الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
علاقة صلاح الدين مع الخلافة العباسية:
الحلقة: الثالثة والسبعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020

 

 لم تكن علاقات صلاح الدين مع العباسيين في يوم من الأيام سيئةً، أو لم تصل إلى درجة السوء ، والعداء ، فلربما فترت أحياناً؛ لكنها لم تصل إلى العداء ، وإذا نظرنا إلى صلاح الدين؛ نجده قد ارتبط بالخلافة العباسية نتيجة ارتباطه بالزَّنكيين ، فزعيم الزنكيين نور الدين محمود كان محباً للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله لاقتناعه بعقيدته السنية ، ولذلك فقد حرص على تأييده ، واحترامه ، وبادله الخليفة مشاعره هذه بإرساله الخلع ، والتشريفات له ، وحضّ أمراء الولايات على مساندته ضدَّ الصليبيين ، من ذلك بدأ صلاح الدين علاقةً جيدةً مع الخليفة العباسي حينما كان وزيراً للخليفة الفاطمي العاضد عام 567 هـ/1171 م ، وخطا صلاح الدين خطوة هامة في علاقته بالعباسيين حينما قطع الخطبة للخليفة الفاطمي ، وأقامها للعباسيين على منابر مصر معبراً عن طاعته ، وولائه للخليفة العباسي.
ولما مات نور الدين محمود ، واستغل الصَّليبيون حالة بلاد الشام المضطربة ، وهاجموها؛ أرسل صلاح الدين إلى الخليفة العباسي يصوِّر له الأوضاع في بلاد الشام السياسية ، وهجوم الصليبيين على بلاد المسلمين ، وبيَّن جهوده في إنهاء الخلافة الفاطمية في مصر ، وإعادة الخطبة للعباسيين ، وتصدٍّيه للصليبيين عندما هاجموا الإسكندرية في مصر ، وأسباب ضمِّه لليمن ، وبعد هذه الرسالة المطوَّلة التي عدَّد فيها إنجازاته التي تؤكد إخلاصه ، وولاءَه للخليفة العباسي طلب منه أن ينعم عليه بتقليد يشمل مصر ، والمغرب ، واليمن ، والشام ، وكلَّ ما تشتمل عليه ولاية نور الدين ، وكل ما يفتحه الله للدَّولة بسيوفنا ، وسيوف عساكرنا ، ولمن نقيمه من أخٍ ، أو ولد من بعدنا، تقليداً يضمن للنعمة تخليداً ، مع ما ينعم به من السِّمات؛ التي يقتضيها الملك.
كانت هذه الرسالة من صلاح الدين وما نتج عنها نقطةً تصبُّ في بناء صرح دولة صلاح الدين ، فقد استجاب الخليفة لمطالبه ، وأنعم عليه بحكم مصر ، والشام ، وقد رأى فيه الخليفة العباسي شخصيةً تملأ فراغ نور الدين محمود بعد وفاته ، ممَّا جعله يعترف له بالسَّلطنة؛ لأنه أصبح في نظره الشخصية الوحيدة التي يمكن أن تدافع عن المسلمين ، وقد ساهم هذا التقليد ، وغيره ، مثل: إرسال دار الخلافة له عندما كان يحاصر حماه في عام 570 هـ/1174 م رسالةً تحمل إليه التشريفات ، والتقليد ، والتمليك ، والتفويض ، ساهم كلُّ هذا في إضفاء المهابة على صلاح الدين أمام أمراء المسلمين ، وكذلك الصَّليبيين؛ الذين أقلقهم صعود نجمه. وهذه العلاقة الطيبة مع الخلافة العباسية أفادت صلاح الدين في صراعه مع الأمراء المسلمين المناوئين له ، والمتطلِّعين للسُّلطة وبخاصة الزنكيين ، لذلك كان دائماً ما يُطْلِع الخلافة على إنجازاته ، وانتصاراته ، ويحيلها إلى مفهوم حرصه على الخلافة ، وولائه ، وانتمائه لها ، والمحافظة على وجودها. وكانت العلاقة في عهد الخليفة المستضيء متميزةً.
أ ـ وفاة الخليفة المستضيء بأمر الله: 575 هـ: هو الخليفة أبو محمَّد الحسن ابن المستنجد بالله يوسف ابن المقتفي محمَّد ابن المستظهر أحمد بن المقتدي الهاشمي العباسي ، بويع بالخلافة وقت موت أبيه في ربيع الاخر سنة ست وستين وخمسمئة ، وقام بأمر البيعة عضُد الدِّين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء ، فاستوزره يومئذٍ. وكان ذا حلم ، وأناة ، ورأفة ، وبرٍّ ، وصدقات. وقال ابن الجوزي في المنتظم: بُويع ، فنودي برفع المكوس ، وردِّ المظالم ، وأظهر من العدل ، والكرم ما لم نَرَهُ من أعمارنا ، وفرَّق مالاً عظيماً على الهاشميين. وقال ابن الجوزي: ...وفي خلافته زالت دولة العبيديَّة بمصر، وخُطب له بها ، وجاء الخير ، فغلقت الأسواق للمسرَّة ، وعُملت القباب ، وصنَّفتُ كتاباً سمَّيته: «النَّصر على مصر» وعرضته على الإمام المستضيء . وخُطب له باليمن ، وبرقة ، وتوزر ، وإلى بلاد الترك ، ودانت له الملوك ، وكان يطلب ابن الجوزيِّ ، ويأمره أن يعظ بحيث يسمع ، ويميل إلى مذهب الحنابلة ، وضعف بدولته الرَّفض ببغداد ، وبمصر ، وظهرت السنَّةُ ، وحصل الأمن. وكان ابتداء مرض المستضيء في أواخر شوال من هذه السنة ، فأرادَت زوجتُه أن تكتم ذلك، فلم يمكنها، ووقعت فتنةٌ كبيرة ببغداد ، ونهبت العوامُّ دوراً كثيرةً ، وأموالاً جزيلة.
فلمَّا كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوَّال خُطِبَ لوليِّ العهد أبي العباس أحمد بن المستضيء ، وهو الخليفة الناصر لدين الله ، وكان يوماً مشهوداً نُثِر الذهبُ فيه على الخُطباء ، والمؤذِّنيين ، ومن حضر ذلك عند ذكر اسمه على المنبر ، والتنويه باسمه في العشْرِ. فلمَّا كان يوم السبت سَلخ شوَّال مات المستضيء بالله ، وله من العمر تسعُ وثلاثون سنة وكانت مدَّة خلافته تسع سنين ، وثلاثة أشهر ، وسبعة عشر يوماً ، وغُسِّل ، وصُلِّي عليه من الغد ، ودفن بدار النَّصر؛ التي بناها ، وذلك عن وصيَّته التي أوْصاها ، وترك من بعده ولدين: أحدهما وليُّ عهده ، وهو عُدَّةُ الدين والدُّنيا أبو العباس أحمد الناصر لدين الله. والاخر: أبو منصور هاشم ، وقد وزر له جماعة من الرُّؤساء ، وكان من خيار الخلفاء أمَّاراً بالمعروف نهَّاءً عن المنكر ، وضع عن الناس المكُوسات ، والضرائب ، ودرأ عنهم البدع ، والمصائب، وكان حليماً ، وقوراً ، كريماً ، فرحمه الله تعالى ، وبلَّ ثراه ، وجعل الجنة مأواه.
ب ـ علاقة صلاح الدين بالخلافة العباسية بعد المستضيء: توفي الخليفة العباسي المستضيء بالله ، وخلفه ابنه أبو العباس أحمد؛ الذي تلقَّب بلقب: الناصر لدين الله ، فبايعه صلاح الدين ، وأرسل رسولاً إلى بغداد للتعزية بوفاة والده، والتهنئة له بمناسبة توليه مهام الخلافة. كما توفي في هذه الأثناء ، سيف الدين غازي الأوَّل صاحب الموصل ، وخلفه أخوه عز الدين مسعود الأوَّل ، فكتب صلاح الدين إلى الخليفة يطلب منه أن يفوِّض إليه الأمور، كما كانت أيام والده ، واستجاب الناصر لدين الله لمطالب صلاح الدين ، وأرسل شيخ الشيوخ صدر الدين أبا القاسم عبد الرحمن ، شهاب الدين بشير الخادم بالتفويض ، والتشريف الجديد ، وذلك في (شهر رجب/كانون الأول) ولقَّبه بالألقاب السنية منها: الملك الأجلُّ السيد صلاح الدين ، ناصر الإسلام ، عماد الدَّولة ، فخر الملَّة ، صفي الخلافة، تاج الملوك ، والسلاطين ، قامع الكفرة ، والمشركين ، قاهر الخوارج ، والمرتدين عن المجاهدين ، ألب غازي يوسف بن أيوب ، أدام الله علوَّه على هذه السجايا مقبلاً. وأمره بتقوى الله ، والحفاظ على الصلاة، وقصد المساجد الجامعة، ولزوم نزاهة الحرمات ، واجتناب المحرَّمات ، وإحسان السيرة في الرَّعايا ، وإظهار العدل في الرَّعية ، وحفظ الثغور ، ومجاهدة الكفار ، والاعتماد في إدارة شؤون البلاد على أصحاب الدِّين ، والعفاف ، ثم أشار إليه بواجب شكر الخلافة على ما أسبغت عليه من التأييد ، والاحترام.
وأطمأن صلاح الدين لمساندة الخليفة له ، وتقبَّل كتابه بقبول حسن ، وكتب إليه يقول: الخادم ولله الحمد يعدِّد سوابق في الإسلام ، والدولة العباسية لا يعمرها أولية أبي مسلم: لأنه والى ، ثم وارى ، ولا اخرية  طغر لبك؛ لأنه نصر ، ثم حجر ، والخادم خلع من كان ينازع الخلافة رداءها... فكسر الأصنام الباطنية بسيفه الظاهر. وكان يخطب له على المنابر في جميع الأراضي التابعة له ، ويرتدي الخطباء في كلِّ مناسبة شارات الدولة العباسية ، ويرفعون أعلامها السَّوداء.
وفي المقابل امتنع الخليفة عن منح الخلع السوداء ، والعمامة السوداء لأحد المقربين ، أو الأمراء ممَّن يدخل في حكم صلاح الدين ، وذلك احتراماً له ، وتقديراً لشخصه ، وتمييزاً له عن غيره. من ذلك: أنَّه رفض في عام 578 هـ/1182 م منح الأمير جمال الدين خوشترين الذي هرب من الموصل ، واراد الالتحاق بصلاح الدين ـ خلعةً سوداء، وعمامةً سوداء بناء على طلبه، ممَّا يدلُّ على رغبة الخليفة الصَّادقة في الحفاظ على العلاقات الطيبة مع صلاح الدين؛ إلا أنَّ الخليفة العباسي لم يمنحه تقليداً بولاية الموصل ، وكان صلاح الدين قد وجَّه عدَّة رسائل إلى بغداد يوضِّح حاجته في الحصول على تقليد بإمارة الموصل؛ لكن طلبه لم يتحقَّق ، برغم: أنه أعطاه تقليداً بإمارة امد في ديار بكر وتعد الموصل قريبةً جداً من حدود الخلافة، مما يثير مخاوف الخليفة.
ويذكر المؤرِّخون: أنَّ السبب الذي حمل الخليفة الناصر على عدم إعطائه تقليداً بولاية الموصل ربما يكون من امتداد سلطان صلاح الدين إلى البلاد القريبة من الخلافة ، كالموصل ، والجزيرة. وفي خلاف صلاح الدين مع سيف الدِّين غازي صاحب الموصل استجاب صلاح الدين لرغبة الخليفة ، وانسحب من سنجار ، ولكن صلاح الدين تجاوز هذا الموقف بعتابٍ رقيق ، ولكنه استمرَّ في طاعته ، ومراسلة الخليفة ، وإطلاعه على إنجازاته ، وأعماله أولاً بأوَّل ، وخاصةً معركة حطين ، وخاطبه قائلاً: الخادم يشرح من نبأ هذا الفتح العظيم ، والنَّصر الكريم. وثق الخليفة بصلاح الدِّين ، وقدَّر له هذا الإخلاص في صور هدايا أرسلها له بعد فتح بيت المقدس ، ومن جملة هذه الهدايا لوحاً منقوشاً عليه بعض الايات ، والكلمات لتعليقه على باب بيت المقدس ، قال فيه: أجري هذا الفتح على يد محيي دولته ، وسيف نصرته ، والقائم بطاعته ، المخلص في عبوديته ، والمجاهد تحت رايته ، يوسف بن أيوب ، معين أمير المؤمنين. وقد حاول الوشاة الإيقاع بين الخليفة ، وصلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين، يأتي الحديث عن ذلك في محلِّه بإذن الله.


يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
        من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022