الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
محاولات الشيعة الإسماعيلية للقضاء على صلاح الدين:
الحلقة: الواحدة والسبعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ يوليو 2020


انقسمت الطائفة الإسماعليلة بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر في عام 487 هـ/1094 م إلى فرقتين: النزارية التي اعتقد أتباعها بأحقية ابنه الأكبر نزار بالخلافة ، وقد فرُّوا إلى الشرق بعد أن تعرَّضوا لحملة اضطهاد في مصر ، وكان على رأسهم الحسن بن الصَّبَاح الذي أسس في بلاد فارس ما يُعرف بالفرقة النزارية ، وغلب على اتباعه اسم الحشيشية ، أو الباطنية ، والفرقة الثانية هي المستعلية ، أتباع المستعلي الابن الثاني للمستنصر ، وتعمَّق الحسن بن الصَّباح في دراسة العقيدة الإسماعيلية.
وكان الحسن بن الصباح الحميري قد نشأ بالرَّي في بلاد فارس ، وتأثر في شبابه بالدَّعوة الإسماعيلية ، وزار مصر ، والتقى بالمستنصر ، وظل الحسن بن الصباح مقيماً في مصر زهاء ثمانية عشر شهراً كان خلالها موضع حفاوة المستنصر ، فأمدَّه بالأموال ، وأمره بأن يدعو الناس على إمامته في بلاد العجم. وكان الحسن بن الصَّباح يرى أنَّ تولية نزار تتَّفق مع التعاليم الإسماعيلية التي تشترط في الإمام أن يكون من أبناء أبيه. ولا شك بأنَّ إقامة الحسن بن الصَّباح في مصر أتاحت له التعرُّف على أحوال الدولة الفاطمية ، وما الت إليه الدَّعوة الإسماعليلة في ظلِّ سيطرة بدر الجمالي ، وقد عزم على إقامة الدعوة للمستنصر في فارس ، وخراسان ، وحرص على تكوين مجتمع إسماعيلي صرف، وحين عاد إلى بلاد فارس؛ بدأ بنشر دعوته إلى نزار رافضاً البيعة للمستعلي معتبراً نفسه نائباً للإمام ، ومخططاً لإنشاء دولة إسماعيلية جديدة في المشرق الإسلامي.
وبعد أن رجع إلى فارس ، وبلغ أصفهان سنة 473 هـ باشر دعوته السرية ، ولما ضيَّق نظام الملك عليه الخناق؛ رحل إلى قزوين ، واستولى على قلعة «الموت» الحصينة ، وجعلها مقرَّاً له ، ولجماعته ، فتوسَّعوا ، وأكثروا الفساد في البلاد ، ولم يكد الحسن الصَّباح يستولي على قلعة الموت؛ حتى بادر بالاستيلاء على القلاع المجاورة ، فأطلق دعاته لتحقيق هذا المأرب. ولم يمض وقت طويل حتى كان الصباح قد استولى على المنطقة الواقعة جنوب قزوين برمَّتها بعد أن سيطر على القلاع المتناثرة في أرجائها ، والتي تبلغ نحو الستين قلعة ، وكانت هذه القلاع تقع في الغالب وسط وديان صالحة للزراعة ، وبالقرب من موارد ثابتة للمياه ، وكانت القلعة تكوِّن وحدةً اقتصاديةً عسكريةً مستقلةً بذاتها ، يعيش أهلها معتمدين على أنفسهم في زراعة الأرض,  والدفاع عن القلعة ، وما حولها في مواجهة أيِّ غزوٍ ، أو اعتداء.
واستطاع الحسن الصباح في عهد نظام الملك السَّلجوقي أن يوجِّه أتباعه الشديدي الولاء له لتحقيق أهداف سياسية مناهضة لخصومه ، وبخاصة الخلافة العباسية السُّنِّية ، فقد تحدَّى شرعيتها بالإضافة إلى بعض الأمراء المسلمين من السَّلاجقة ، وأهم ما استخدمه من الأسلحة هو الاغتيال ، وقام أتباعه بسلسلة عمليات اغتيال كان ضحيتها الكثير من رجال الدولة العبَّاسية ، وأمرائها ، فعظم أمرها ، وقويت شوكتهم ، وخشيهم الناس ، وامتلؤوا منهم رعباً.
وكان الحسن الصباح ، وأتباعه من الإسماعيلية الشيعيَّة شديدي البغض لأهل السُّنَّة. وتوسعت الحركة الإسماعيلية الباطنية الشيعية ، وامتلكوا عدَّة حصونٍ هامَّة في بلاد الشام ، مثل: القدموس ، والعليقة ، والكهف ، ومصياف ، وغيرها. والواضح: أنهم ارتاعوا لزوال الخلافة الفاطمية ، وانتصار المذهب السُّنِّي في مصر ، وشعروا بالخطر يتهدَّدهم في بلاد الشام ، وبخاصَّةٍ: أن نور الدين محمود كان قد قيَّد توسُّعهم على الطريق الشرقي ، من أجل ذلك أرسلت القيادة في قلعة الموت في عام 558 هـ/1163 م رشيد الدِّين سنان البصري ، المعروف بشيخ الجبل ليتولَّى إقليم النصيرية في بلاد الشام ، فتوجَّه هذا إلى حلب متنكِّراً بزيِّ الدراويش ، وبقي فيها عدَّة أشهر ، ثم تنقَّل بين قلاع الحشيشية حتى استقرَّ في مصياف.
أ ـ محاولة الشيعة الإسماعيليَّة الأولى لاغتيال صلاح الدين: نقم الشِّيعة الباطنية (الحشاشون) على صلاح الدين لأنَّه أسقط الخلافة الفاطميَّة ، وتقدَّم لبلاد الشام لتوحيده ، وضمِّه إلى مصر ممَّا يشكِّل تهديداً لكيانهم ، فتعاون رشيد الدِّين مع كلّ من الصليبيين ، والزَّنكيين للقضاء عليه ورشيد الدَّين كبير الإسماعيلية وطاغوتهم ، وهو أبو الحسن سنان بن سلمان بن محمد البصري الباطني ، صاحب الدعوة النزارية ، كان ذا أدبٍ ، وفضيلة ، ونظر في الفلسفة ، وأيام الناس ، وفيه شهامة ، ودهاء ، ومكر ، وغوْر. وقال عنه الذهبي: وكان سخطةً، وبلاءً ، متنسِّكاً، متخشعاً، واعظاً، وكان يجلس على صخرةٍ ، لا يتحرَّك منه سوى لسانه ، فربطهم ، وغلوا فيه ، واعتقد منهم فيه الإلهية ـ فتباً لهم، ولجهلهم ـ فاستغواهم بسحرٍ، وسيمياء، وكانت له كتبٌ كثيرةٌ، ومطالعةٌ، وطالت أيامه.
ففي عام 570 هـ/1174 م عندما توجَّه صلاح الدين لحصار حلب أرسل سعد الدين كمشتكين أتابك الملك الصَّالح إسماعيل إلى رشيد الدِّين يطلب مساعدته ، وبذل له أموالاً كثيرة,  وعدداً من القرى ثمناً لقتل صلاح الدين، والواضح: أن مصلحةً مشتركةً قد جمعت الطرفين ، هي العداء لصلاح الدين ، أرسل رشيد الدين سنان جماعةً من أتباعه الفدائيين إلى المعسكر الأيوبي ، فاكتشفهم أميرٌ يدعى: خمارتكين ، فقتلوه ، ووصلوا إلى خيمة صلاح الدين في جوف معسكره ، وحمل عليه أحدُّهم ليقتله ، فقتل دونه ، واستبسل الباقون في الدفاع عن أنفسهم قبل أن يُقتلوا جميعاً. ومن المستبعد أن يكون تحريض كمشتكين هو الدافع الأساسي ، والوحيد لرشيد الدين ، للقيام بتلك العملية؛ لأنه كان يعمل لأسباب خاصَّة به ، وهي: أن صلاح الدين منذ أن دخل بلاد الشام أضحى العدو الرئيسي للحركة، لأنه كان يعمل على توحيد أهل السنة هناك؛ الذي من شأنه أن يهدِّد كيان حركته.
ب ـ المحاولة الثانية: لم يتوقَّف رشيد الدين عن محاولات اغتيال صلاح الدين رغم فشل المحاولة الأولى ، بل زاد تصميمه ، فأرسل في ذي القعدة عام 571 هـ/ أيار عام 1176 م جماعةً من أتباعه يتنكرون في زي الجنود ، فدخلوا المعسكر الأيوبي أثناء حصار قلعة عزاز ، وباشروا الحرب مع جند صلاح الدين ، واختلطوا بهم يتحيَّنون الفرصة لقتل صلاح الدين ، وفيما كان الجند مشغولون بحصار القلعة ، مرَّ صلاح الدين بخيمة أمير جادلي الأسدي لتشجيع الجند على مواصلة القتال,  فهجم عليه أحد الإسماعيلية ، وضربه بسكينة على رأسه ، إلا أنَّ صلاح الدين كان يلبس خوذته الحديدية فوق رأسه ، فعاد الرَّجل ، وضربه على خدِّه ، فجرحه ، فأمسكه صلاح الدين بيده ، وحاول تعطيله وهو مستمرٌّ في هجومه ، وضربه إلى أن أدركه الأمير سيف الدين يازكوج ، وقتله ، ثمَّ هجم فدائيٌّ ثانٍ على صلاح الدين ، فتصدَّى له داود بن منكلان ، وقتله ، ثم هجم فدائيٌّ ثالث لتنفيذ المهمَّة ، فاعترضه الأمير علي أبو الفوارس، وطعنه ناصر الدين محمد بن شيركوه ، وقتله ، وخرج رابع من الخيمة هارباً ، فطارده الجند ، وقتلوه.
وقد تسبَّب هذا الحادث المفاجئ في اضطراب صلاح الدين؛ حتَّى إنَّه فحص جنوده جميعاً ، فمن أنكره؛ أبعده ، ومن عرفه؛ أقرَّه ، وحرص حرصاً شديداً ، واتَّخذ تدابير احترازية صارمة ، وبالطبع فقد كان للحادث أثرٌّ في نفوس الجند ، حتى إنَّهم توقَّفوا عن القتال أمام عزاز ، وخاصَّة عندما أشيع: أنَّ صلاح الدين قد قُتِل ، وعلى سبيل الاحتياط الشديد ضرب حول سرادقه برجاً من الخشب. وقد أرسل القاضي ليطمئن الملك العادل أخا صلاح الدين فيها على أخيه ، ويروي له تفاصل الحادث الحقيقية.
ج ـ أسلوب صلاح الدين في تأديب الإسماعيليَّة: أرسل صلاح الدين إلى رشيد الدين سنان يتهدَّده ، فردَّ عليه زعيم الحشاشين بهذه الأبيات:
ياللرجال لأمر هالَ مقطعُهُ
فإذا الذي بقراعِ السَّيف هدَّدنا
قام الحَمَامُ إلى البازي يُهدِّدُهُ
        ما مرَّ قطُّ على سمعي توقُّعُهُ
لا قام مصرع جنبي حين تصرعُهُ
واستيقظت لأسود البَرِّ أُصبعه

وقفت على تفاصيل كتابكم ، وجُملِه ، وعلمنا ما هدِّدنا به من قوله ، وعمله ، فبالله العَجَبَ من ذبابة تطنُّ في أذُن فيل ، وبعوضةٍ تُعَدُ في التماثيل ، ولقد قالها من قبلك قوم فدمَّرنا عليهم ، وما كان لهم من ناصرين ، أَلِلْحَقِّ تدحضون ، وللباطل تنصرون؟ وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون ، ولئن صدر قولك في قطع رأسي ، وقلعِكَ لِقِلاعي من الجبال الرَّواسي ، فتلك أمانيُّ كاذبةٌ ، وخيالاتٌ غير صائبة ، فإنَّ الجواهر لا تزول بالأعراض ، كما أنَّ الأرواح لا تضمحل بالأمراض ، وإن عُدْنا إلى الظاهر ، وعُدَنا عن الباطن؛ فلنا في رسول الله أسوةٌ حسنة: «ما أوذي نبيٌّ ما أوذِيْتُ». وقد علمت ما جرى على عترته وشيعته ، فالحال ما حال ، والأمر ما زال ، وقد علمتم ظاهر حالنا ، وكيفيَّة رجالنا ، وما يتمنَّوْنَّهُ من الفوت ، ويتقرَّبون به من حياض الموت. وفي المثل: أو للبطِّ تُهدِّدُ بالشَّطِّ؟ فهيِّأئ للبلايا أسباباً، وتدرَّعْ للرَّزايا جلباباً ، فلأظهرن عليك منك ، وتكون كالباحث عن حتفه بظلفه ، وما ذلك على الله بعزيز ، فكن لأمرنا بالمرصاد ، واقرأ أوَّل (النَّحل) واخر صلى الله عليه وسلم.
وبعد محاولات الاغتيال الفاشلة أخذ صلاح الدين بالاحتراز الشديد ، حتى إنه ضرب حول سرادقه برجاً من الخشب ، وكان للحادث أثرٌ بالغ في نفوس الجند؛ الذين اضطربوا ، وتوقفوا عن القتال أمام عزاز ، واضطرب أمر الناس أيضاً ، حين شاع في البلاد أنَّ صلاح الدين قد قُتل ، فاضطر صلاح الدين ، عندئذ إلى الطواف بين جنده ليشاهده الناس ، كما أرسل القاضي الفاضل كتاباً إلى الملك العادل أخي صلاح الدين ، يطمئنه فيه ، ويروي له حقيقة الحادث . وصمَّم صلاح الدين على أن يضع حداً لهذه الحركة؛ التي وضح خطرها في بلاد الشام ، وجهَّز حملةً عسكريةً في شهر محرم عام 572 هـ/شهر تموز عام 1176 م ، فحاصر حصونهم ، ونصب المجانيق الكبار عليها ، وأوسعهم قتلاً ، وأسراً ، وساق أبقارهم ، وخرَّب ديارهم ، وهدم أعمارهم ، وهتك أستارهم؛ حتى شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود تكشي صاحب حماة ، وكانوا قد أرسلوا في ذلك؛ لأَّنهم جيرانه ، فرحل عنهم ، وقد انتقم منهم ، ودمَّر قوَّتهم.
وقد اضطر الحشاشون إلى التفاهم مع صلاح الدين بعد فشل محاولاتهم المتكرِّرة لاغتياله ، وعدم قدرتهم على التصدِّي لقوَّاته ، لذلك فضَّلوا وقوفهم على الحياد على أن يكون عدواً مباشراً لهم. ومهما يكن من أمر ، لم تشر المصادر التاريخية بعد إبرام الصُّلح إلى أيِّ احتكاكٍ بين الطرفين ، وانفرد ابن الأثير بروايةٍ تشير إلى تعاونهما عندما طلب صلاح الدين من رشيد الدين سنان قتل رتشارد قلب الأسد ، وكونراد مونتفيرات صاحب صور ، ووعده بدفع الأموال مقابل ذلك ، لكن سنان خشي أن يتخلَّص صلاح الدين من أعدائه ، فيتفرَّغ للحشيشة ، ويقضي عليهم ، لذلك اكتفى بقتل كونراد ، وعدل عن قتل ريتشارد.

 

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
        من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022