في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
مكانة أبو الطاهر بن عوف الإسكندراني ودوره في الدولة الأيوبية:
الحلقة: السادسة و الأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020
الشيخ الإمام ، صدر الإسلام ، شيخ المالكية ، إسماعيل مكي بن إسماعيل بن عيسى بن عوف بن يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، القرشي الزُّهري ، العوفي الإسكندريُّ المالكيُّ ، من ذرية عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، ولد سنة خمس وثمانين وأربعمئة ، وتفقه على الأستاذ أبي بكر الطرطوشي ، وبرع ، وفاق الأقران ، وتخرَّج به الأصحاب. وروى عن الطرطوشيِّ «الموطَّأ» وعن أبي عبد الله الرازيِّ ، وكان إمام عصره ، وفريد دهره في الفقه ، وعليه مدار الفتوى مع الورع ، والزَّهادة ، وكثرة العبادة ، والتواضع التام ، ونزاهة النفس. وقد شهد أبو الطاهر بن عوف نهاية الدولة الفاطمية الشيعية ، وقيام الدولة الأيوبية ، وقد زار صلاح الدين الإسكندرية في سنة 577 ، وحرص في هذه الزيارة أن يحضر هو ، وأولاده ، وكبار دولته دروس أبي الطاهر بن عوف ، وسمعوا عليه جميعاً «موطَّأ مالك» بروايته عن استاذه الطَّرطوشي.
روى خبر هذه الزيارة ، وهذا السَّماع العماد الأصفهاني ، فقد كان مصاحباً لصلاح الدين فيهما ، قال: وتوجَّه السلطان بعد شهر رمضان (577هـ) إلى الإسكندرية على طريق البحيرة ، وخيَّم عند السواري ، وشاهد الأسوار التي جدَّدها ، والعمارات التي مهَّدها ، وأمر بالإتمام ، والاهتمام ، وقال السلطان: نغتنم حياة الشيخ أبي طاهر بن عوف. فحضرنا عنده ، وسمعنا عليه موطَّأ مالك ـ رضي الله عنه ـ بروايته عن الطرطوشي في العشر الأخير من شوال ، وتَّم له ، ولأولاده ، ولنا به السَّماعواعتقد الجميع: أنَّ صلاح الدين قد حصَّل خيراً كثيراً بتتلمذه على ابن عوف ، وسماعه منه ، فقد أرسل القاضي الفاضل عبد الرَّحيم بن علي البيساني رسالةً جميلةً بليغةً إلى صلاح الدين يهنئه فيها بهذا السَّماع ، ويقارن فيها بين رحلة صلاح الدين مع ولديه لسماع الموطأ على ابن عوف ، ورحلة هارون الرشيد مع ولديه لسماع نفس الكتاب على مؤلفه الإمام مالك. وفيما يلي نصُّ الرسالة:
أدام الله دولة المولى الملك الناصر ، صلاح الدنيا ، والدين ، سلطان الإسلام ، والمسلمين محيي دولة أمير المؤمنين ، وأسعد برحلته للعلم ، وأثابه عليها ، وأوصل ذخائر الخير إليه ، وأوزع الخلق شكراً لنعمته فيه ، فإنها نعمة لا توصُّل إلى شكرها إلا بإيزاعه ، وأودع قلبه نور اليقين ، فإنَّه مستقر لا يودع فيه إلا ما كان مستنداً إلى إيداعه ، ولله في الله تعالى يحقق الخير ، ويصرف الضير ، ويبارك لمولانا في المقام ، والسير؛ إن شاء الله.
وأصبحت لابن عوف عند صلاح الدين منذ ذلك الحين مكانةٌ كبيرةٌ ، يجلُّه ، ويحترمه ، ويقدِّره ، ويوقِّره ، وإذا اعترضته مشكلةٌ في الدين ، أو الدولة ، أرسل إليه يسأله الرأي ، والفتوى ، ويؤكد هذا قول ابن فرحون: وكان السُّلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يعظِّم ابن عوف ، ويراسله ، ويستفتيه. وقد روى الصَّفديُّ في كتابه «نكت الهميان» قصة مراسلةٍ من هذه المراسلات عند ترجمته للقاضي شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون ، فقد أضرَّ هذا القاضي اخر عمره أثناء توليه القضاء ، وثار الجدل حول جواز بقائه في منصبه بعد إصابته بالعمى ، وكان ابن أبي عصرون نفسه حريصاً على أن يظلَّ قاضياً ، فألَّف رسالة أيَّد فيها جواز أن يكون القاضي أعمى ، وهو رأيٌ تقول به القلَّة من الفقهاء، وترفضه الكثرة، ويبدو أن صلاح الدين كان حريصاً على إرضاء ابن أبي عصرون وعدم المساس بشعوره في شيخوخته ، فأرسل يستفتي ابن عوف في الأمر.
قال الصفدي: وكتب السلطان صلاح الدين بخطِّه إلى القاضي الفاضل يقول فيه: إنَّ القاضي قال: إن قضاء الأعمى جائزٌ ، فتجتمع بالشيخ أبي الطاهر بن عوف الإسكندري ، وتسأله عمَّا ورد من الأحاديث في قضاء الأعمى.
وكان صلاح الدين يستجيب لرأي ابن عوف ، ومشورته ، فقد أسرع بتلبية رغبته عندما أشار عليه بإعادة ضريبة الصَّادر ، وهي ضريبةٌ كانت تفرض على تجارة الفرنج الصَّادرة من الإسكندرية ، وتوزَّع حصيلتُها على فقهاء الثغر. وقد أشارت المراجع إلى أن نشاط ابن عوف لم يكن مقصوراً على التدريس وحسب ، بل كان له نشاط مماثل في ميدان التأليف ، فقد قال السيوطي: وله مؤلفات، وللشيخ أبي الطاهر: تذكرة التذكرة في أصول الدين، وغير ذلك من التأليف. وفي سنة 581هـ توفي ابن عوف ، ودفن في الإسكندرية ، وله ستٌّ وتسعون سنة.
إنَّ ما قام به أبو الطاهر السِّلفي ، وأبو الطاهر بن عوف من طلب العلم ، ونشره بين الناس ، والعمل على أحياء المذهب السني من أعظم الجهاد ، فإنَّ الاشتغال بطلب العلم ، وتعليمه من أعظم الجهاد لمن صحَّت نِيَّتُه ، ولا يوازنه عملٌ من الأعمال لما فيه من إحياء العلم ، والدين ، وإرشاد الجاهلين ، والدَّعوة إلى الخير ، والنهي عن الشرِّ، والخير الكثير الذي لا يستغني العباد عنه.
فالعلم عبادةٌ تجمع عدَّة قربات: التقرب إلى الله بالاشتغال به ، فإنَّ أكثر الأئمة نصُّواً على تفضيله على أمهات العبادات؛ وذلك في أوقاته الزَّاهرة بالعلم؛ فكيف بهذه الأوقات التي تلاشى بها ، وكاد أن يضمحل؟! والاستكثار من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم وأن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ، ونفعه واصلٌ لصاحبه ، ومتعدٍّ إلى غيره ، ونافع لصاحبه حيَّاً وميتاً ، وإذا انقطعت الأعمال بالموت ، وطويت صفحة العبد ، فأهل العلم حسناتُهم تتزايد كلَّما انْتُفِع بإرشادهم ، واهتُديِ بأقوالهم. فحقيقٌ بالعاقل الموفَّق أن ينفق فيه نفائس أوقاته ، وجوهر عمره ، وأن يَعُدَّه ليوم فقره ، وفاقته.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: