الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
الإصلاح العمراني في عهد صلاح الدين:
الحلقة: الخامسة و الخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020

 

من هذه الإصلاحات: أنَّه اهتمَّ بسور القاهرة ، فلمَّا كان قد تهدم أكثره ، وصار طريقاً لا يردُّ داخلاً ، ولا خارجاً؛ فقد سَوَّرها ، وانتدب للإشراف على عمارة السور «الطواشي بهاء الدين قراقوش». وقياس هذا السور من أوله إلى اخره يمتدُّ حول المدن التي كونت مدينة القاهرة في عهده، وهي: «مدينة الفسطاط» التي أنشأها عمرو بن العاص، ومدينة العسكر؛ التي أنشأها صالح ابن علي العباسي، ومدينة القاهرة التي أنشأها جوهر الصِّقلي. والهدف من إقامة هذا السور حماية البلاد من كيد المعتدين ، وبالإضافة إلى بناء السور بنى قلعة الجبل؛ ليردَّ عن القاهرة غائلة الأعداء الغادرين؛ غير أنه لم يستطع أن يكمل البناء جميعاً؛ لإنشغاله بالحروب في شتَّى الميادين، وتعدُّ هذه القلعة من الاثار الحصينة في تاريخ مصر، وقد تناولتها يد التغيير في فترات عديدة من التاريخ.
ومن القلاع التي بناها صلاح الدين قلعة سيناء ، بناها في شبه جزيرة سيناء على بعد 57 كيلو متراً إلى الشمال الشرقي من مدينة السويس ، كما بنى في الجهة الجنوبية من القلعة مسجدين متجاورين، وصهريجاً للمياه؛ ليرويَ العطاش، وعلى أحد بابي الصهريج كُتِبت هذه الأسطر: بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد ، خلد الله ملك مولانا الناصر صلاح الدنيا، والدين، ملك الإسلام والمسلمين ، خليفة أمير المؤمنين، عمَّر هذا الصهريج الملك علي بن الناصر العادل المظفر ، وكان فراغه شهر شعبان تسعين وخمسمئة هجرية. ويقول الأستاذ «نعوم شقير» في كتابه: تاريخ سينا والعرب: أنَّه مر بهذه القلعة وبالمسجدين ، ورأى للقلعة باباً كبيراً في الجهة الشمالية الغربية منها ، وفوق عتبة الدار حجرٌ تاريخيٌّ عربي كبير مربع الشكل ، نقش عليه بحروف ظاهرة اسم صلاح الدين: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد. خلد الله ملك مولانا الملك الناصر صلاح الدين، سلطان الإسلام ، والمسلمين ، يوسف العادل الناصر في جمادى الاخرة سنة 583هـ.
ولم يكن اهتمام صلاح الدين بإقامة التحصينات العسكرية هو كل شيء ، فقد اهتمَّ بتعمير جزيرة الروضة ، والجيزة ، وبناء المقاييس ، وحفر الترع ، كما اهتم ببناء المشتشفيات ، والمدارس ، الخانقاوات. وكانت مدينة الجيزة ، والروضة في أيَّام صلاح الدين من أهم البلاد ، ويقول ابن جبير في رحلته: إنَّه كان يُنصب في الجيزة كلَّ يوم أحدٍ سوق من الأسواق العظيمة ، ويقطع بينها وبين مصر جزيرة فيها مساكن حسنة ، وبيوت ، وأماكن للهو والنزهة ، كما يوجد بينها وبين مصر خليج في النيل ، وبه مسجد جامع يخطب فيه ، ويتَّصل بهذا الجامع المقياس؛ الذي يعيِّن زيادة النيل ، ونقصه ، كما كان يوجد به أحجار ورخام... وغيرها من ضروب الجمال ، والفن.
وبنى صلاح الدين السقي ، وعمَّر الأسطول ، وجعل للأسطول ديواناً مخصوصاً ، كان يسمى «ديوان الأسطول» سلمه لأخيه العادل ، وقد كانت الإسكندرية ، ودمياط أهم الموانئ البحرية في ديار مصر ، وكانت الفسطاط ، وقوص من أعظم الموانئ النيلية ، وكان فيها إنشاء السُّفن الحربية؛ التي ترابط بتلك الثغور ، وتذهب للغزو في البحر لإعلاء كلمة الإسلام ، وجَعْل رايتها خفاقةً في العالمين. ونظر صلاح الدين إلى الإسكندرية ، وإلى أهميتها الاستراتيجية في مقاومة المشروع الصَّليبي ، فأمر بعمارة أسوارها ، وأبراجها ، وبنى فيها مستشفى ، واهتم بالجسور ، والترع؛ ليصلح حال المزارعين.
وقد ساهمت عوامل عديدة في التطور العمراني في عهد صلاح الدين ، منها الدينية ، والجغرافية ، والسياسية ، والإدارية ، والاقتصادية ، والحربية ، والاجتماعية ، والثقافية ، وقد قام الدكتور عدنان محمد فايز الحارثي بشرحها، وتفصيلها في كتابه القيِّم: عمران القاهرة ، وخططها في عهد صلاح الدين الأيوبي ، وقد تحدَّث الدكتور عز الدين فَرَّاج عن مميزات العمارة في الطراز الأيوبي ، فقال: وكانت أهم الظواهر المعمارية في العصر الأيوبي تلك التحصينات ، وما اشتملت عليه من أبراج ، وأبواب زوِّدت بها أسوارُ مصر ، وقلعتُها ، فالأبواب التي أنشأها صلاح الدين من النوع المنكسر؛ الذي يسمى «الباشورة» وهي من الابتكارات المعمارية التي تزيد الحصون مناعةً؛ إذ إن طريق الدخول فيها لا يخترق الجدار في خط مستقيم مثل الأنواع العادية ، بل يضطر العدو أن يجتاز الباب بين برجين مزودين بفتحات يضرب منها بالسِّهام في جوانبه المكشوفة بغير واقٍ ، أو درعٍّ. كما أن هناك عنصراً معمارياً جديداً استعمله صلاح الدين في التحصينات ، وهي شرفة حجرية بارزة عن حائط السور يطلق عليها اسم «السقاطة» ومزودة بفتحات رفيعة يرمي منها الجند سهامهم على العدو المهاجم من الأمام ، والجوانب، وقد أثبت الأستاذ كريزويل: أن العنصر المعماري شرقي ، كما أثبت: أنَّ نظام المدارس ذات الإيوانات المتقاطعة نظام نشأ ، وتطور في مصر ، ولم تأت فكرته من الخارج ، وفي هذا العصر استمرَّ ازدهار الزخارف الجصيَّة ، وأشغال النجارة ، كما ظهرت الكتابة النَّسخيَّة ، وسارت جنباً إلى جنب مع الكتابة الكوفية.

 

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
        من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022