في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
أهم الدُّروس والعبر والفوائد ما بين وفاة نور الدين ومعركة حطِّين:
الحلقة: السادسة والسبعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020
1 ـ المدة التي استغرقها صلاح الدين لتوحيد الجبهة الإسلامية: بعد 12 سنة من الجهاد المرِّ أضحى صلاح الدين سيِّد مصر ، والشام ، والموصل ، وغيرها من بلاد المسلمين ، واستجمع في يده القوى الحربيَّة طائعةً في الغالب ، ومسايرة في بعض الأحيان، وقد تمثَّلت وسائله لإقامة الجبهة الموحدة بقيادته في عدَّة أمور بالإضافة إلى اعتماده على المؤسسَّة العسكرية الأيوبيَّة؛ التي أوجدها:
أ ـ كان يصدر قرارات الأمان لكلِّ من يستسلم بدون قتال على شرط أن تكون العساكر واحدةً عند النُّصرة على العدوِّ الخارجي ، كما حدث ذلك لحصن كيفا مثلاً.
ب ـ كان صلاح الدين يلقي بواسطة السِّهام رقاع يكتب عليها عبارات التَّرغيب ، والترهيب إلى داخل الحصون الممتنعة؛ لدفع أهلها إلى طلب الاستسلام بعدما يُحْدِث في صفوفهم اضطراباً نفسياً.
ج ـ كان صلاح الدين يظهر للمدينة القويَّة الحصينة بأنَّه إنما جاء يسكن بقربها ، وأنَّه عازمٌ على الاستقرار بجوارها ، بعد أن يحاصرها دون أن يعمد إلى الهجوم المباشر عليها ، ممَّا يدفع بمن داخل الحصن ، أو المدينة إلى طلب الأمان ، أو السعي من أجل الوصول إلى الصُّلح لدفع قوات صلاح الدين الضخمة من قرب البلد؛ لأنَّها إن استمرت حول البلد سوف تلحق أضراراً كبيرة به، وهـذا هو الذي حصل فعلاً عند حصار الموصل في المرَّة الثالثة سنة 581 هـ.
د ـ وفي بعض الأحيان كان صلاح الدين يقدِّم تنازلات ، ويمنح الأموال الوفيرة لأمراء بعض الحصون في سبيل فتح حصونهم دفعاً للقتال ، كما حدث ذلك عند محاصرته حصن حارم ، وميافارقين.
هـ وأحياناً أخرى كان صلاح الدين يلجأ إلى الأساليب السياسية ، فيعمد إلى التحالف مع بعض الأمراء الاخرين؛ ليضعف من قوى الخصم ، ويدفعه إلى طلب الاستسلام ، وقد جرَّب صلاح الدين هـذا الأسلوب بتحالفه مع عماد الدين أمير سنجار ضدَّ أخيه عز الدين مسعود أمير الموصل. وبالأساليب السابقة وباستخدام الحرب أحياناً أخرى تمكِّن صلاح الدين من أن يتمَّ الوحدة ، ويعدَّ العدَّة ليبدأ بمرحلة التحرير.
2 ـ السِّمات العامة لمواقف صلاح الدين في جهوده الوحدوَّية:تتمثَّل السِّمات العامة في جهود صلاح الدين الوحدوية في عدَّة أمور ، منها:
أ ـ الكرم بالمال ، واحتقاره: ويظهر في كثرة ما وهب ، وأعطى لأتباعه ، وللوافدين عليه ، أو المستسلمين لحكمه ، أو الموعودين منه بالعطاء ، ومسامحته لجميع البلادالتي فتحها بديون الضَّرائب السابقة ، وإلغاء المكوس ، والمظالم عدا الجبابات الشَّرعية ، ولا شكَّ: أنَّ ذلك لعب دوره في اجتذاب النَّاس إلى صفوفه ، وفي إسكات خصومه.
ب ـ خلقه السَّمح: فكان يحارب المعادين لقيام الجبهة ، فإذا هزمهم؛ لم يسمح باللِّحاق بهم ، ولا بقتل جرحاهم، ويطلق أسراهم ، ويتسامح أحياناً مع مَنْ يعرف: أنهم أعداؤه ، ولا يظهر ذلك ، بل يغضُّ على بصيرة؛ لأنه يريدهم أن يكونوا بعد الخصومة حلفاء له.
ج ـ إيمانه الإسلامي العميق: الذي كان يتمثَّل لا في العبادات فقط ، ولكن في الإيمان بأنَّ الجهاد فريضةٌ عليه أولاً ، وعلى الاخرين ، فهو لا يرضى إلا بحملهم عليه.
د ـ ترك الأمراء لإماراتهم: أو إطعامها لقواده ، والمقرَّبين ، أو للأعداء أحياناً؛ لأنه لا يريد بعد ملك مصر ودمشق أن يملك أرضاً ، ولكن أن يكسب حلفاء وجنداً يقدمون له القوة اللازمة عند الطلب ، وهـذا ما يفسِّر تنازلاته ومفاوضاته الدُّبلوماسية ، ومنحه الأمان لمن يعاديه.
هـ ـ لم يظهر في البيت النوري خاصَّةً ، ولا في أمراء نور الدِّين الاخرين شخصيةٌ سواه قويةٌ ، قادرةٌ على أن تحقِّق المبادأى الذي يعمل عليها نور الدين ، وأبوه من قبله.
و ـ محاولته بجانب كسب الجمهور الإسلامي كسب رضا الخليفة العباسي :الذي ظلَّ يؤمن: أنَّه مصدر الشَّرعية الرُّوحية لجميع المسلمين ، فكان يواليه بالكتب تباعاً بمختلف المواقف يفسِّرها أحياناً ، ويتَّهم خصومه أحياناً أخرى ، ويستأذن ثالثةً ، ويستشير رابعة دون انقطاع. وتلخَّص من كلِّ ذلك إلى أنَّ قوة صلاح الدين إنَّما كانت بالتلاحم بينه وبين الجماهير الإسلامية من خلال أعماله ، وجهاده ، وبوقوفه بالدِّفاع عن مطالب الجماهير المتمثلة في حماية دينها ، وعقيدتها ، والتصدِّي للغزاة ، وإذا حارب صلاح الدين بعض حكام المسلمين؛ فإنَّما حارب فيهم مصالحهم الشخصية الخاصَّة ، وسيادتهم ، وأنانياتهم الصَّغيرة التي تدمِّر أحلام الناس ، لا أشخاصهم ، وقد قضى في إقامة الجبهة الإسلامية الموحَّدة اثنتي شرة سنة (570 هـ 582 هـ/1174 ـ 1186 م) وكانت طموحاته خلالها أضخم بكثير من قوى جسمه ، وأمراضه، فهو عملاقٌ حربيٌّ ، وكتلة أمراض جسديَّة ، وكان حبُّه للجهاد هو الذي ينسيه الامه ، ويجعله يتجاوزها.
3 ـ تكامل شخصيتين في التوحيد والتَّحرير: ممَّا تحدثنا به من الأحداث ، والوقائع ندرك بسهولةٍ ، ويسر: أنَّ شخصية نور الدين ، وشخصية صلاح الدين قد تكاملت جهودهما في توحيد الأمَّة على الجهاد ، والتحرير ، وقد وفَّقهما الله لذلك ، وجاء صلاح الدين ـ رحمه الله ـ وهو قائد من قادة نور الدين زنكي ، وأمير من أمرائه؛ ليكمل مسيرة نور الدين محمود في توحيد الأمَّة الإسلامية ، وجمعها على الإيمان ، والولاء لله ، ولرسوله ، والذين امنوا ، والبراءة من أعداء الله ، ورسوله ، والمؤمنين ، وقتال الصَّليبيين ، وطردهم من بلاد المسلمين ، ونهض بالأمة علميَّاً ، وشرعيَّاً ، وجهاديَّاً ، فأقام الحدود، والقصاص ، والتعزير ، وقضى على الظلم ، والفساد ، ثم انطلق بعد أن هيَّأ الأمَّة الموحَّدة للجهاد في الشام ، ومصر ، والحجاز ، والعراق ، واليمن؛ ليغزو الفرنجة ، ويطردهم من بلاد المسلمين ، وكان صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله ـ يعلن: أنه أخذ كثيراً من أخلاق نور الدين؛وبخاصةٍ عدله في الحكم، وجهاده، وقال ـ رحمه الله ـ في عدل نور الدين ، وأخذه عنه تعقيباً على عدل نور الدين مع من أساء إليه: هـذا هو الحقُّ، وكلُّ ما نحن فيه من عدلٍ، فمنه تعلَّمناه.
وقال أبو شامة في تكامل الشخصيتين: فلله درهما من ملكين ، قد تعاقبا على حسن السيرة, وجميل السَّريرة ، وهما حنفيٌّ ، وشافعيٌّ ، شفى الله بهما كلَّ عي ، نور الدين أصل ذلك الخير كلُّه ، مهَّد الأمور بعدله ، وهيبته في جميع بلاده ، مع شدَّة الفتق ، واتساع الخرق ، وفتح من البلاد ما استعين به على مداومة الجهاد ، فهان على مَنْ بعده على الحقيقة سلوك تلك الطريقة ، لكنَّ صلاح الدين أكثرُ جهاداً ، وأعمُّ بلاداً ، صبر ، وصابر ، ورابط ، وثابر ، وذخر الله له من الفتوح أنفسه ، وهو فتح الأرض المقدَّسة ، فرضي الله عنهما ، ما أحقهما بقول الشاعر: كم ترك الأوَّل للاخر؟! وقال عماد الدين الكاتب في نور الدين وصلاح الدين: فهما جددا الإسلام بعد دروسه، وشيدا بنيان التوحيد بعد طموسه ، ثمَّ أيَّد الله الإسلام بعدهما بالملك الظَّاهر ركن الدين.
4 ـ توحيد الأمَّة عن طريق القوة: إنَّ الوقائع ، والأحداث جاءت بأنَّ المسلمين عند بدء الحروب الصليبية كانوا متفكِّكين ، وكانوا دولاً متنازعةً ، وإماراتٍ متحاربةً ، فجاء نور الدين زنكي يجمع الأمة على الجهاد ، ويوحِّدها بمخاطبتها بالدَّليل الشرعي في الوحدة ، والاعتصام بحبل الله ، والاجتماع على قتال الصَّليبيين؛ لتطهير المقدَّسات. وقد بينت الأحداث: أن توحيد الأمَّة لا يقف عند أمنية الناس ، والشعوب ، ولا عند رغبتهم فيها ، بل يتعدَّاها إلى وجود حكَّام مخلصين مؤمنين موحِّدين يرغبون من كلِّ قلوبهم بتوحيد الأمة ، ويترجم هـذه الرَّغبة جهود عمليَّة مضنية من هؤلاء الحكَّام ، وجهاد مستمرٌّ تبذل فيه الأنفس ، والأموال ، بل ويتعدَّى ذلك إلى استخدام أسلوب القوَّة ، والحرب مع دعاة الانفصال ، والتمزُّق ، والتفرقة ، وبغير هـذا لا يقوم توحيد ، ولا وحدة ، فلا غرو بعد هـذه المقدِّمة الموجزة أن نجد نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي ، وأسرة زنكي إجمالاً ، وكذلك الأسرة الأيوبية؛ وفي مقدَّمتها صلاح الدين الأيوبي قد حملوا راية التوحيد ، توحيد الأمَّة لتكون صفاً في وجوه أعدائها الغازين ، ووحَّدوها على الجهاد في سبيل الله ، لقد وحَّدوها ، وحزموا كلَّ الحزم في سبيل توحيدها ، فقاتلوا قتالاً مريراً ، وحاربوا حروباً كثيرةً حتى فتحوا البلاد ، وطوَّعوها ، وطوعوا أمراءها للوحدة.
كان الخطاب لهؤلاء الأمراء واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار ، وكان حازماً كلَّ الحزم, لا هوادة فيه ، ولا تراجع: إما الاستجابة للوحدة ، وإما العزل عن الحكم ، والإمارة ، وقد وجَّه صلاح الدين الأيوبي سنة 580 هـ قبل حطين ، وقبل تحرير القدس خطاباً إلى زين الدين يوسف بن زين الدين علي كوجك بإربل ، وما يجري معها من البلاد ، والقلاع ، وجاء فيه: إنَّ الله مكَّن لنا في الأرض ، ووفَّقنا في إعزاز الحقِّ ، وإظهاره لأداء الفرض، رأينا أن نقدِّم فرض الجهاد في سبيل الله ، فنوضح سبيله ، ونقبل على أعداء الدِّين ، وننصر قبيله ، وندعو ألياء الله من بلاد الإسلام إلى غزو أعدائه ، ونجمع كلمتهم في رفع كلمته العليا في أرضه على استنزال نصره مِن سمائه ، فمن ساعدنا على هـذه الفريضة ، واقتناء هـذه الفضيلة يَحْظَ من عوارفنا الجزيلة بحسن الصَّنيعة ، ونجح الوسيلة، ومن أخلد إلى الأرض ، واتَّبع هواه ، وأعرض عن حقِّ دينه بالإقبال على باطل دنياه ، فإنْ تاب ، ورجع؛ قبلناه ، وإن أصرَّ على غوايته؛ أزلنا يده ، وعزلناه.
وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه ، فالمسلمون ليسوا أمَّةً واحدةً ، وليس لهم دولةً واحدة تحكمهم، وتدبِّر أمور حياتهم، ولكنهم فرقٌ تفرقوا شذر مذر ، قد الت الأحوال بهم إلى أسوأ ممَّا كانت عليه في الحروب الصليبية؛ التي نتحدث عنها، وأصبحت بلادهم نهبةً لأعدائهم ، وخيراتُهم ، وليست لهم ، بل وفرضت عليهم مناهج الأعداء ، وقوانينهم.
إنَّ الإسلام يوجب على دعاة الوحدة أن يجاهدوا دعاة الفرقة ، ويحملوهم على ذلك إلى أن يذهب بهم ، ويؤتى بغيرهم ، والله غنيٌّ عن العالمين.
5 ـ الوَحْدة مطلبٌ شعبيٌّ عامٌّ لا يقف أمامهُ حاكمٌ انفصالي: لمَّا رفض حاكم دمشق استقبال صلاح الدين كارهاً للوحدة ، والجهاد ضدَّ الصليبيين؛ لم يقبل أهل دمشق منه هـذا التخاذل ، واستقبلوا صلاح الدين ، وجيش صلاح الدين ، وأصبح النفوذ ، والحكم لصلاح الدين المجاهد ومن معه. وها هو ذا المملوك سرخك حاكم قلعة حارم من أعمال حلب قد امتنع عن تسليمها لصلاح الدين الأيوبي ، وقد راسله في ذلك توحيداً لقوَّة المسلمين في جهاد الصَّليبيين ، فأبى ، وأرسل إلى الصَّليبيين؛ ليحتمي بهم ضدَّ صلاح الدين ، فسمع من معه من الأجناد: أنه يراسل الصَّليبيين ، فخافوا أن يسلِّمها إليهم ، فقبضوه ، وحبسوه ، وراسلوا صلاح الدِّين ، يطلبون منه الأمان ، والإقدام ، فأجابهم إلى ما طلبوا ، وسلَّموا إليه الحصن.
6 ـ الوحدة بين مصر والشام وأهميتها: إنَّ الاتحاد بين مصر ، والشام له أثره الحسن على المسلمين ، فهـذا يشكِّل جبهةً حربيَّةً ، وقاعدةً شعبية عريضةً، وقويَّةً في التصدِّي للصَّليبيين؛ إذا أرادوا غزو أيِّ بلدٍ من البلاد في مصر، وفي الشام، فكان إذا اعُتدي على أيِّ ّبلدٍ في مصر؛ هبَّت جيوش الشام بمساعدة المُعْتَدى عليهم في مصر ، وذلك إما بإرسال الجيش الشَّامي للقتال جانب المسلمين في مصر ، أو بالقيام بالجيش الشَّامي بفتح جبهة أخرى ضدَّ الصليبيين لتفريق قوَّتهم ، وتخفيف الضغط على إخوانهم ، وهكـذا إذا حدث العدوان على أيِّ بلد من بلاد الشام؛ يهبُّ الجيش المصري بنجدة إخوانهم على أرض الشام.
وسيرة صلاح الدين وضَّحت كيف كان يتعاون الجيش المصري مع الجيش الشامي للتصدِّي للصَّليبيين؛ وبخاصةٍ في فتح عسقلان، والمدن السَّاحلية ، أو الدفاع عنها. وقد تمكَّن صلاح الدين من تحقيق الوحدة أحياناً بالدُّبلوماسية، وبالتَّهديد ، والترهيب أحياناً أخرى ، وبالعمل العسكري المحدود في بعض الأوقات، فتمكَّن من تحقيق وحدة مصر ، وبلاد الشام ، والقسم الأكبر من بلاد شرق الفرات تحت سيادته ، وقيادته ، وإلزام بقية القوى؛ حتَّى حدود بلاد العجم بالمشاركة في الجهاد ضدَّ الصليبيين ، وأتمَّ ذلك دون تعطيل الجهاد؛ إذ استمرَّت العمليات العسكرية الهجوميَّة بقيادته هو بنفسه ، أو بقيادة أمرائه من القاعدة الرئيسية في دمشق.
7 ـ القاضي الفاضل وجهوده في التوحيد:كان القاضي الفاضل العالم الكبير المؤثر في دولة صلاح الدين ، وكان صلاح الدين يشاوره, ولا يقطع أمراً دونه ، ولا يُخفي عنه ضميره ، ولا مكنونه ، وكان قلم القاضي يحقِّق الانتصارات الإعلاميَّة ، والسياسية ، والفكرية للدَّولة الأيوبية ، سواءٌ في تواصله مع الخليفة العباسي ، كما مرَّ معنا، أو التواصل مع الأمة الإسلاميَّة من خلال موسم الحج ، وكان صلاح الدين يسند إليه مهام إدارية ، واجتماعية ، واقتصادية ، وأمنية بمصر ، فيقوم بها على خير مقام ، وكان يراسله ، ويستفتيه في كثير من الأمور ، وهـذه بعض فصول كتب وردت من القاضي الفاضل إلى صلاح الدين ، وهو بالشام.
أ ـ سور القاهرة: وأمَّا سور القاهرة؛ فعلى ما أمر به المولى شُرع فيه ، وظهر العمل ، وطلع البناء ، وسلكت به الطريق المؤدِّية إلى السَّاحل بالمقسم ، والله يُعمِّر المولى إلى أن يراه نطاقاً مستديراً على البلدين, وسوراً بل سِواراً يكون به الإسلام مُحلَّى اليدين ، مُحَلَّى الضِّدَّين ، والأمير بهاء الدين قراقوش ملازم الاستحثاث بنفسه ، ورجاله ، لازم لما يعنيه بخلاف أمثاله ، قليل التثقيل مع حمله لأعباء التدبير ، وأثقاله.
ب ـ في حقِّ نقل القضاء من شرف الدين بن أبي عصرون لما ذهب بصره إلى ولده: لن يخلو الأمر من قسمين ـ والله يختار للمولى خِيْرَة الأقسام ، ولا ينسى هـذا التحرُّج الذي لا يبلغه ملك من ملوك الإسلام ـ إمَّا إبقاء الأمر باسم الولد؛ بحيث يبقي رأيه ، ومشاورته ، وفتياه ، وبركته ، ويتولَّى ولده النيابة ، ويشترط عليهما المجازاة لأوَّل زلَّة ، وترك الإقالة لأوَّل عثرة, فطالما بعث حبُّ المنافسة الراجحة على اكتساب الأخلاق الصَّالحة ، وإما أن يُفَوَّض الأمر إلى الإمام قطب الدين ، فهو بقية المشايخ ، وصدْرَ الأصحاب ، ولا يجوز أن يتقدَّم عليه في بلدٍ إلا مَنْ هو أرفع طبقةً في العلم منه.
ج ـ ومنها في إقامة عذر التأخر عن الجهاد: وأما تأسُّف المولى على أوقاتٍ تنقضي عاطلةً من الفريضة؛ التي خرج من بيته لأجلها ، وتجدُّد العوائق التي لا يوصل إلى اخر حبلها؛ فللمولى نيّةُ رُشده ، أو ليس الله العالم بعبده ، وهو سبحانه لا يسأل الفاعل عن تمام فعله ، لأنَّه غير مقدور له ، ولكن عن النيَّة؛ لأنها محلُّ تكليف الطاعة ، وعن مقدور صاحبها من الفعل بحسب الاستطاعة ، وإذا كان المولى «أخذاً» في أسباب الجهاد ، وتنظيف الطُّرق إلى المُراد؛ فهو في طاعة قد امتنَّ الله عليه بطول أمدها ، وهو منه على أملٍ في نُجح موعدها ، والثَّواب على قدر مشقَّته ، وإنَّما عَظُمَ الحجُّ لأجل جُهْده ، وبُعد شقَّته ، ولو أنَّ المولى فتح الفتوح العظام في أقلِّ الأيَّام ، وفصل القضيَّة بين أهل الإسلام ، وأعداء الإسلام ؛ لكانت تكاليف الجهاد قد قضيت ، وصحائف البرِّ المكتسبة بالمرابطة، والانتظار طويت.
د ـ في ذكر أولاد السلطان: وقبل الإجابة عن الفصول فنبشِّر بما جرت العادة به ـ لا قطع الله تلك العادة ـ من سلامةٍ، وصحةٍ ، وعافيةٍ شملت موالينا أولاده السَّادة أطاب الله الخبر إليهم عن المولى ، وإلى المولى عنهم, وعجَّل لقاءه لهم ، ولقاءهم له ، فإنهم من يلق منهم.. فهم بحمد الله بهجة الدنيا ، وزينتُها ، وريحانُ الحياة ، وزهرتها ، وإن فؤاداً وسع فراقهم لواسع ، وإن قلباً قنع بأخبارهم لقانع, وإن طرْفاً نام عن البعيد عنهم لهاجع ، وإن ملكاً ملَكَ تصبَّره عنهم لحازم ، وإن نعمة الله فيهم لنعمةٌ بها العيش ناعم ، أما يشتاق جِيْدُ المولى أن يتطوَّق بُدرَرِهم؟ أما تظمأ عينه إلى أن تتروَّى بنظرهم؟ أما يحنُّ قلبه على قلبه؟ أما يلتفظ هـذا الطائر بتقبيلهم ما خرج من حبِّه؟! وللمولى ـ أبقاه الله تعالى ـ أن يقول:
وما مِثْلُ هـذا الشوق تحمل مُضْغَةٌ
ولكنَّ قلبي في الهوى بقلوب
وفي أخرى: والملوك الأولاد في كفالة العافية ، لا رَفَعت عنهم كفالتها ، وعليهم جلالة السَّلطنة ، لا فارقتهم جَلاَلتُها، وكلٌّ من الموالي السَّاده الأمراء الأولاد ، والقِلادة كلُها جوهر ، وكلهُّم المقدَّم ، وليس فيهم ـ بحمد الله ـ من يؤخرهم على ما عوَّد الله من صحَّةٍ ، وسلامة ، وكفايةٍ ، ووقاية.. والله تعالى يمدُّ في عمر المولى إلى أن يرى من ظهورهم ما رأى جَدُّهم ـ رحمه الله ـ في أهل بيته من البطن الرَّابع ، فوارس الحرب الرائعة ، وملوك الإسلام التي منهم للإسلام أكاسرةٌ، وتبابعة:
وما فيهم عِنْدَ العلاءِ صغير
وصغارُ أبناءِ الكِبارِ كبارُ
نجوم الأرض ، وذريةٌ بعضها من بعض ، والخلف الصَّالح المحض ، وهم في الدُّنيا ، والاخرة فُرسان القوَّة ، والتُّقى يوم الحرب ، ويوم العرض.
هـ ومنها: وأما المأمور به في معنى المنكرات الظَّاهرة ، وإزالة أسبابها ، وإغلاق أبوابها ، وتحصين كلِّ مبتوتةٍ من عصمة ، وتطهير كل موسومةٍ بوصمة ، فالله يثيب المولى ثواب من غَضِبَ ليُرضيَه بغضبه ، وحمل الخَلْقَ على مِنهاج شرعه ، وأدبه.
و ـ في إسقاط الضرائب والمكوس عن الحجاج: من البشائر التي لا عهد لحاجِّ ديار مصر بمثلها ، ولا عهد لملك من ملوك الدِّيار المصرية بالحُصول على فخرها ، وأجرها انقطاع المكَّاسين عن جُدَّة ، وعن بقيَّة السَّواحل ، ويكفي أنَّ تمام هـذه المثوبة موجبٌ الاستطاعة، مقيمٌ لحُجَّة، فقد كانت الفُتيا على سقوطه مع وجود الجامل، وما أكثر ما أجرى الله للخلائق على يد المولى من الأرزاق؛ التي تفضل عن الاستحقاق، وما أولاه أن يتوخَّى بالمعروف مكانه من هـذين الحرمين الشريفين المهجورين من إسعاف أهل الاقتدار ، والمحروم من قَدَر فيهما على خير ، فأضاع فُرْصَتُه بترك البدار.
وغير خافٍ عن مولانا همَّة الفرنج بالقدس بَرَّا ، وبحراً ، ومركبا ، وظهراً ، وسِلماً ، وحرباً ، وبُعداً ، وقرباً ، وتوافيهم على حمايته ، وهو أنف في وجه الإسلام ، ومسارعتهم إلى نصرة أهليه بالأرواح ، والأموال على مَرِّ الأيام ، ومعاذ الله أن يستبصروا في الضَّلال ، ونُصْرَف نحن عن الحق ، وتضيق بنا في التوسعة على أهله سعة المجال.
والمملوك في مستهل رجب بمشيئة الله يُعوِّل على السَّفر إلى الحجاز لقضاء الفريضة قولاً ، وفعلاً ، والسائرون في هـذه السنة بطمعة وقفة الجمعة ، وبفسحة وضع المكس خلْقٌ لا يحصى ، والمولى شريكٌ في أجرهم ، فَلْيَهْنِهِ: أنَّ الملوك عمرت بيوتها ، فخربت ، وأنَّ المولى عَمرَ بيت الله ، فمن كرمه ـ سبحانه ـ أن يَعْمُرَ بيتُ المولى ، وما أشدَّ خجل الملوك من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التقصير في قوت جيرانه في هـذه السَّنة!.
وكانت هـذه حجَّة سنة 574 هـ ،وفي عام 576 هـ استأذن القاضي الفاضل صلاح الدين في الحج ، فوافق السُّلطان، وردَّ على القاضي الفاضل ، وكتب إليه على رأس الرُّقعة في سطر البسلمة: «على خيرة الله تعالى ، يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً»!.
وجاء في رواية: أنَّ السُّلطان صلاح الدين ردَّ على طلب القاضي الفاضل كتابياً ، وجاء فيه على حجِّه الأوَّل سنة 574 هـ: وصلني كتاب القاضي الفاضل ، وهو يذكر: أنه مصمِّمٌ على الحجِّ ، الله يجعله مباركاً ميموناً ، لا يركب بحراً، يسير من العسكر إلى أيلة ، ومنها يتوجَّه ، ويقيم العسكر على أيلة ليلةً ، وعلى إِرَم ليلةً ، ودون ليلة، وقاطع إِرَم ليلةً ، هو قد بَعُدَ ، وما يبقى عليه خوف إن شاء الله تعالى ، وثانيةً: تأخذ يده وتحلِّفه: أنه لا يجاور ، وثالثة: تُعطيه من مال الجوالي ثلاثة الاف دينار ، وتقول له: لا بُدَّ ما تخرج هـذا عني ، لا عنك في المجاورين بمكَّة, والمدينة ، وفي أهلها ، هـذا أمرٌ لا بُدَّ منه ، فإنَّ النَّاس لا بُدَّ لهم من الطَّلب ، ولا بُدَّ من العطاء, وإن قال: إن الشيء قليل ، فأنت تقرضني هـذا المبلغ من مالك ، وتعطيه إيَّاه ، فلا بُدَّ, وإلا فلا إذن له في الرَّوَاح إلى الحجِّ إلا على هـذه الشروط؛ التي قد شرطتُها ، وأما مجيئه؛ فيجيء إلى الشَّام، فأنا ما بقي لي دار إلا هي؛ حتى يقضي الله بيننا وبين الفرنج ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾.
وكتب القاضي الفاضل إلى بعض مشايخ مكة بعد رجوعه: سقى الله الحجاز وحيَّا كعبته! ويا طول ما ترشقني سهام الشَّوق الذي أصبح الذكر جَعْبَتَهُ ، اهاً على تلك المواقف ، وتباً لمن رضي أن يكون مع الخوالف ، فَرَعياً ، ونُعْمى ، وحسنة ، وحُسنى لمجاوري ذاك الحرم ، ولعامري أيَّامه؛ التي هي الأيام لا أيام ذي سَلَمِ ، فَيَالَهْفَ الصُدور ، وطول غَلِيلها إلى وُرودِ ماء زمزَمِه ، وطوبى لمن استضاء في مَضَالِّ الظُّلم بَعَلَمِهِ ، ومهما نسيتُ؛ فلا أنسى بَرْدَ الكَبد بحرِّ صيفها ، ومَوسم الأنس بثلاث مِنَاها ، وخَيْفها:
اهاً عليها ليالٍ ما تَرَكْنَ لنا
عسى الرِّياحُ إذا سارت مبلِّغةً
إلا الأسى وعُدلاتٍ من الحُلُم
توفي فقد غَدَرَ الأحبابُ بالذِّمَمِ
ثم قال: فأما الطريق المباركة؛ فقد جرى فيها خطوب ، وشؤون ، وأحاديث كلُّها شجون ، وكانت العقبى إلى سلامة ، ولما قاربنا الكَرَك نهض العدوُّ ، فلم تمكنه الرَّجعة، ولا التعريج جانباً، ثمَّ منَّ الله تعالى بانجلاء النَّوبة ، ووصلنا إلى بلاد السلطان ، ولقينا ذلك الوجه ، فلا عَدِمنا بِشْرَه ، وذلك الفضل ، فلا فارقت أعينُنا فجرِه ، ووجدناه في الغَزَاة جاهداً، وللعدوِّ مجاهداً ، أوقاته مستغرقة ، وعزماته محققة.
خ ـ رغبة صلاح الدين في الحجِّ عام 576 هـ: قال العماد: وفيها في رجب وصلت رُسُلُ الدِّيوان العزيز النَّاصري صدر الدين شيخ الشيوخ, أبو القاسم عبد الرحيم؛ ومعه شهاب الدين بشير الخاص بالتفويض ، والتقليد، والتَّشريف الجديد، فتلقيناهم بالتعظيم ، والتمجيد ، وركب السلطان للتلقِّي ، وعلى صفحاته بشائر الترقي ، فلمَّا تراءى الرُّسل الكرام ، ووجب له الإجلال ، والإعظام؛ نزل ، وترجَّل ، وأبدى الخضوع ، وتوجَّل ، ونزل الرُّسُلُ إليه ، وسلَّموا عن أمير المؤمنين عليه ، فتقبَّل الفرض ، وقَبَّل الأرض ، ثم ركبوا ، ودخلوا المدينة... وظفر السُّلطان من صدر الدين بصديقٍ صَدُوق ، وكان قد عزم على قصد الديار المصرية ، وسلوك طريق أيلة ، والبريَّة ، فحَسَّن لشيخ الشيوخ مصاحبته, ورغَّبَه في زيارة قبر الشَّافعي ـ رضي الله عنه ـ فقال: قد عزمت في هـذه السنة على الحجِّ ، فأصِلُ معكم إلى القاهرة بشرط إقامة يومين ، ولا أدخله ، وإنما أسكن بالتربة الشَّافعية, وأسير منها إلى بحر عَيْذاب ، فلعلي أدرك صوم رمضان بمكَّة! فالتزم له ذلك ، وأعاد أصحابه إلى بغداد ، ليأتوه من طريقها إلى الحجاز ، ورجع شهاب الدين بشير في جواب رسالته, ومعه رسوله ضياء الدين الشهرزوري ، وأنشأ العماد كتاباً في الجواب إلى الدِّيوان ، وفيه: وقد توجَّه الخادِم إلى الدِّيار المصرية لتجديد النَّظر فيها ، ثم يستخير الله في الحجِّ وأدائه ، ويعود إلى مجاهدة أعدائه.
وكتب القاضي الفاضل عن الملك العادل إلى الولاة باليمن يُعلمهم: أنَّ ملوك الشرق قد دخلوا في طاعة السُّلطان ، وأنه عازم على القدوم على مصر ، وصوم رمضان بها ، والحجِّ إلى بيت الله الحرام منها ، ويأمرهم بالاستكثار ممَّا يحمل لأجله إلى مكَّة من المال ، والأزوار ، والخلعَ مما تشتمل عليه تلك الأعمال.
وكتب القاضي إلى أمير مكة ، وأمير ينبع يعلمهما بذلك ليتأهَّبا لقدومه. وكتب القاضي الفاضل إلى السُّلطان صلاح الدين: جعل الله الملوك ذمَّةً لسيفه ، وشَّرد منام الأعداء منهم بطيفه، وأمَّن أهل الإسلام بعدله من جور الدَّهر، وحَيْفه ، وأشهده موقف الحجِّ الأكبر ، وزان بمحضره مشهد خَيْفِه ، وجعل وفده الأكرم ، وضيف بيته منتظمين في هـذه السنة في وفده ، وضيفه ، ثم هنَّأه بما فتح الله عليه من محبَّة الجهاد ، وما أثره في بلاد الأرمن، وغيرها من البلاد, وما تبع ذلك من نية الحجِّ ، بلَّغه الله منه المراد، ويبدو: أنَّ السُّلطان سنح له الحجُّ مع شيخ الشيوخ ، ثمَّ حصل له ما منعه منه.
س ـ مرض صلاح الدين وأثره على مجرى الأحداث: في عام 581 هـ اتفق: أنه مرض مرضاً شديداً ، وهو يتجلَّد ، ولا يُظهر شيئاً من التألُّم؛ حتى قوي عليه الأمر ، وتزايد الحال؛ حتى وصل إلى حرَّان ، فَخيَّم هُنالك من شدَّة ألمه ، وشاع ذلك في البلاد ، فخاف الناس عليه ، وأرجف الكفرة الملحدون ، وخاف أهل البِرِّ ، والمؤمنون ، وقصده أخوه أبو بكر العادل من حلب بالأطِبَّاء ، والأدوية ، فوجده في غاية الضعف ، وأشار عليه بأن يُوصِيَ ، ويعَهَدَ ، فقال: ما أُبالي؛ وأنا أَتْركُ من بعدي أبا بكرٍ ، وعمر ، وعثمان ، وعلياً ـ يعني: أخاه العادل صاحب حلبَ ، وتقيَّ الدين عُمَرَ صاحب حماة وهو إذ ذاك نائب مصر ، وهو بها مقيم ، وابنيه العزيز عثمان ، والأفضل علياً ـ ثم نذر لله تعالى: لئن شفاه الله من مرضه هـذا؛ ليصرفنَّ همَّته كلها إلى قتال الكفار ، ولا يقاتل بعد ذلك مسلماً ، وليجعلنَّ أكبر همِّه فتح بيت المقدس ، ولو صرف في سبيل ذلك جميع ما يملكه من الأموال ، والذخائر ، وليقتلنَّ البرنس صاحب الكرك بيده ، وذلك لأنَّه نقض العهد الذي عاهد السُّلطان عليه ، فغدر بقافلة من تجار مصر ، فأخذ أموالهم ، وضرب رقابهم صبراً بين يديه ، وهو يقول: أين محمَّدكم ينصركم؟!.
وكان هـذا النذر كلُّه بإشارة القاضي الفاضل ـ رحمه الله ـ وهو الذي أرشده إلى ذلك ، وحثَّه عليه؛ حتى عقد مع الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فشفاه الله عز وجل ، وعافاه ممَّا كان ابتلاه به من ذلك المرض؛ الذي كان فيه كفارةٌ لذنوبه ، ورفعٌ لدرجته، ونصرةٌ للإسلام وأهله ، وجاءت البشائر بذلك من كلِّ ناحية ، وزُيِّنت البلاد ، ولله الحمد والمنَّة!! وكتب القاضي الفاضل من دمشق وهو مقيمٌ بها إلى المظفَّر تقيِّ الدين عمر نائب مصر لعمِّه الناصر: إن العافية الناصرية قد استفاضت أخبارها ، وأنوارها ، واثارها ، وولَّت العِلَّة ، ولله الحمد ، وأطفئت نارُها ، وانجلى غُبُارها ، وخمد شرَارُها ، وما كانت إلا فلتةً وقى الله شرَّها ، وعظيمةً كفى الله الإسلام أمرها ، وما كان الله ليُضيع الدُّعاء؛ وقد أخلفته القلوب، ولا ليُوقف الإجابة؛ وإنْ سدَّت طريقها الذنوب ، ولا ليُخلف وعد فَرَجٍ؛ وقد أيس الصاحب والمصحوب.
نَعِيٌّ زاد فيه الدَّهر ميما
وما صدق النَّذير به لأنِّي
فأصبح بعد بُؤساه نَعِيما
رأيتُ الشَّمس تطلُع والنُّجوما
وقد استقبل مولانا السُّلطان الملك الناصر العافية غضَّةً جديدةً ، والنشاط إلى الجهاد ، والجنَّة مبسوطة البساط ، وقد انقضى الحساب ، وجُزنا الصِّراط ، وعُرِضنا نحن على الأهوال؛ التي من خوفها كاد الجمل يلج في سَمِّ الخياط
وقد وصف العماء مرض السلطان صلاح الدين ، فقال:.. والسُّلطان كلَّما زاد ألمه؛ زاد في لطف الله أملُه ، وكلَّما بان ضعفُه؛ قَوِيَ على الله توكُّله ، وأنا ملازمه ليلاً ، ونهاراً، وسراً، وجهاراً، وهو يُملي عليَّ في كلِّ وقت وصاياه، ويُفرِّق بقلمي على عُفاته عطاياه.. وكان خلقه أحسن ما كان في حال الصِّحة ، يخاطبنا بسجاياه السَّهلة السَّمحة ، ولا يخلو مجلسه من أولي فَضلٍ، وذوي نباهة، ونُبل، يتجاذبون بحضرته أطراف الفوائد، ويهزُّون لمكارمه أعطاف المحامد ، فتارةً في أحكامٍ شرعية ، ومسائل فقهية، واونةً في صناعات شعرية، وألفاظ عربية، ومعانٍ أدبية، ومرَّةً في أحاديث الأجواد، وشِيَم الأمجاد، ودفعةً في ذكر فضائل الجهاد، وفرائض التأهب له، والاستعداد، وينذر: أنَّه إن خلَّصه الله من نَبْوةِ هـذه النوبة، وأعفاه الله من كدر هـذه المرضة، ومرادتها بالعافية الصَّافية الحُلْوة؛ اشتغل بفتح البيت المقدسي ، ولو ببذل نفائس الأموال ، والأنفس ، وأنه لا يصرف بقية عمره إلا في قتال أعداء الله ، والجهاد في سبيله ، وإنجاد أهل الإسلام ، والإقبال على قبيله ، وأنه لا يترك سمة الجود ، والسماحة بالموجود ، والوفاء بالعقود ، والمحافظة على العهود، وإنجاز الموعود ، وربما استروح في بعض ساعات الليل ، أو النهار إلى السَّماع لإشارة الأطباء به لأجل التفريج، والامتاع. ولقد كان ذلك المرض تمحيصاً من الله للذُّنوب، وتنزيهاً، وتذكرةً موقظةً من سِنَةِ الغفلة ، وتنبيهاً. وكانت صَدَقاتُه الرَّاتبة دارَّةً ، وبالأبرار بارَّةً ، على أنَّ جوده مستوعب الموجود ، ولا يترك فضلاً للوفود... فدفع بالصَّدقة البلاء ، ورفع للصدق الولاء ، ونظر الله إلى النيات.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: