في سيرة صلاح الدين الأيوبي
نظام التعبئة العسكرية في جيش صلاح الدين
الحلقة: التاسعة و الخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020
تعني التعبئة: مجموعة الأعمال التي يقوم بها القائد في مجال تحشيد القوات في ميدان المعركة ، وسوقها إلى خطوط القتال ، أو تنسيق قواته للردِّ على هجمات العدو ، والانتصار عليه، ولم يخرج عن هذا المعنى مفهوم التعبئة قديماً، أو حديثاً؛ إلا أن أساليبها ، وصنوف جيشها والآلات ، والمعدات التي يستعملها ، وغيرها هي التي تغيرت. وأمَّا النظام الذي سار عليه الجيش الأيوبي؛ فهو نظام التخميس.
1 ـ نظام التخميس: نرى: أنَّ صلاح الدين لم يكن مبتكراً لهذا النظام ، بل إنَّه كان موجوداً قبله ، ولم يختلف عمَّن سبقه من القادة المعروفين؛ الذين طبقوا هذه الطريقة من حيث الأساس وتنظيم الجيش الأيوبي كان على نسق كتائب يشبه ترتيب أعضاء جسم الإنسان الرئيسة ، أو يشبه الصليب ، فالجذع في الوسط بمثابة قلب العسكر ، والرأس في المقدمة بمثابة طليعة العسكر ،أو المقدمة ، واليدان في الجهتين بمثابة جناحي الميمنة ، والميسرة ، ثم السَّاقين معاً في الخلف بمثابة مؤخرة ، أو ساقه الجيش. ومن هذا ترى: أنَّ التنظيم على هذا النسق قائمٌ على خمسة أجزاء ، ومنها تسمية الجيش بالخميس.
وكان موقع السُّلطان في القلب عادةً؛ ومعه الأعلام؛ حتى يراه جميع الأمراء لتنفيذ التوجيهات التي تصدر منه ، لتقويته، أو لإعادة تنظيمه حين يضطرب لسبب ما ، وفي بعض الأحيان كان يتحوَّل إلى المقدمة لإثارة حماس الجند، وليلقي الرُّعب في نفوس العدو ، وكان صلاح الدين يضع القادة ، والأمراء المعروفين على رأس الجناحين، و أما على رأس المقدِّمة «الطلائع» فكان يضع أصحاب الخيول ، والسيف ، والرمي ، والخفَّة في الطراد ، والمقابلة.
2 ـ الحلقة الخاصة والمماليك السُّلطانية: تكونت الحلقة السُّلطانية من جماعة من العساكر ، تحيط بصلاح الدين ، كانت بمثابة حراسة ، وكانت للحلقة مكانة ظاهرة في المعارك المختلفة ، واضطلعت بدورٍ واضح في فتح السَّاحل ، وقلاع الصليبيين المنيعة ، ويشير ابن الأثير إلى فتح قلعة برزية المعروفة بوعورة المنطقة التي تقع فيها ، وحصانتها ، وكيف قسم صلاح الدِّين جيشه إلى ثلاثة أقسام للقتال بالتناوب ، وحين جاء دور قوَّات صلاح الدين الخاصَّة ، قاتلوا قتالاً شديداً رغم الحرِّ الشديد. وكذلك كان للحلقة الخاصة دورٌ مشرِّفٌ أثناء حصار عكا؛ إذ كانت تنتقل مع صلاح الدين حين انتقاله بين تل الخروبة ، وشفا عمر ، وتل كيسان ، المواضع المحيطة بعكا ، وكانت هذه الحلقة هي الوحيدة التي ظلت مع صلاح الدين بعد عودة العساكر إلى مواطنها للرَّاحة ، ولقدوم فصل الشتاء في سنة 588هـ/1192م ، وكان أكثر مَنْ في الحلقة من العساكر المصريَّة.
ومما يؤكِّد على أهمية هذه الحلقة: أنَّها وحدها كانت في قلب الجيش الأيوبي ، حسب رواية ابن شدَّاد الذي كان ضمن الحلقة ، وحدث: أن السلطان سار إلى جهة العدو ، ولم يكن معه سوى الحلقة، ولعلَّ رجال الحلقة الخاصة كان يشكِّلون الفرقة التي سميت باسم السُّلطان: «الفرقة الصلاحية ، أو الناصرية». وقد كان المحاربون الذين ينضوون تحت إمرة قائدٍ كبير كانوا يسمون باسمه ، لأنَّهم كانوا من مماليكه ، أو غلمانه ، فالنورية مماليك نور الدين الدِّين محمود ، والأسدية مماليك أسد الدِّين شيركوه. وقد ذكر أبو شامة: أنَّ من ضمن تركات أسد الدين في مصر سنة 564هـ/1168م: أنه خلف جماعةً من الغلمان ، خمسمئة مملوك ، وهم الأسدية. وهذا يعني: أن الجيش الأيوبي عرف نظام المماليك ، فالجيش المصري في عهد المماليك تكوَّن من بقايا الجيوش الأيوبية؛ التي جاء معظمها من المماليك الترك ، وبقايا الأكراد، وأطلق على خاصَّة مماليك السلطان اسم الحلقة ، وقد سار الأيوبيون على سنَّة السلاجقة ، وأتابكتهم ـ عماد الدين زنكي ، ثم ابنه نور الدين ـ بالإكثار من المماليك الترك ، واستخدامهم في الجيش، على الرغم من أنَّ الأيوبيين ، أو مؤسسي الأسرة الأيوبية لم يكونوا أتابكة ، ولم يكونوا مماليك لأحدٍ ، ولا جرى على أحدٍ من بني أيوب رقٌّ.
4 ـ الأطلاب وأصناف الجيش حسب سلاح كلِّ صنف: كان الجيش الصَّلاحي قائم على أساس تقسيم الجيش إلى مجاميع؛ كانت بمثابة كتائب ، يكون على رأس كل مئتي فارس ، أو مئة ، أو سبعين فارس أمير مقدم. فكان يقال: إنَّ الحملة الفلانية تضمُّ كذا من الأطلاب ، وكان لكل صنف من الصنوف المقاتلة ، والمساعدة خواص ، تتميز بها عن الصنوف الأخرى ، وهذا التمييز يظهر بنوع السلاح ، والأعتدة التي يتجهَّز بها ، والواجبات الملقاة على عاتقه ، ولا يمكن للجيش أن يتحرَّك بنجاح في العمليات العسكرية ما لم يعمل بوفاق ، وتنسيقٍ تأمَّين ، ويساعد بعضها البعض الاخر في حالات الاشتباك ، وكان ثمة صنفان أساسيان في الجيش الأيوبي إضافةً إلى الأصناف الجانبية ، وهما:
أ ـ صنف الفرسان (الخيَّالة): وهو عصب الجيوش في ذلك ، وكانت مهمَّاته الرئيسة القتال ، والاستطلاع ، أو الاستكشاف ، نظراً لما تتطلب هاتان العمليتان من سرعة الحركة الضرورية في الهجوم ، والكشف ، ومطارة العدو، وقطع طرق العودة عليه للتزود من القوات ، والمؤن ، وكانوا يختارون عادة أهل النصيحة ، والنَّجدة ، والتَّجربة في الحرب للقيام بهذا الواجب ، وكانوا يتفادون الاشتباك بالعدو عند القيام بالاستكشاف ، فالهدف من عملهم هو تقدير قوَّة العدو ، وكشف مواطن الضعف فيه ، وكذلك يقوم الفرسان بنجدة المواضع المعرَّضة للخطر المفاجئ ، إلا أنهم كانوا يوضعون خلف المشاة في ترتيب الصفوف ، كما يذكر الطر طوسي بقوله: ولتكن الخيالة، والأبطال من وراء الرجالة ينتظرون الحملة، فإذا همُّوا بها؛ فُتح لهم بابٌ يحملون منه «بالتعاون مع الرَّجالة. وأما المزايا التي كانت ينبغي أن تكتمل في الفارس الحق؛ فكانت تحدَّد من ناحية الترويض الجسدي بالقوَّة البدنية ، والإلمام بفنِّ مواجهة العدو ، كفنِّ المصارعة (المنازلة) ومعرفة استعمال الرُّمح ، وفن الرماية. وكان الفرسان يتسلَّحون بالسُّيوف ، والحراب الطويلة، ويرتدون الزرد ، والترس ، والخوذ ،و أما خيولهم؛ فمن المحتمل: أنهم كانوا يضعون عليها التجافيف ، والسروج.
ب ـ صنف المشاة (الرَّجالة): وكان يولِّف القسم الأعظم من قوَّة الجيش ، ويقوم بأعباء القتال ، ويتحمَّل مشقاته ، ونتائجه ، وكانت الأسلحة التي يحملها أفراد هذا الصنف أسلحة خفيفة؛ لأنهم يسيرون على أقدامهم ، فكانوا يستعملون السُّيوف ، والأقواس ، والرِّماح القصيرة ، وكان المشاة يقومون بإخراج أفراد العدو من خنادقهم، ويقضون عليهم ، ولعلَّ أهم ما كان المشاة يكلفون به هو: حماية الجيش أثناء المسير للحيلولة دون مداهمته من قبل العدو ، وحراسة القوافل التي تحمل المؤن ، والعتاد أثناء تنقُّلها ، وفي ترتيب صفوف الجيش كان المشاة يوضعون في الصفوف الأمامية ، وخلفهم الخيالة ، والأبطال.
ج ـ أما الصنوف الأخرى المساعدة: فكانت تعرف بأسماء الأسلحة ، والأعتدة؛ التي كانت تستعملها ، والواجبات؛ التي يقوم بها كلُّ صنف ، كصنف المنجنيقين ، والدبَّابين ، والنفَّاطين ، وصنف المخابرة ، وصنف التموين ، وغيرها.
وكان صلاح الدين قبل التوجه إلى ساحة القتال يقوم بعرض الجيش ، وتعيين مواضع الأطلاب ، وسد الثغرات ، والخروق ، والتأكُّد من صلاحية الأسلحة؛ التي يحملها المحارب ، فقبيل التوجُّه إلى حطِّين وقف السلطان يوم العرض يرتِّب العسكر ترتيباً ، ويبوبه تبويباً ، ويعبيه بعيداً ، وقرَّر لكلِّ أميرٍ أمراً ولكلٍّ مقدمٍ مقاماً ، ولكلِّ موفق موقفاً ، ولكلِّ كمينٍ مكاناً ، وعين لكلٍّ موقفاً في الميمنة ، والميسرة لا ينتقل عنه ، ولا يغيب جمعاً ، ولا يبرح أحدٌ منه ، وأخرج الجاليشية ، والرُّماة الكماة من كلِّ طلب ، ووصَّى كلَّ حزبٍ بما يقرِّبه من حزب. وقال: إذا دخلنا بلد العدو فهذه هيئة عساكرنا ، وصورة مواردنا ، ومصادرنا ، ومواضع أطلابنا ، ومطالع أبطالنا ، وكان ثمة شخص في الجيش مهمَّته النداء، واستنفار الجند للقتال، وشحذ الهمم ، وكان موضعه قريباً من صلاح الدين، فكلُّ ما يصدر منه من أوامر يبلَّغه بصوتٍ عال إلى عموم الجيش ، ويسمَّى بالجاووش. وينادي بالقوم أن يستعدوا ، أو أن الحاجة تدعو الأمير الفلاني بالانتقال بأطلابه لتقديم المساعدة إلى الجهة الفلانية أثناء القتال ، بعد أن أحدث العدوُّ ثغرةً فيها ، أو يذكي حماس المقاتلين بنداءاتس مثيرةٍ خاصَّة في مثل «يا للإسلام وعساكر الموحدين! ».
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: