الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
البريد والاستخبارات زمن صلاح الدين:
الحلقة: الحادية و الستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020


أ ـ تنظيم أمور البريد:كان تنظيم أمور البريد يجري بواسطة ديوانٍ خُصِّص لهذا الغرض ، سمِّي بديوان البريد ، وضع تحت إشراف بعض الموظفين ، وكلت إليهم إدارة شؤون هذه المؤسسة ، وكانت مؤسسة البريد ، والاستخبارات الأيوبية قد اشتهرت بالتفوُّق الدَّائم على ما كان عند الصليبيين,  ففي وقعة الرَّملة؛ التي حدثت سنة 573هـ/1177م بجنوبي فلسطين ، والتي انتهت بهزيمة الجيش الأيوبي ، أثبتت أحداثها اللاَّحقة: أنَّ صلاح الدين يملك بريداً فعَّالاً ، استطاع بسرعةِ تحرُّكه أن يقضي على الشائعات؛ التي انتشرت في مصر ، والتي أفادت بمقتل صلاح الدين ، وقضت سرعة هذا البريد على طموح الرِّجال؛ الذين مدُّوا أعناقهم للانقضاض على الحكم الأيوبي في مصر ، وكان ذلك حين أرسل صلاح الدين من الحدود المصرية رسله على الهجن إلى القاهرة؛ ليؤكِّدوا لكلِّ من سَوَّلت له نفسه التمرُّد على حكمه: أنه ما زال على قيد الحياة ، وحمل الحمام الزَّاجل بطائق البشري بعودته إلى القاهرة.
وفي سنة 578هـ/1182م ، وحين كان صلاح الدين في مصر قام بغارة على الكرك ، وضرب حصاراً عليها لمدة عشرة أيام ، ولمَّا رأى قلَّة أزواد جيشه؛ أمر بالرَّحيل ، والعودة إلى مصر. ويقول المؤرخ الأيوبي محمد بن تقي الدين عمر الذي كان مع الرَّكب السلطاني: بينما نحن سائرون؛ إذ أتاه نجابون يبشرونه بنصرة عمَّيْ عز الدين فرخشاه في غزوة دبورية. وكانت مخابرات صلاح الدِّين من الدقَّة ، والسُّرعة حتى أنَّ: أخبار العدو كانت تتواصل إليه ساعةً.
فساعةً إلى الصُّبح ، لاسيما خلال حصار عكَّا. وكانت استخباراته تضمُّ بعضاً من الصليبيين ، الذين أستأمنهم السُّلطان في مناسبات مختلفة,  وتكمن أهمية هؤلاء: أنهم كانوا يعرفون لغة العدو ، ولا يشك بهم: أنهم رجال صلاح الدين بسبب من سحنتهم ، ومظهرهم الخارجي ، فكانوا يزودون الجيش الأيوبي بأخبار العدو؛ التي يصعب الحصول عليها عن طريق رجال استخباراته المسلمين ، فذات مرة أخبروا صلاح الدين ما ينوي العدو القيام به من كبس العسكر الإسلامي ليلاً ، وأخبروه عن المنجنيق الصَّليبي الهائل ، الذي أنفقوا عليه ألفاً وخمسمئة دينارٍ ، والذي أعدُّوه للهجوم على عكَّا. وكذلك زودوا صلاح الدين بأخبار الحملة الألمانية.
وقد استعمل في البريد في حصار عكا كافة السبل للاتصال بالمحاربين المحاصرين للاطلاع على أوضاعهم الصعبة ، وكذلك لإرسال المال اللازم إليهم ، فكان يتَّصل بهم بواسطة الحمام الطائر ، والسبَّاحين.
ولعلَّ من أشهر قصص البطولة في البريد الأيوبي قصَّة العوَّام عيسى ، فقد اعتاد هذا الرجل الدخول إلى عكَّا ، رغم الحصار البحري ، ومعه توجيهات السُّلطان في كتب يشدُّها على وسطه مع مبلغ من المال. ولدى وصوله إلى عكَّا كانوا يطلقون طائراً لإعلام السُّلطان بسلامة وصوله إلى المدينة ، وذات ليلة نزل إلى البحر وشدَّ على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار مع كتبٍ للعسكر ، إلا أنَّه لم يستطع الوصول ، فغرق في ساحل عكا ، وعرفوا: أنَّ مكروهاً حدث له ، حال دون إطلاق الطائر ، وبعد أيام عثروا على جثته وعلى وسطه قطع الذهب ، وشمع الكتب. ويعلق ابن شدَّاد على ذلك بقوله: فما رؤي مَنْ أدَّى الأمانة في حياته ، وقد أدَّاها بعد وفاته إلا هذا الرَّجل.
ب ـ اليزك «فرق الاستكشاف»: لفظ اليزك فارسي ، معناه: «طلائع الجيش» واليزك: هم جماعة الاستكشاف؛ التي ترسل إلى جبهة العدو قبل توجه الجيش نحوه ، والمهمَّة التي يقوم بها محاربو اليزك كانت جزءاً من نظام الاستخبارات ، وإيصال المعلومات العسكرية الانية إلى قيادة الجيش بالسرعة الممكنة ، إذاً فبوسعنا أن نقول: إن اليزك عبارة عن الفعالية البريدية اليومية التي يقوم بها أفراد مختصُّون ، يكونون تحت الطلب؛ ليذهبوا ، ويتعرَّفوا عن كثب على ما يفعله العدو ، أو ينوي القيام به. وكان أفراد اليزك يختارون من بين أهل النُّصح ، والنجدة في الحرب للقيام بهذا الواجب ، وكان هؤلاء يتحاشون الاشتباك بالعدوِّ عند الاستطلاع ، لأن الهدف من واجبهم هو: تقدير قوة العدو ، وكشف مواطن الضعف فيه ، لذلك فإنهم كانوا لا يلبسون الدروع ، أو التروس ، وغيرها من الأثقال، التي تعيق حركتهم ، ويختارون الجياد الهادئة السَّريعة الجيدة الحوافر ، والظَّهر؛ التي لا تتهيج بسهولة. والواقع: أن المؤرخين المعاصرين ـ وخاصَّةً ابن شدَّاد ، ثم العماد الأصفهاني يذكرون لليزك في سياق رواياتهم مهماتٍ كثيرةً كان يقوم بها ، وصار إرسال الأخبار إحدى تلك المهمَّات.
ولا أدل على أهمية ، وخطورة اليزك في عهد صلاح الدين حين وضع على قيادته شخصياتٍ عسكريةً كبيرةً ، أمثال الملك العادل أخي السلطان ، وابنه الأكبر الملك الأفضل ، وكبار أمرائه مثل: بدر الدين دلدرم الياروقي ، وعز الدين ابن المقدم ، وعز الدين جورديك ، وعلم الدين سليمان بن جندر ، وغيرهم ، وكان هؤلاء الأمراء يقودون اليزك بالتناوب ، فكلٌّ منهم له نوبته. ومن المهمَّات التي أوكلت إلى اليزك تفقد أحوال المدن لاسيما بيت المقدس حين هدَّدها الصليبيون بإعادة احتلالها ثانيةً بعد تحريرها في سنة 583هـ/1177م ، فما كان من صلاح الدين إلا أن بعث أخاه الملك العادل على رأس يزك للإطلاع على قدرة هذه المدينة الدِّفاعية ، فسار الملك العادل في ذلك لهذا الغرض في رمضان 587هـ/1191م. وكذا ما فعله حين أرسل الأمير عز الدين جورديك ، وجمال الدين فرج ، وغيرهما بالمسير حتى يكونوا قريبين «من يافا» في صورة يزك يستعرفون كم فيها من الخيالة ، والرجالة بالجواسيس ، ثم يعرِّفونه ذلك ، فساروا.
وحدث أن قام مَنْ كان في اليزك بمهمة الكمين ، كما حدث في طريق يافا ، وأوكلت المهمة إلى بدر الدين دلدرهم ، فكمن حول الطريق كميناً فيه جماعة جيدة ، فمّر بهم جمع من خيالة العدو يحمون قافلة تحمل ميرة ، وجرى بين الفريقين قتالٌ كانت الدائرة فيه على العدو ، وقتل ثلاثون نفراً ، وأسر جماعةٌ ، وصار اليزك يقاتل الصليبيين في مناسبات عديدة ، وكاد اليزك في إحدى مصادماته أن يلقي القبض على الملك ريتشارد قلب الأسد بعد أن أصابته طعنة، وحال دون اعتقاله أحد المقاتلين الصَّليبيين ، ففداه بنفسه ، وشغل طاعته بما عليه من حسن لبسه ، فاشتغل به ، وأسره ، وأفلت اللَّعين ، وأخفي أثره ، وقتل ، وأسر من خيالته جماعةٌ ، وانهزموا من تلك الكرة الخاسرة ، وقلوبهم مرتاعة . وكذلك قام اليزك بحماية الجيش الأيوبي من هجوم مباغتٍ قد يقوم به الصَّليبون ، كما حصل عند أنطاكية.
إنَّ تلك المسؤوليات المتعدِّدة الجوانب؛ الَّتي أنيط تنفيذها إلى اليزك لتدلُّ على مكانة اليزك في الجيش الأيوبي. وهذا يعني: أنَّ هذا التنظيم العسكري كان يضمُّ في صفوفه خيرة جنود الجيش الأيوبي ، وأشجعهم. وكان حجم اليزك يتوقف على المهمة العسكرية التي يقوم بها ، ولهذا وكما هو متوقع ـ فإنَّه كان يحوي عدداً كبيراً من الفرسان ، وقد يصل إلى ألف فارس أحياناً، كاليزك الذي عيَّنه صلاح الدين للمرابطة على عكَّا حين قرَّر هو أن ينتقل بقواته إلى جبل الخروبة. وهكذا نرى أن اليزك قد تطور بتطور مهماته في خضم المواجهة الدامية المستمرة مع المحتلين ، وتطور من فرقةٍ خاصَّةٍ باستطلاع أخبار العدو ، أي: كجزء من أعمال البريد ، والتجسس إلى تنظيم حربي نشط له أهدافه في الدفاع عن قواعد الجيش الأيوبي ، أو المدن الإسلامية ، أو الهجوم المباغت على معسكرات العدو ، وكذلك في وضع الكمائن.
ج ـ حمام البريد: من أبرز سبل الاتصال البريدي في العهد الأيوبي استعمال الحمام الزَّاجل، أو ما يسمَّى بالحمام الهوادي لقدرته العجيبة على الاهتداء إلى عشِّه رغم ابتعاده عنه مسافات شاسعة، وقد وصف القاضي الفاضل هذا الطير بأوصافٍ لطيفةٍ، وقال: إنَّه «ملائكة الملوك» يشير إلى نزوله على الملك من جوِّ الهواء نزولَ الملائكة على الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ من السَّماء، مع فرط ما فيه من الأمانة، لا يُتَوهَّم من جهتها خيانةٌ. إنَّ هذا النوع من الحمام إضافة إلى اهتدائه إلى وكره، اشتهر بسرعة طيرانه. وربما اصطيد، وغاب عن موطنه عشر سنين فأكثر، ثمَّ هو على ثبات عقله، وقوة حفظه، ونزعه إلى وطنه، حتى يجد فرصةً ليطير إليه. ولهذا بلغت أثمان الحمامة مبالغ مرتفعة جداً، وصل إلى سبعمئة دينار، وأحياناً إلى ألف دينار، وبلغ ثمن البيضة الواحد من هذا النوع الفاخر عشرين ديناراً .
وكان للحمام البريدي مطاراتٌ منتظمةٌ ، هي أوكارها ، وقد عُيِّن علهيا بَرَّاجون ، أو حرَّاس برعوا في الاعتناء بشؤونه: في تدريبه ، وإطعامه ، وراحته ، وإطلاقه ، واستقباله ، ولكن العادة: أنَّ الطائر إذا هبط بالبطاقة ، لا يقطعها البراج بيده ، بل يأخذه إلى الخليفة ، أو السلطان خشية أن يكون في البطاقة سرٌّ ينبغي عدم اطلاع أحدٍ عليه ، حتى ولو كان الوقت غير مناسب ، كأن يكون السُّلطان يتناول طعامه ، أو نائماً ، فيترك طعامهم ، أو يوقظه من نومه ، حتى لا يفوِّت على نفسه ، ورعيته الأمور الهامة العاجلة ، فيفك الرِّسالة بنفسه، أو يقوم رئيس الحرس بهذه المهمة.
لقد اتخذ نور الدين محمود الحمام منذ تولِّيه حكم حلب ، والشام على غرار والده عماد الدين زنكي ، إلا أنَّ ما فعله في سنة 567هـ هو أنَّه نظَّم شؤون الحمام على أسسٍ جديدةٍ ، وشدَّد على الاهتمام بأمره ، إذاً فكيفية رعاية الحمام، وتنظيم مهابطه في أنحاء الدَّولة النوريَّة ، ووريثتها الدَّولة الأيوبيَّة ، وتعيين البراجين ، وتقاليد كتابه الرقع ، وكيفية ربط البطاقة ، واستقبال الحمام ، وفكُّ ، وقراءة الرسالة ، كلُّ هذه الأمور كانت موجودةً حين استلم صلاح الدين مقاليد الأمور ، وكلُّ ما فعله هو أنه زاد من ربط مصر بالشام بواسطة البريد الجوي؛ حتى صارت هناك شبكةٌ من المهابط «المطارات» في مصر ، والشام تمتدُّ من أقصى جنوبي مصر من أسوان إلى القاهرة ، فالسويس ، وإلى بلبيس كُلٌّ على حدة ، ثمَّ من بلبيس إلى الشام ، ومن بلبيس أيضاً إلى الصَّالحية ، وإلى قطيا ، ومن قطيا إلى الواردة في الطريق إلى غزة ، ثم غزة؛ أي: إنَّ بلبيس الواقعة شرقي القاهرة كانت مركز المهابط في مصر ، ومثلها غزة في جنوبي فلسطين على السَّاحل ، حيث يبدأ منها خط إلى الخليل ، وإلى اللِّد ، ومنها إلى قاقون ، ثم جنين ، فصفد ، فبيسان ، فإربد ، فطفس ، ومنها الصَّنمين ، فدمشق ، ومن كلِّ واحد من هذه المراكز إلى ما جاورها من المدن ، فمن بيسان إلى أذرعات ، ومن دمشق يسرح الحمام إلى بعلبك ، وكذلك إلى قارة ، ومن قارة أيضاً إلى حمص ، ومنها إلى حماة، فالمعرَّة ، فحلب ، فالبيرة ، وهكذا بقية مدن الجزيرة الشَّامية.
إنَّ هذه المحطَّات الكثيرة كانت تضمُّ ـ ولا شكَّ ـ عدداً كبيراً من الحمام ، وقد قُدِّر في وقتٍ لاحقٍ عدد الحمام الذي كان موجوداً في برج قلعة القاهرة وحده بحوالي ألفي طائر. وصارت مهنة تربية الحمام مهنةً مربحةً ، نظراً للإقبال الشديد عليه؛ لا سيما أثناء حصار الصليبيين لعكَّا. يقول العماد الكاتب: صرنا نحبو صاحب الطيور بالإطراء ، ونخصُّه بالمدح ، والثناء ، ونأمره بالاستكثار ، ونطلبها منه مع الليل ، والنهار ، حتى قلَّ وجودها عنده لكثرة الإرسال.
وقد استفاد الجيش الأيوبي من جهاز البريد النوري ، واستعمله صلاح الدين ، ونوابه في حالات الشدَّة ، فالحمام الزاجل أرسلت البشائر من فلسطين إلى مصر بنجاة السُّلطان في موقعه الرَّملة؛ التي هزم فيها الجيش الأيوبي. ويقول العماد: وسيَّرنا بها البشائر ، وأنهضنا ببطاقات الطائر لإخراس ألسنة الأراجيف ، وإبدال التأمين من التخويف.
وكان الجيش الأيوبي يصحب معه حمام الجهة ، أو الجهات التي ينوي الاتصال بها ، أو حين كان ينبغي طلب المعونة منها ، كما حدث في سنة 574هـ/1178م حين اجتمع الصليبيون ، وساروا نحو دمشق مع ملكهم ، فأغاروا على أعمالها ، ونهبوها ، وأسروا ، وقتلوا ، وسبوا ، فأرسل صلاح الدين ابن أخيه عز الدين فرخشاه في جمع من العساكر إليهم ، وأمر: أنه إذا قاربهم يرسل إليه بخبره على جناح طائر يسير إليه ، فسار فرخشاه في عسكره يطلبهم.
ولعلَّ ما يؤكِّد على قوَّة تنظيم البريد الجوي في هذا العهد تواصل الحمام على صلاح الدين من مختلف أنحاء البلدان أثناء مرابطته الطويلة على عكَّا ، فممَّا يذكره ابن شدَّاد: أنه أثناء رمضان 586هـ/1190م أُرسل حمامٌ من حلب إلى حماة ، ومن حماة إلى عكَّا ، وتحت جناحه خبر يعلن فيه نواب الملك الظاهر صاحب حلب عن قيام قوات العدو من جنود إمارة أنطاكية الصليبية بشنِّ الغارات على القرى التابعة لحلب ، مستغلِّين ضعف قواتها بسبب ذهاب جندها بقيادة الملك الظاهر إلى عكَّا،إلا أن القوات الباقية في حلب استطاعت من وضع الكمناء؛ الذين استطاعوا دحر المعتدين؛ الذين لم يشعروا إلا والسيف قد وقع فيهم ، فَقُتِلَ من عسكرهم خمسةٌ وسبعون نفراً ، وأُسر منهم خلق عظيم.
وقد تفنَّن المسلمون في إخفاء أسرارهم؛ لكي لا يطَّلع عليها العدو؛ لاسيما أثناء حصار عكَّا ، حتى إنهم استعملوا رموزاً خاصَّة ، وتسمى بالشفرات ، تدلُّ على أمورٍ متَّفق عليها مقدماً ، فقد ذكر العماد: أنَّ رجال البريد كانوا: يحملون كتباً ، وطيوراً ويعودون بكتبٍ وطيورٍ ، ونكتب إليهم ، ويكتبون إلينا على أجنحة الحمام بالتَّرجمة المصطلح عليها سرُّ الأمور ، ويودع المكتوب ، والمكتوم ما نطلعهم عليه من الخفي المستور.
د ـ الكمائن: لعل من أكثر فترات التاريخ الإسلامي نشاطاً للكمائن هي فترة الحروب الصليبية؛ لاسيما أيام صلاح الدين نظراً لقرب مواقع الاحتكاك العدائي ، واستمراره بين القوى الإسلامية ، والمرتكزات الصَّليبية؛ التي أقاموها على الجهات الساحلية من بلاد الشام ، أو القريبة منها ، وتعني الكمائن: إرسال جريدة ، أو سرية من المحاربين الفرسان إلى جهات العدو ، ومباغتته ، والإيقاع به في مناوشات محدودة لا تصل إلى حدِّ القتال الواسع النطاق. أي: إن العملية كانت تبدأ في السرِّ ، ولهذا كان ينبغي أن تتوفَّر في رجال الكمين جملةٌ من المواصفات؛ لكي يستطيعوا أن يقوموا بمهمتهم بالصُّورة المطلوبة.
ويبدو: أنَّ صلاح الدين رأى بعد سنة 585هـ/1189م أنَّ من الأفضل سلوك طريقة إرسال الكمائن ، والتحرُّش بقوى العدو ، وعدم فسح المجال له ليخلد إلى الرَّاحة ، ويجمع قواته حول عكَّا ، فصار على الجيش الأيوبي أن يدافع عن عكا من جهة ، ويفرض الحصار على الصليبيين الذين يحاصرون عكا من جهة أخرى ، ويرسل الكائن للتحرش بالجماعات الصليبية هنا ، وهناك ، من جهة ثالثة. ونجد أن الظروف التي مر بها الجيش الأيوبي في تلك الفترة ، وصلاحية أرض الشام ، ولا سيما أرض فلسطين ـ لوجود الأحراش الكثيفة ، والجبال التي تؤوي رجال الكمين المقاتلين قد حتَّمت على الجيش تنظيم مثل هذه العمليات العسكرية المحدودة الأثر ، والتي كانت الغاية منها إحراج العدو ، وجعله لا يشعر بالأمان ، وهذاالأسلوب في القتال شبيه بما نسمِّيه بحرب الأنصار، أو المغاوير.


يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
        من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022