الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
تطور الإقطاع الحربي في عهد صلاح الدين:
الحلقة: السابعة و الخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020


كان الإقطاع الأيوبي يُمنح مقابل الخدمات الحربية؛ غير أنَّه لم يكن إقطاعاً وراثياً ، كما أن منح الإقطاع بواسطة السُّلطان الأيوبي ليس معناه: منح ملكيات الأرض الزراعية لهذا المقطع ، وليس معناه أيضاً تمتع المقطع بمتحصلات الإقطاع لفترةٍ طويلة ، بل إنَّ منح الإقطاع يعطي المقطع مجرَّد الحق في أن يجمع لنفسه ، ولأجناده مجموعةً معيَّنةً من الضرائب في مقابل الواجبات المدنية ، والعسكرية التي كان ملزماً بأدائها. وقد بدأ صلاح الدين بتوزيع أراضي مصر على هيئة إقطاعات، فمنح بعضها لأهل بيته ، والبعض الاخر وزَّعه على أمرائه ، وقادة جيشه، فأقطع والده نجم الدين الإسكندرية، ودمياط، والبحيرة. وأقطع أخاه شمس الدِّين تورانشاه: قوص، وأسوان، وعيذاب. ومما يؤيد ذلك ما ذكره المقريزي في الخطط؛ حيث قال: وأما منذ أيام صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى يومنا هذا؛ فإنَّ أراضي مصر كلَّها صارت تقطع للسلطان، وأمرائه، وأجناده.
ولم يقتصر توزيع الإقطاعات الحربية في عهد صلاح الدين على أرض مصر؛ بل تعدَّى ذلك إلى كلِّ البلاد التي تمكَّن صلاح الدين من ضمِّها إلى مشروع الوحدة الإسلامية، واتَّبع عدَّة طرق لتوزيع تلك الإقطاعات على أمرائه، وأجناده، منها ما كان غرضه منه تثبيت أقدامه في البلاد؛ التي تخضع له ، مثلما حدث عندما استولى على حمص ، وحماة سنة 570هـ/1174م حيث أقطع الأولى لابن عمِّه ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه ، والثانية لخاله شهاب الدين الحازمي. كما استخدم صلاح الدين الأيوبي توزيع الإقطاعات وسيلةً لتحقيق الوحدة الإسلامية، ويدلُّنا على ذلك النداء الذي وجهه عند نزوله على البيرة ، حيث كاتب ملوك الأطراف قائلاً: من جاء مستسلماً؛ سلمت بلاده على أن يكون من أجناد السلطان ، وأتباعه ، ومساعديه على جهاد الكفرة. وكذلك فعل عماد الدين زنكي مع عز الدين مسعود صاحب الموصل ، ومع صاحب عينتاب؛ الذي قام بمراسلة السُّلطان معلناً دخوله في طاعته ، ونزوله على خدمته ، فلما فتحها؛ أقرَّها عليه إقطاعاً ، ، ذلك سنة 579هـ/1183م. كما كان صلاح الدين يمنح رجاله الإقطاعات مكافأةً لهم على ما قاموا به من أعمال جليلة يدلُّنا على ذلك ما فعله صلاح الدين مع أمير حصن كيفا ، الذي أقطعه امد مكافاةً له نظير ما قدَّمه لصلاح الدين من خدمات. وكذلك ما فعله مع سيف الدين المشطوب ، عندما أطلقه الصليبيون من الأسر؛ إذ أحسن صلاح الدين استقباله ، وأقطعه نابلس ، وأعمالها ، وذلك في سنة 588هـ/1192. كما يلاحظ: أنَّ صلاح الدين في توزيعه للإقطاعات قد راعى الجوانب الأمنية في دولته ، فوزع الإقطاعات على القبائل العربية التي كثيراً ما خانه أهلُها ، وحملوا الغلاَّت إلى الصليبيين ، فأقطع قبيلتي جذام ، وثعلبة إقطاعات متفرقة في الدِّيار المصرية ، وذلك للحفاظ على الأمن ، وحثَّ أولئك العربان على الاشتراك معه في الجهاد. ومن خصائص الإقطاع الأيوبي أنه يجيز أن ينتقل الإقطاع من مقطع إلى اخر ، ولكن ذلك الانتقال لم يكن عن طريق الوراثة ، ولم يحدث توريث الإقطاع في عهد صلاح الدين سوى ثلاث مرات. وفي مقابل الموارد المتحصلة من الإقطاع ، كان على المقطع مجموعة من التزامات التي كان يجب عليه أن يؤدِّيها ، وهي التزامات حربيَّةٌ مثل: تقديم العساكر وقت الحرب ، فضلاً عن عدد من الواجبات غير الحربية ، كتنفيذ المراسيم السُّلطانية التي كان صلاح الدين يصدرها ، وإقرار الأمن داخل الإقطاع ، والنظر في مصالح الرعية داخل الإقطاع بالإضافة إلى ذلك كان على المقطع عدد من الواجبات المدنية ، أهمُّها تلك التي تختص بريِّ ، وزراعة الإقطاع ، وبعض الخدمات الخاصَّة بالسلطان ، وكان الإقطاع أحياناً يحتوي على أراضي مستصلحة نتيجة شقِّ قنوات ، وجسور ، وكان على المقطعين أن يبذلوا كلَّ جهدهم؛ لكي يحسِّنوا هذه الأراضي المستصلحة ، فضلاً عن قيام المقطع بإقامة الجسور البلدية ، وصيانتها ، وهي السُّدود الزراعية الصغيرة؛ التي كان لها أهمية كبيرة في ري الإقطاع. وأما عن الجسور السُّلطانية ـ وهي السدود الزراعية الكبيرة؛ التي شيدت لمنفعة الأقاليم ـ فلم يكن المقطع مسؤولاً عنها من الناحية النظرية ، ولكن من الناحية العملية كان المقطعون يساعدون السلطان في تشييد هذا النوع من الجسور، وذلك بإمداده، بالرِّجال ، والبقر ، والالات ، وغيرها ،و يضاف إلى ذلك أيضاً: أنَّ المقطع كان يشترك في حفر ، وتطهير الترع ، والقنوات. لقد لجأ صلاح الدين إلى نفس الأسلوب الذي اتبعه أسلافه الزنكيون في دفع رواتب الجيش ، فوزَّع الإقطاعات على أمرائه؛ ليكون بديلاً عمَّا يتطلَّب منه من دفع رواتب للجند ، فقد كان صلاح الدين يكتفي بمخاطبة المقطع عند عزمه على الجهاد ضدَّ الصليبيين ، فيسير بدوره إليه ، ومعه جيشه مزودا بالعتاد ، والمؤن. ولمَّا كان صلاحُ الدين هو المصدر الأصلي لمنح الإقطاعات؛ فقد كان يستطيع إلغاءه في أيِّ وقت ، وذلك متى تقاعس المقطع عن أداء واجبه ، أو بدر منه ما يخلُّ بالتزاماته الحربية ، كما حدث سنة 573هـ/1177م حيث إنَّ صلاح الدين قطع أخباز جماعة من الأكراد؛ لأجل أنهم كانوا السبب في هزيمة الجيش الإسلامي في وقعة الرَّملة عند تلِّ الصافية أمام الجيش الصليبي؛ الذي كان يقوده أرناط. والواقع: أنَّ نظام الإقطاع الحربي كان ذا أهميةٍ كبيرة بالنسبة لجيش صلاح الدين ، كما أنَّ نظام الإقطاع الحربي بما اشتمل عليه من واجبات يعاقب المقطع بالإعفاء من إقطاعه متى قصَّر في شيءٍ منها ، وكان كفيلاً بإخلاص الجند ، واستماتتهم في القتال ، فضلاً عمَّا كان يقوم به بعض المقطعين من أعمال حربية ضدَّ الأعداء ، فيذكر كلٌّ من ابن واصل ، وابن كثير في حوادث سنة: 575هـ/1179م: أنَّ عز الدين فرخشاه؛ الذي كان إقطاعه بعلبك انذاك أغار في هذه السنة على صفد ، وعاد سالماً بعد أن فتك بعددٍ كبير من مقاتليهم ، وغنم منهم غنائم كثيرة. ويُضاف إلى ذلك: أنَّ نظام الإقطاع الحربي ، يعدُّ من أولى موارد الدولة الأيوبية؛ لأنه مصدر الإيراد الدائم اللازم للصرف على الجيش السُّلطاني ، وجيوش الأمراء الإقطاعيين ، فضلاً عن النفقات العسكرية الهامة للجيش زمن الحرب ، وبهذا يمكن القول بأنَّ صلاح الدين بتطبيقه لنظام الإقطاع الحربي في دولته قد وفَّر على نفسه مهمَّة تزويد جيشه كلِّه بالسِّلاح ، والعتاد، والمؤن.

 

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
        من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022