في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
علاقة صلاح الدين بالدَّولة البيزنطية:
الحلقة: الرابعة والسبعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020
كان الإمبراطور مانويل كومنين من أكثر المعادين لصلاح الدين ، والمسلمين ، وكان حليفاً للصَّليبيين ، ولكن عندما تولَّى الإمبراطور اندرو نيقوسى كومنين في عام 578 هـ/1182 م؛ تغيرت الأحوال ، وأقام علاقات قوية مع صلاح الدين نظراً لمصلحته المشتركة مع صلاح الدين, فقد كان عدوَّه الأول السلاجقةُ الذين دمروا الجيش البيزنطي في معركة «ميربو كيفالون» في أواخر عام 571 هـ/1176 م ، كما أنَّ كراهية البيزنطيين للصَّليبيين اللاتين ، والإيطاليين لاستيلائهم على مقدَّرات ، واقتصاد بيزنطة جعلت أندرو نيقوسى كومنين ، يتقارب أكثر من صلاح الدين ، وكان هذا التقارب يهدف إلى المحافظة على مصالحهما المشتركة «اللاتين» الصَّليبية بشكل عام ، والسَّلاجقة بشكلٍ خاصٍّ ، وقد نظر الغرب الأوروبي إلى هذا التقارب على أنَّه انتهاك لرابطة الدِّين من بيزنطة ، وتحطيماً للتقاليد؛ لأنَّ الحروب بين الجانبين الإسلامي ، والبيزنطي كادت تكون مستمرةً منذ ظهور الإسلام ، ومع ذلك أندرو نيقوسى كومنين ، وخليفته إسحاق الثاني إنجيلوس بدَّلا هذه السياسة ، وتقرَّبا من صلاح الدِّين أكبر عدوٍّ للصليبيين ، بل إنَّهما حاولا جاهدين أن يقضيا على الإمارات الصَّليبية في الشرق ، وسبق ذلك تقارب شخصي عندما نُفِيَ أندرو نيقوسى كومنين إثر عزله عن إمارة كليكية بعد عام 1116 م ، فقد لجأ إلى دمشق ، فأحسن نور الدين محمود استقباله ، وقد وضع أندرو نيقوسىكومنين أساساً لهذه العلاقة عندما أرسل سفيره إلى صلاح الدِّين في عام 581 هـ/1185 م ، يعرض عليه قيام تحالف بينهما على أسسٍ ، أهمُّها: ـ
ـ يبذل صلاح الدين الولاء لأندرو نيقوسى كومنين نظراً لأنه إمبراطور.
ـ يتعاون الطرفان ضدَّ السلاجقة ، وإذا تمَّ الاستيلاء على اسيا الصُّغرى من السلاجقة تضاف إلى أملاك الإمبراطورية.
ـ يتعهَّد أندرو نيقوسى ببذل المساعدة لصلاح الدين في نضاله ضدَّ الصليبيين في بلاد الشام. ولكن قبل أن يقرِّر صلاح الدين الردَّ على هذه الشروط خُلِعَ أندرو نيقوسى عن القدس في جمادى الاخرة عام 581 هـ/ايلول عام 1185 م ، ثمَّ قُتِلَ ، وأصبح إسحاق انجيلوس إمبراطوراً عام (1185 ـ 1195 م).
وقد رغب صلاح الدين في استمرار التقارب بين الإمبراطور إسحاق الثاني استجابةً لرغبة الثاني الذي رأى ضرورة الحفاظ على هذه العلاقة ليواجه أعداءه: وهم: النرومان في صقلية؛ الذين هددوا العاصمة القسطنطينية ، والصَّليبيين في بلاد الشام ، والسلاجقة في اسيا الصغرى ، فأقرَّ المعاهدة السابقة مع أندرو نيقوسى بعد أن عدَّل صلاح الدين في بعض شروطها بما يتفق وقوته ، ومكانته؛ التي لا تضاهيها قوة البيزنطيين المنهارة. وقد أغضب هذا الاتفاق الصَّليبيين في الشرق ، فعمد ريمون أمير طرابلس الصَّليبي ، إلى إلقاء القبض على الكسيوس أخي الإمبراطور ، وكان في طريقه من دمشق إلى القسطنطينية؛ حيث كان لا يزال ضيفاً على صلاح الدين ، وذلك أثناء مروره بعكا في عام (582 هـ/1186 م) ثم قام بإيداعه السِّجن ، واستنجد الإمبراطور إسحاق بصلاح الدين ، وحثَّه على مهاجمة الصليبيين ، والضغط عليهم لإطلاق سراح أخيه ، وهاجم في العام التالي جزيرة قبرص كي يخفِّف الضغط عن صلاح الدين ، غير أنَّ القوات البيزنطية تعرَّضت للهزيمة ، كما جرى تدمير الأسطول البيزنطي.
أما صلاح الدين؛ فقد هاجم في تلك الأثناء مملكة بيت المقدس الصَّليبية مستغلاًّ الأحداث لتحقيق هدفه الأول ، وهو ضرب الصَّليبيين ، واستطاع صلاح الدين أن يفتح بيت المقدس ، والمدن الساحلية ، وأطلق الكسيوس؛ الذي عاد إلى القسطنطينية. وبعد أن انتصر صلاح الدين على الصَّليبيين أرسل رسلاً إلى الإمبراطور البيزنطي، تحمل إليه الهدايا، وتخبره بما حقَّقه من انتصارات، ونجاحات، فاستضاف الإمبراطور رسل صلاح الدين في قصر وسط العاصمة، وجدَّد التحالف مع صلاح الدين، وردَّ الإمبراطور برسالة مماثلة ، واستقبل صلاح الدين الرَّسولين البيزنطيين في ذي القعدة عام 583 هـ/عام 1188 م بعد أيام من رفع الحصار عن صور ، بحضور أبنائه ، وأمرائه ، وموظفيه ، وقد أشاد إسحاق الثاني إنجليوس في رسالته لصلاح الدين بما قام به من جهد في سبيل إطلاق سراح أخيه ، وأعرب عن امتنانه.
وسأل صلاحُ الدين الرَّسولين عن أحوال الإمبراطورية ، ولعلَّ أهمَّ خبر حملته البعثة الإشارة إلى ما حدث في الغرب من الدَّعوة إلى حملةٍ صليبيةٍ جديدة ، وقد كان صلاح الدين على علم بهذه الأنباء ، فتبين له إخلاص إسحاق الثاني ، وقد شعر صلاح الدين ، وإسحاق الثاني بالانزعاج من هذه الأنباء ، وقد أراد صلاح الدين ضمان مساعدة إسحاق الثاني إنجليوس أثناء اجتياز الحملة بلاده؛ التي تعدُّ ممراً طبيعياً للحملات البرية ، لذلك أرسل مع الرَّسولين البيزنطيين عند عودتهما رسلاً من قبله للتفاوض مع الإمبراطور البيزنطي بشأن قيام تحالف عسكري بين الدَّولتين: الأيوبية ، والبيزنطية للتصدِّي للغزو الصليبي ، وكان من بين الهدايا التي أرسلها صلاح الدين إلى إسحاق الثاني إنجليوس منبراً لتنصيبه في مسجد القسطنطينية مع اهتمامه بعمارته ، والمحافظة على الشَّعائر الإسلامية في العاصمة البيزنطية ، وأبدى إسحاق الثاني إنجليوس رغبةً في مراعاة الشَّعائر اليونانية في كنائس فلسطين. وسيأتي الحديث مفصلاً عن العلاقة الأيوبية البيزنطية في الحملة الصليبية الثالثة لاحقاً بإذن الله.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: