السبت

1446-11-05

|

2025-5-3

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
ترتيب صلاح الدين لأموره الإدارية والعسكرية قبل حطِّين:
الحلقة: السابعة والسبعون    
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020


 عاد صلاح الدين من شرق الفرات إلى دمشق يوم 2 ربيع الأول 582 هـ فاستقبل استقبالاً كبيراً من عامَّة الناس ، وخاصَّتهم ، العامَّة احتفالاً بشفائه من المرض؛ الذي كثرت حوله الأراجيف ، واشتدَّ القلق ، والخاصة احتفاءً بمثل ذلك ، وبتحقيقه الهدف الذي جمع كلمة المسلمين بتوحيد البلاد؛ التي تُشَكِّل قلب العالم الإسلامي بقيادة الخليفة العباسي في العراق ، وقيادة السُّلطان بتفويض الخليفة ، وعلاماته على كتبه في كل الجزيرة الفراتية ، والشام ، ومصر ، واليمن ، وغيرها ، وكان أول من اجتمع به بعد أهله وزيره الكبير ، ومستشاره الخطير ، وعقل دولته المُدبِّر ، القاضي الفاضل. يذكر العماد:.. واجتمع السُّلطان في القلعة بأهله ، وأقلع المرجف عن جهله ، وحسنت الأحوال ، وشاهدنا الفضل ، والكرم بالمشاهد الفاضليَّة ، واجتمع السُّلطان به ، فَبثَّه أسراره ، واستزال بصفو رأيه أكداره ، ودخل جنَّته ، وجنى ثماره ، وزاره مَرَّةً ، واستزاره ، وراجعه في مصالح دولته ، واستشاره  فما الذي حقَّقه صلاح الدين في حملته على البلاد الموصليَّة؟ وما الإجراءات الإدارية والعسكرية؛ التي قام بها بعد عودته إلى دمشق لترتيب دولته ، والاستعداد للمواجهة الكبرى؟.
أ ـ تَمَّ الصلح مع صاحب الموصل من ال زنكي ، وقطعت الخطبة السَّلجوقية فيها ، وخطب للسُّلطان صلاح الدين بعد الخليفة العباسي ، وتنازل للسُّلطان عن كلِّ ما وراء نهر الزاب «من البلاد ، والحصون ، والقلاع ، والضياع ، وشهرزور ، ومعاقلها ، وأعمالها ، وولاية بني قفجاق ، وولاية القرابلي ، والبوازيج ، وعانة» ، مقابل إبقاء الموصل وأعمالها بيده: على أن يكون بحُكُمنا, ويُنفذ عسكره إلى خِدْمتنا ، وتكون الخطبة ، والسِّكة باسمنا.
ب ـ تمَّت الخطبة ، والسِّكَّة ، والطاعة لصلاح الدين في بلاد الجزيرة الأخرى ، وديار بكر خاصةً؛ التي كانت بيد بني أرتق ، وتقديم العساكر لمساعدة السُّلطان في الجهاد عند الطَّلب؛ لأنَّ العزائم إلى الجهاد في سبيل الله نوازع، وقد زالت العوائق ، وارتفعت الموانع.
ج ـ أضاف صلاح الدين الرُّها ، وقلعتها ، وولايتها إلى إقطاع كُوكْبُري بن زين الدين على كوجك؛ الذي كان أوَّل من سانده في عمليات شرق الفرات منذ البداية ، وذلك لتوفُّره في الخدمة السُّلطانية على حفظ القوانين، وظهر منه ما حقَّق به الاستظهار ، وأوجب لأمره الإمرار. وكان هو الأمير الذي عهد إليه قيادة كلِّ القوَّات الشرقية في معركة حطِّين.
د ـ ألغى السُّلطان المكوس (الضرائب غير الشرعية) في كلِّ البلاد التي خضعت لسلطته المباشرة، أو التي خضعت له بصورةٍ غير مباشرة. فهـذا هو: دأب السُّلطان في جميع البلاد ، واقتصر منها على الرُّسوم التي يبيحها الشَّرع، وهي: الخراج، والأُجُور، والزَّرع ، وغيرها.
وأما أمور بيته الخاصَّة ، وبيت عمِّه؛ فقد اتَّخد إجراءاتٍ أولى في حلب ، وصحب معه العادل إلى دمشق؛ حتى يتقرَّر الأمر في التراتيب النهائية بعد التشاور مع القاضي الفاضل ، وغيره. وفي الطريق رتَّبَ أمور حمص؛ التي توفي صاحبها ابن شيركوه ، فعيَّن ابنه مكانه ، وألزمه بحفظ الثغر الحدودي هناك ، كما ألزمه بالتقيُّد بالضرائب الشرعية. وأمضى صلاح الدين بقية سنة 582 هـ/حزيران 1187 ـ اذار 1187 م في استكمال التراتيب الإدارية ، والاستعدادات العسكرية في مصر ، وبلاد الشام.
ـ عين صلاح الدين ابنه الظاهر غازي على حلب مكان أخيه الملك العادل ، والد زوجة الظَّاهر باتفاق بين الأخوين، وولَّى قلعة حلب الأمير بشاره ، والمدينة الأمير شجاع الدِّين عيسى بن بلاشو.
ـ استدعى الملك الأفضل ابنه الأكبر في مصر إلى دمشق؛ ليعينه نائباً فيها ، وعين ابنه العزيز عثمان نائباً في مصر ، ورتَّب معه أخاه الملك العادل لإدارة مصر ، وأقطعه إقطاعاً مناسباً فيها ، رضي به العادل عن طيب خاطر.
ـ وأثار هـذا الإجراء الأخير تقي الدين عمر ابن أخيه الَّذي قرَّر التوجُّه إلى المغرب ، والسيطرة عليه ، وإقامة ملك فيه، لكن ذلك سيؤثر حتماً على مخطَّطات صلاح الدين العسكرية؛ إذ كان تقي الدين من أبرز رجال دولته، وقادة عسكره ، ومشورته ، فأرسل صلاح الدين إليه يسترضيه ، ومما يؤثر عن السُّلطان قوله: لعمري إنَّ فتح المغرب مهم ، لكن فتح بيت المقدس أهمُّ ، والفائدة به أتَمُّ ، والمصلحة منه أخصُّ ، وأعمُّ؛ وإذا توجَّه تقي الدين ، واستصحب معه رجالنا المعروفة؛ ذهب العمر في اقتناء الرِّجال ، وإذا فتحنا القدس السَّاحل؛ طوينا إلى تلك المماليك المراحل. ثمَّ كتب إلى تقي الدين يأمره بالقدوم إلى الشَّام.
كما كتب القاضي الفاضل إليه أيضاً ، وقول القاضي مسموع: سبب هـذه الخدمة «الكتاب» ما اتَّصَلَ بالمملوك «القاضي الفاضل» من تَرَدُّدِ رسائل مولانا في التماس رسائل مولانا في التماس السَّفر إلى المغرب. يا مولانا ما هـذا الواقع الذي وقع ، وما هـذا العَريم من الهمِّ الذي ما اندفع ، بالأمس ما كان لكم في الدنيا إلا البُلْغةَ ، واليوم قد وهب الله هـذه النِّعمة ، وقد كان الشَّمل مجموعاً ، والهَمُّ مقطوعاً ممنوعاً ، أفتصبح الان الدنيا ضيِّقةً علينا؛ وقد وسعت ، والأسباب بنا مقطوعة ، ولا والله ما انقطعتْ! يا مولانا إلى أين؟ وما الغاية؟ وهل نحن في ضائقة عيشٍ ، أو في قلَّةٍ مِنْ عَدَدٍ؟ أو في عدمٍ من بلاد؟ أو في شكوى من عدمٍ؟. كيف نختار على الله ، وقد اختار لنا؟ وكيف نُدَبِّر لأنفسنا، وهو قد دبَّر لنا ، وكيف ننتجع الجَدْب ، ونحن في دار الخصْب؟ وكيف نَعْدِل إلى حرب الإسلام المنهيِّ عنها ، ونحن في المدْعُوِّ إليها من حَرْب أهل الحرب؟! معاشر الخُدَّام ، والجيش ، وأرباب العقول ، والآراء أليس فيكم رجل رشيد؟!.
تعقَّبِ الرَّأيَ وانظرْ في أواخره
        فطالما اتُّهِمَتْ قُدْماً أوائلُه

 لازال مولانا يمضي الاراء الصَّائبة ، ويلحظها باديةً ، وعاقبة ، ولا خلت منه دار إن خلت، ولا عَدِمته أيامٌ إنْ لم تطلع فيها شمسُ وجهه ، دخلت في عداد الليالي ، فلم تذكر. فكيف يستطيع الأمير الكبير بعد هـذه الحجج ألا يستجيب للأمر السُّلطاني فيتوجَّه بجميع أهله، وعساكره إلى دمشق ، فتلقَّاه السلطان في مرج الصُّفر في 23 شعبان 582 هـ/10 تشرين الثاني 1186 م ودخلا معاً إلى دمشق ، وأقطعه السُّلطان حماة ، وبلادها ، وأمره بحماية ثغورها، فتوجَّه إليها؛ حتَّى تأتيه أوامر السُّلطان.
وبهـذه التراتيب المحكمة تمكَّن صلاح الدين ، والقاضي الفاضل من ترتيب أمور الدَّولة من أقصى شرقها إلى أقصى غربها ، وتفرَّغ للاستعداد ، والتجهيز لحملته الكبرى التي كان ينتظر قدوم وقتها، وفي ذات الوقت كانت الأوضاع السياسية في مملكة الصَّليبين تزداد سوءاً، والخلاف بين حزب البارونات النبلاء ، وحزب الملك ، ومؤيِّديه يبلغ أوجه؛ ممَّا دفع الكونت ريموند الثالث ـ الذي أُبْعِد عن وصاية العرش بتتويج غي دي لوزيجنيان زوج الملكة الوارثة للعرش ـ إلى مهادنة صلاح الدين؛ لابعاده عن بلاده (طرابلس) وبلادزوجته (طبريَّة) بحيث قيل عنه في المصادر العربية:.. فالتجأ إلى ظلِّ السُّلطان فصار له من جملة الأتباع ، فقبله السُّلطان ، وقوَّاه، وشدَّ عضده بإطلاق من كان في الأسر من أصحابه ، فقويت مُنَاصحته للمسلمين ، وكان السبب الذي دفع ريموند إلى ذلك الاتفاق هو: أن مقدَّم الداوية نصح الملك غي بجمع القوات ، ومحاصرة ريموند ، وإجباره على الاستسلام ، فنفذ الملك عملية جمع القوَّات ، لكن باليان بن بارزان ـ صاحب نابلس ـ أقنعه بخطأ هـذه الحركة ، ففرَّق القوات ، وعاد إلى القدس.
وأقام صلاح الدين في دمشق ينتظر الفُرْصة المناسبة لجمع العساكر ، والتوجُّه إلى ميدان القتال، فكان الاستيلاء على القافلة القادمة من مصر إلى الشام ، وفشل المفاوضات بين السُّلطان، وأرناط ، والملك في حَلّ المشكلة ، وبدأ الجانبان الاستعداد ، والتجهُّز ، وكتب السلطان إلى العساكر في الموصل ، والجزيرة الفراتية ، وحلب ، وحماة ، ومصر طالباً منها القدوم: الشرقية ، والحلبية إلى الاجتماع برأس الماء ، المخيم المعتاد لدى صلاح الدين ، ومركز الاجتماع للانطلاق. والمصرية بقيادة أخيه العادل إلى بلاد الكرك ، والشُّوبك. وأما السُّلطان؛ فخرج إلى جسر الخشب ، وقام هناك حتَّى يتكامل تجمُّع قُوَّات دمشق لديه.


يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022