الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
الإصلاح الاجتماعي في عهد صلاح الدين:
الحلقة: الرابعة و الخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020

 

كانت الحياة الاجتماعية في عهد صلاح الدين تَتَّسم بطابع الجدية ، ومناهضةَ الفرنج ، ومكافحة العدوِّ.. وكانت بعيدةً كلَّ البعد عن مظاهر الأبهة الفارغة الكاذبة ، والعظمة الكاذبة ، والبذخ المفرط ، وكان ـ رحمه الله ـ يعطي لجنوده ، ورعيته القدوة الحسنة في اللِّباس العادي ، والطعام الخشن ، والمجالسة المتواضعة. يقول العماد الأصفهاني في وصف ملبسه ، ومخالطته: كان لا يلبس إلا ما يحلُّ لبسه ، كالكتَّان ، والقطن ، والصوف ، وكان مَنْ جالسه لا يعلم: أنه يجالس سلطاناً؛ لتواضعه.
وكان صلاح الدين رياضياً ، يحبُّ الفروسية ، ولعب الكرة ، ويشجِّع عليها ، وكان يركب؛ لمشاهدة مباريات الكرة ، والصَّولجان بعد صلاة الظهر ، ومعه رجاله؛ حتى إذا ما وصل إلى الميدان؛ نزل؛ ليشاهد اللَّعب ، ويستمرُّ المتبارون في لعبهم حتى أذان العصر ، وكان يشترك في هذه المباريات مع خاصته ، وينطلق لِلَّعب مع بعض رفاقه. وكان الصيد من أحب الهوايات عند الناس ، فكانوا ينطلقون زرافاتٍ ووحداناً لصيد الطيور ، والأسماك ، والأوز، والأرانب ، وكانوا يستخدمون الكلاب في صيدهم. وهذه الظاهرة إن دلَّت على شيءٍ؛ فإنَّما تدل على التأهُّب الكامل ، والاستعداد التام لخوض المعارك في شجاعةٍ فائقة ، وبسالةٍ منقطعة النظير.
ومن الإصلاحات الكبيرة؛ التي حققها صلاح الدين في المجتمع المسلم إبطاله مظاهر الخلاعة ، والمجون؛ التي كانت شائعةً في عهد الفاطميين ، ولا سيَّما في المواسم ، والأعياد ، كعيد النيروز ، وإذا أردنا أن نعرف مبلغ هذه الخلاعة؛ التي كانت متفشيةً في المجتمع المصري قبل عهد صلاح الدين؛ فلنسمع إلى ما يقوله المقريزي في خططه: كانت المنكرات ظاهرةً في عيد النيروز ، ومعه جمع كثير ، ويتسلَّط على الناس في طلب رسمٍ رَتَّبه على بيوت الأكابر ، ويقنع بالميسور من الهبات ، ويتجمَّع المؤنثون ، والفاسقات تحت قصر اللؤلؤ بحيث يشاهدهم الخليفة ، وبأيديهم الملاهي ، وترتفع الأصوات ، وتشرب الخمور في الطُّرقات ، ويتراش الناس بالماء ، وبالماء ، والخمر ، وبالماء ممزوجاً بالقاذورات ، فإن غلط مستور ، وخرج من داره؛ لقيه من يرشُّه ، ويفسد ثيابه ، ويستخفُّ بحرمته، فإمَّا فدى نفسه ، وإما فضح. وأبطل صلاح الدين هذه المظاهر الفاسدة ، والمنكرات السافرة ، ومكَّن من الحياة البريئة النظيفة ، وأعاد لهم أخلاق الإسلام ، وآدابه السامية.
ومن المظاهر الفاسدة؛ التي أبطلها بدع المناسبات ، والمواسم ، مثال ذلك: بدع يوم عاشوراء؛ الذي كان يوم حزنٍ ، وأسىً عند الفاطميين ، ففي هذا اليوم كان يكثر النَّحيب ، ويرتفع البكاء ، وتتعطَّل الأعمال ، وتتوقَّف الأسواق ، وترى الناس في هرجٍ ، ومرجٍ ، كأنما فقد كلُّ واحدٍ منهم أعزَّ الناس لديه، وأحبَّهم إليه. فاستطاع أن يقضي على هذه العادات الذميمة، والبدع السيئة.
وأما إنعامه على الرعية ، وتوزيعه العطاء على الناس؛ فحَدِّث عنه ، ولاحرج ، فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة؛ لأنَّ نظرته إلى المال كمن ينظر إلى التراب ، وسبق أن ذكرنا: أنَّه حين مات لم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرية ، وجِرماً واحداً ذهباً ، ولم يخلف ملكاً ، ولا داراً ، ولا عقاراً ، ولا بستاناً ، ولا قرية ، ولا مزرعة ، ولا شيئاً من أنواع الأملاك ، وإنما أنفق أموالاً طائلة على المشاريع الاصلاحية ، وإعداد الوسائل الحربية ، وللمستحقِّين من أبناء الرعية.. حتى يتحقَّق للمجتمع تكافله الكامل ، وللدولة قوَّتها المنيعة ، وللأفراد معيشتهم المثلى ، وهذا ما مكَّن له هذا السلطان العادل ، والقائد البطل.
ومن الأعمال الخالدة؛ التي خلَّدت لصلاح الدين ذكره إبطاله الكثير من الضرائب؛ التي كانت تثقل كاهل المجتمع، وتقضُّ مضاجع الناس ، كالضرائب التي كان يفرضها أمير مكَّة على الججَّاج، فقد كانت صاحب مكة قد أمر بأن يؤدي الحجَّاج مكوس مكة مقدماً في جدَّة، فوقع على الحجَّاج ، فقد كان صاحب مكة قد أمر بأن يؤدِّي الحجاج مكوس مكة مقدماً في جدة ، فوقع على الحجاج الظلم فيها، فأبطل صلاح الدين كلَّ هذا النظام، وعوَّض صاحب مكة عنها جملةً، فحمل إليه في كل سنة ثمانية الاف إردب قمحاً ، واشترط أن تفرَّق في أهل الحرمين ، فرفع صلاح الدين بذلك متفرقاتها عن الناس، وأفاد بجملتها التي أداها من بيت المال أهل الحرمين.
ومما يدلُّ على حسن طويته، وحرصه على سلامة المجتمع، ووحدة الأمة، والتحذير من الظلم وصيَّته لابنه الملك الظاهر؛ الذي أسند له ولاية حلب، يقول في هذا الوصية ـ كما رواها عنه قاضيه ابن شدَّادـ: أوصيك بتقوى الله، فإنها رأس كلِّ خير، وامرك بما أمر الله به، فإنه سبب نجاتك، وأحذرك من الدِّماء ، والدخول فيها، والتقلُّد بها، فإن الدَّم لا ينام ، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية ، والنظر في أحوالهم ، فأنت أميني ، وأمين الله عليهم ، وأوصيك بحفظ الأمراء ، وأرباب الدَّولة ، والأكابر ، فما بلغتُ ما بلغتُ إلا بمداراة الناس ، ولا تحقد على أحدٍ؛ فإن الموت لا يُبْقي في أحد ، واحذر ما بينك وبين الناس؛ فإنه لا يُغفر إلا برضاهم ، وأما ما بينك وبين الله تعالى؛ يغفره بتوبتك إليه ، فإنه كريم.
هذه أهم ما قام به صلاح الدين من إصلاح اجتماعي ، وتقويم أخلاقي ، ليزهو المجتمع الإسلامي في عهده بأكرم الخصال ، وأحسن العادات ، وأفضل الآداب.

 

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
        من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022