الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
علاقة صلاح الدين مع سلاجقة الرُّوم:
الحلقة: الثانية والسبعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020


 كان عز الدين قلج أرسلان الثاني عام (550 ـ 585 هـ/1155 ـ 1192 م) سلطاناً على سلاجقة الرُّوم ، وكان بينه ، وبين البيزنطيين صراعاً ، انتهى بانتصاره على البيزنطيين في معركة ميريوكيفالون في عام (571 هـ/1176 م) وكان انتصاره مؤثراً على وجود الدَّولة البيزنطية؛ حيث إنه تمَّ في هذه المعركة تحطيم القوة الميدانية للجيش البيزنطي نهائياً. وذكر المؤرخون: أنَّ هذه المعركة (معركة ميريو كيفالون) قررت مصير اسيا الصغرى ، والشرق بصورةٍ نهائيَّةٍ ، فلم يعد بوسع البيزنطيين تهديد بلاد الشام بعد ذلك.
1 ـ المواجهة الأولى بين صلاح الدين وقلج أرسلان: فكر قلج أرسلان الثاني في بلاد الشام ، وأراد أن يؤمِّن له طريقاً إلى الفرات ، فتظاهر بالسياسة ، والمداهنة ، وأرسل رسولاً إلى دمشق ، اجتمع بصلاح الدين ، وطلب منه حصن «رُعبان» وحصن «كيسوم» وهما إلى جنوب قلج أرسلان ، فرعبان مدينة بالثُّغور بين حلب ، وسميساط قرب الفرات معدودة بالعواصم ، وكيسوم قرية من أعمال سميساط. وجاء رسول قلج أرسلان ليطلب هذا الطلب بحجَّة أنَّهما كانا سابقاً من أملاك سلاجقة الروم ، وضمهما والده مسعود ، ثم اضطر أن يتنازل عنهما لنور الدين محمود. وأغضبت هذه الرسالة صلاح الدين ، وأثارت غيظه ، فأغلظ القول لرسول أرسلان ، بل وتوعَّد قلج أرسلان الثاني ، فعاد الرسول إلى قونية ، وأخبر سلطانها بما جرى ، فغضب قلج أرسلان ، وهاجم حصن «رُعبان» في عام 575 هـ/1179 م. وكان يحكم هذا الحصن شمس الدين بن المقدَّم من قبل صلاح الدين ، فهاجمه قلج أرسلان بقوَّةْ كبيرة تساوي عدَّة الاف.
وعندما علم صلاح الدِّين أرسل قوةً عسكرية تقدَّر بألف فارس بقيادة المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه صاحب حماة ، فتقدَّم بقواته حتى اقترب من المعسكر السَّلجوقي ، ودار حوله مستكشفاً ، فتبين له أن جيش أرسلان مسترخٍ غافل ، فاغتنم هذه الفرصة ، ووزَّع قسماً من قواته حول المعسكر ، ومعهم الآلآت الموسيقية ، البوقات ، وغيرها ، واستعدَّ هو من القسم الاخر للانقضاض على المعسكر ، وهيأ جوَّ المفاجأة ، وفي الوقت المحدَّد أعطى إشارة البدء للموسيقيين بإطلاق الموسيقى ، وإحداث جلبة مصطنعة ، فلمَّا سمع الجنود السَّلاجقة تلك الضجَّة من أصوات الموسيقى ، وجلبة الرجال ، واصطكاك الحديد ، وشدَّة وقع حوافر الخيل التي كانت تدور باستمرار حول المعسكر؛ هالهم ذلك ، وتوهَّموا: أنَّهم مطوَّقون بأعداد هائلة من الجنود؛ فَدَبَّ الذعر بينهم ، وغرقوا في بحر من الفوضى ، ثم لاذوا بالفرار طالبين النجاة ، تاركين وراءهم خيامهم ، وأثقالهم ، وانقض عليهم في تلك اللحظة المظفر تقي الدين عمر بفرسانه ، وأخذ يعمل فيهم قتلاً ، وأسراً؛ وهم هاربون لا يلوون على شيءٍ ، وغنم جميع ما تركوه ، ثُمَّ منَّ على الأسرى ، وسرَّحهم ، وعاد قلج أرسلان الثاني إلى ملطية ، يجرُّ أذيال الهزيمة ، والعار. وملطية بلد من بلاد الشام المشهورة ، والمتاخمة لبلاد الروم.
2 ـ المواجهة الثانية بين صلاح الدين وقلج أرسلان الثاني: وبعد مرور عام على هذه الأحداث ، عاد النزاع مَرَّةً أخرى بين صلاح الدين ، وقلج أرسلان ، وكان سبب هذا النزاع مسألة عائلية ، فقد أقام قلج أرسلان الثاني علاقات سياسية مع أصحاب حصن كيفا ، ووثَّق هذه العلاقات بزواج ابنته سلجوقة خاتون بنور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن ، ومنحه قلج أرسلان الثاني عدداً من الحصون؛ التي تجاور بلاده كمهر,  وبعد فترة من الزمن أحبَّ نور الدين محمَّد مغنيةً فمال إليها ، وتزوَّجها ، وأعرض عن زوجته السَّلجوقية ، فكتبت إلى أبيها تشكوه ، فبعث إليه: إمَّا أن تحسن عشرتها ، وإما أن تفارقها! فلم يهتمَّ به ، عند ذلك قرَّر قلج أرسلان الثاني القيام بحملة عسكرية ضدَّ نور الدِّين محمد لتأديبه ، والاستيلاء على بلاده ، فاستجار هذا الأخير بصلاح الدين ، فأرسل صلاح الدين إلى قلج أرسلان يطلب منه أن يتخلَّى عن محاولته ضدَّ إمارة كيفا ، فأجابه بأنَّه أعطى نور الدين محمد عدَّة حصون مجاورةً لبلاده عندما زوَّجه ابنته ، وقد سلك سلوكاً سيئاً مع ابنته ، فقرَّر استعادة ما أعطاه من الحصون.
ومن ثمَّ ترددت الرُّسل بين الرَّجلين دون أن تسفر عن نتيجة ، فاضطر صلاح الدين إلى التوجُّه على رأس جيشه إلى بلاد الروم لإيقاف قلج أرسلان الثاني عند حَدِّه ، والتحق به نور الدين محمَّد ، فتقدَّم إلى تل باشر ، وهي قلعة حصينة شمال حلب، ثم عرَّج على رُعبان ، فلمَّا علم قلج أرسلان الثاني بتقدُّم صلاح الدين؛ خشي الهزيمة ، وأرسل على الفور أحد كبار مساعديه وهو الأمير اختيار بن عفراس؛ ليشرح له الموقف ، وأنَّه لا بدَّ من تأديب نور الدين محمَّد على تصرُّفه. وأسفرت الاتصالات عن اجتماع الأطراف الثلاثة: نور الدين ، وقلج أرسلان ، وصلاح الدين في شهر جمادى الأولى 576 هـ/تشرين الأول عام 1180 م.
وبعد مداولات مستفيضة تمسَّك صلاح الدين بوجهة نظره ، وهدَّد بالزَّحف على ملطية ، وبلاد السَّلاجقة؛ إن أصرَّ قلج أرسلان على تأديب نور الدين محمَّد. وكان الأمير السَّلجوقي قد شاهد أثناء إقامته في المعسكر الأيوبي شدَّة صلاح الدين ، وقوَّته ، وكثرة سلاحه ، ودوابِّه ، فهاله الأمر ، لذلك بذل جهداَّ مضنياً في شرح القضية من الوجهة الدِّينية ، فاقتنع صلاح الدين بكلامه ، وأخيراً تمَّ الاتفاق على ما يلي:
ـ يُطلِّق نور الدين محمد المغنية بعد سنة.
ـ إذا لم يفعل ذلك يتعاون صلاح الدين مع قلج أرسلان الثاني على حربه.
ـ يدخل جميع أمراء الموصل ، وديار بكر ، والأرتقة في هذا الصُّلح.
ويبدو: أنه جرى اتفاق ثنائي على هامش المباحثات بين صلاح الدين ، والأمير السلجوقي بمساعدة الأول للسَّلاجقة في حربهم ضدَّ الأرمن من كيليكيه الذين كانوا يهاجمون الأراضي السَّلجوقية بدليل: أنَّه هاجم بلاد الأرمن عقب توقيع الصلح مباشرةً ، وقبل أن يعود إلى بلاد الشام . ومهما يكن من أمر ، فقد كان لهذا الاحتكاك الأيوبي السَّلجوقي انعكاساتُ سلبية ، إلى حدٍّ ما على العلاقات بين الطرفين في المستقبل ، توضَّحت في التَّحالفات التي قامت بين صلاح الدين ، والإمبراطور البيزنطي إسحاق أنجليوس من جهة ، وبين قلج أرسلان الثاني ، والأمبراطور فريدريك بربروسا من جهة ثانية.

 

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
        من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022