصنع الأسلحة؛ فقد منع صلاح الدين أن يكون لأحدٍ دخلٌ فيها ، شدَّد على احتكار الدَّولة لها ، فهو في حالة حربٍ مع الفرنجة ، وعقوبةُ مَنْ يهرب بشيءٍ منها كبيرةٌ. وكانت معظم واردات الدولة تنفق على الحرب ، والحصون ، والأسوار ، والقلاع ، والمدارس ، والمساجد ، والأربطة ، وخانات في الطرق ، وزوايا ، ورواتب للعاملين في الدَّولة... إلخ.

 

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
        من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022