الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
مكانة زين الدين علي بن نجا ودوره في الدولة الأيوبية
الحلقة: التاسعة و الأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020

 

ومن المواقف الجديرة بالذِّكر التي قام بها بعض الفقهاء ، والعلماء في بداية قيام الدولة الأيوبية ما بدر منهم من حرصٍ شديدٍ سنة 569هـ/1174م على سلامة ، وأمن الدولة ، وعدم تفككها؛ حتى لا يطمع فيها أعداء الإسلام والمسلمين ، وكان ذلك عندما قامت جماعةٌ من الشيعة في مصر بمؤامرة تهدف إلى إعادة الخلافة الفاطمية بمصر بعد أن أسقطها صلاح الدين سنة 567هـ/1171م ، وكانت خطَّتهم في ذلك أن يستدعوا الصليبيين من صقلية ، وبلاد الشام إلى مصر لمساعدتهم مقابل أن يمنحوهم شيئاً من المال ، والبلاد ، ومِنْ خطَّتهم: أنَّه في الوقت الذي تصل فيه القوات الصليبية ، ويخرج صلاح الدين بقواته للقائهم يقوم المتآمرون بإشعال نيران الثورة في الدَّاخل ، فيقع السلطان بين نارين: نار ثورة بالدَّاخل ، ونار وجود الصليبيين خارج البلاد؛ الأمر الذي يعمل على تشتيت قوَّاته ، ويساعد على هزيمته أمام الصليبيين من ناحية ، وسيطرة المتآمرين على مقاليد الحكم من ناحية أخرى.
وكان على رأس هؤلاء المتآمرين من الشيعة الفقيه الشاعر عمارة بن أبي الحسن اليمني ، وعبد الصمد الكاتب ، والقاضي هبة الله ابن عبد الله العويرس ، وغيرهم من جند المصريين ، ورجالاتهم السُّودان ، وحاشية القصر ، ومعهم جماعة من أمراء صلاح الدين ، وجنده. ولا شكَّ: أنَّ هذا المخطط خيانةٌ صريحةٌ من قبل جماعة من الشيعة؛ الذين استعانوا بالصَّليبيين لقتال المسلمين من أجل تحقيق المصالح الشخصية ، ومن أجل تحطيم دولة صلاح الدين الإسلامية السنية؛ التي تجاهد ضدَّ أعداء الدين ، بل لقد بلغت هذه الخيانة حدَّاً كبيراً لدرجة أنهم يغرون الصَّليبيين بالأموال للقدوم إلى مصر بدلاً من صدِّهم ، ومحاربتهم.
وقد أراد الله أن يكشف خيوط المؤامرة على يد أحد رجال الدِّين من الفقهاء المخلصين الواعين ، والمقدِّرين للمصلحة الإسلامية ، الغيورين على تماسك وحدة الجبهة الإسلامية ، وهو ، زين الدين علي. ويذكر ابن الأثير: وكان من لطف الله بالمسلمين: أنَّ الجماعة المصرية أدخلوامعهم زين الدين علي بن نجا ، الواعظ ، والقاضي المعروف بابن نجية ، ورتبوا الخليفة ، والوزير ، والدَّاعي ، والقضاة، فلمَّا ضمُّوا إليهم القاضي ابن نجا ، وشعر بخطورة ما يدعون إليه؛ قام بإخبار صلاح الدين بكلِّ تفاصيل المؤامرة ، فطلب منه أن يظهر تعاطفه معهم ، وتوطُؤه على ما يريدون فعله ، وإخباره بما يتجدَّد من أخبار ، ففعل ذلك ، وصار يطالعه بكلِّ ما عزموا عليه.
وبناء على ذلك استطاع صلاح الدين الوقوف على تفاصيل المؤامرة ، وفي تلك الأثناء وصل رسول من ملك الفرنج بالسَّاحل بهديةٍ ، ورسالةٍ ، وهو في الظاهر إليه (أي: إلى صلاح الدين) وفي الباطن إلى أولئك الجماعة ، وكان يرسل إليهم بعض النَّصارى ، وتأتيه رسلهم ، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال ، فوضع صلاح الدِّين على الرَّسول بعض من يثق به من النَّصارى ، وداخله ، فأخبره الرَّسول بالخبر على حقيقته، وعندئذٍ تأكَّد صلاح الدين من حقيقة الأخبار التي وصلته من القاضي ابن نجا ، وتدارك الأمر قبل وقوع الكارثة ، فأمر بالقبض على هؤلاء المتامرين جميعاً ، وقضى عليهم ، وسكنت الفتنة.
ثم قرب السلطان إليه زين الدين علي بن نجا ، وأحسن إليه بالأعطيات ، والإقطاعات ، وأجمل ، وأعطاه ، وأجزل، وأتمَّ له مراده ، وأكمل ، وكان السلطان يستشيره ، ويروقه تدبيره ، ويميل إليه لقديم معرفته ، وكريم سجيته ، وكان صلاح الدين يسمي ابن نجا: عمرو بن العاص ، ويعمل برأيه لسداد رأيه ، وسعة حيلته ، وإن كثيراً من أرباب الدولة ، وأهل السنة في مصر كانوا لا يخرجون عما يراه لهم زين الدين ابن نجا ، وإن الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين قال له: إذا رأيت مصلحة في شيءٍ؛ فأكتب إليَّ بها ، فأنا ما أعمل إلا برأيك. ويذكر سبط بن الجوزي: أنَّ ابن نجا نشط في الوعظ ، والتحديث ، وأن صلاح الدين ، وأولاده كانوا يحضرون مجلسه ، ويسمعون مواعظه ، وكان له الجاه العظيم ، والحرمة الزائدة .وعندما خرج صلاح الدين لمحاربة الصليبيين في بلاد الشام؛ كان يكتب زين الدين بن نجا بوقائعه ، من ذلك: أنه عندما فتح قلعة حمص عام 570هـ  1174م كتب إليه يصف القلعة برسالة مطوَّلة.
وعندما قرّر رأي صلاح الدين على الاستقرار في بلاد الشام؛ كتب له ابن نجا عام 580هـ/1174م كتاباً يشوِّقه إلى مصر ، ونيلها ، وخيراتها ، ومساجدها ، ومشاهدها ، ثم ذكر فضيلة مصر ، واستدلَّ عليه بالايات ، والأخبار ، والاداب ، والاثار. فردَّ عليه صلاح الدين في رسالة ـ أوردها كلٌّ من سبط ابن الجوزي ، وأبو شامة ـ يخبره بأنَّ سكنى الشام أفضل ، ومناخها أجود ، وأنَّ الله أقسم بها في القران ، ويعاتبه على عدم حنينه إلى وطنه دمشق ، ويدعوه للانتقال إليها؛ إلى أن ختمها بقوله: وزين الدين وفقه الله قد تعرَّض للشام ، فلم يرض أن يكون المساوي؛ حتى شرع في ذكر المساوي ، ولعله يرجع إلى الحق ، ويعيد سعد أسعاده ، ورفاقه إلى الوفق إن شاء الله. ومهما يكن الأمر ، فقد استمرَّ ابن نجا يعمل مع صلاح الدين؛ حتى دخل معه بيت المقدس فاتحاً ، وألقى في المسجد الأقصى أول مجلس للوعظ كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى. وقد توفي أبو الحسن عليُّ بن إبراهيم بن نجا الحنبليُّ الملقَّب بزين الدين عام 599هـ.

 

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
        من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022