السبت

1446-11-05

|

2025-5-3

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
علاقة صلاح الدين بالصَّليبيين قبل حطين:
الحلقة: الخامسة والسبعون    
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020


 كان صلاح الدين يهدف إلى توحيد مصر ، وبلاد الشام من أجل تحقيق النصر على الصَّليبيين ، وفي نفس الوقت أدرك صلاح الدين: أنَّ مقاومة الصَّليبيين ، وإشغالهم لا يجوز أن ينتظر تحقيق الوحدة الشاملة ، ولذلك اعتمد صلاح الدين في استراتيجية العمل على هذين الخطين: خط الوحدة ، وخط مقاومة الصَّليبيين ، واستغلال كلِّ ظرفٍ يمكن أن يفيد منه في مقاومة الصَّليبيين ، ولم يغفل صلاح الدين في خضم ذلك أن يتَّبع العديد من الاستراتيجيات ، وكان منها:
أ ـ العمل على زيادة تحصين مناطق سيطرته في مصر ، والشام ، سواءٌ أكان ذلك بزيادة قواته العسكرية ، والاهتمام بقسميها البري ، والبحري ، أو بالعمل على بناء تحصينات ، وقلاع تؤمِّن له ، ولقوَّاته حمايةً أفضل ، أو لجعلها مناطق مراقبة لتحصينات الصَّليبيين ، فاهتمَّ بتحصين القاهرة ، والإسكندرية ، ودمياط ، وبنى القلاع في بلاد الشام مثل قلعة عجلون ، وفي نفس الاتجاه العمل في سبيل السَّيطرة على القلاع ، والحصون الواقعة تحت السيطرة الصَّليبية,  أو العمل على منع ، أو إعاقة العمل الصَّليبي لبناء قلاع ، وتحصينات يمكنها أن تهدِّد المناطق الإسلاميَّة.
ب ـ العمل على عقد اتَّفاقيات مع قوى يمكن أن تؤثر على إمداد الصَّليبيين ، كما يمكنها أن تؤثِّر على الجبهة الإسلامية اقتصادياً ، وعسكرياً ، وكان التركيز في هذا المجال على المدن الإيطالية التجارية.
ج ـ اللجوء إلى عقد هدن مع بعض الأطراف الصَّليبية بهدف التفرُّغ لمحاربة طرف صليبي اخر مستغلاً في ذلك أوضاع الصَّليبيين ، وخلافاتهم ، وخاصَّة ما كان بين مملكة بيت المقدس ، وإمارة طرابلس ، كما كان يستغلُّ هذه الهدن للتفرُّغ لإتمام تحصينات عسكرية ، أو للعمل على إتمام الوحدة منطلقاً في ذلك من أنَّ طبيعة الأوضاع لا تتيح له المحاربة على أكثر من جبهةٍ واحدةٍ في نفس الوقت.
وقد استفاد صلاح الدين لتحقيق ذلك من ظروف كانت تميل لصالح الجبهة الإسلامية؛ التي تسير إلى طريق الوحدة في حين: أنَّ الجبهة الصليبية كانت تسير في خط الانحدار حسب تعبير المؤرخ روبرت باينه ، كما استفاد صلاح الدين من الروح الجهادية؛ التي بدأت معالمها بالوضوح منذ أيام عماد الدين زنكي ، ومن بعده ابنه نور الدين. وعند الحديث عن المعارك؛ التي خاضها صلاح الدين الأيوبي ضدَّ الصليبيين في هذه الفترة علينا أن ندرك بأنها كانت معارك متعدِّدة ، وفي أكثر من موقع ، ولكنَّها لم تكن في هذه المرحلة لتصل إلى مرحلة خوض حرب شاملة مع الصَّليبيين وأهم تلك المعارك هي:
أ ـ غارات الصَّليبيين على أملاك صلاح الدين: 570 ـ 572 هـ: كان أول ما التزم به ريموند الثالث من واجبات ـ بوصفه وصياً على عرش مملكة بيت المقدس ـ أن يحدَّ من نموِّ قوة صلاح الدين ، ومنعه من ضمِّ حلب ، لذلك لم يتوقف الصليبيون عن شنِّ الغارات على أملاكه خلال الصِّدام بينه وبين الزَّنكيين ، وإن كانت هذه الغارات ضعيفة الأثر ، محدودة النطاق بسبب اضطراب أوضاعهم، ففي شهر محرم عام 571 هـ/شهر اب عام 1175 م انتهز الملك الصليبي بلدوين الرابع فرصة انشغال صلاح الدين مضطراً لتهدئة الجبهة مع الصَّليبيين؛ ليتفرَّغ لقتال سيف الدين غازي أمير الموصل؛ حتى لا يحارب على جبهتين في وقتٍ واحد: الزنكيين في الشمال ، والشرق ، والصليبيين في الجنوب ، والغرب ، فجدَّد الهدنة مع مملكة بيت المقدس.
ونقض الصَّليبيون الهدنة في العام الثاني في غمرة استمرار النزاع بين صلاح الدين ، والزنكيين ، فهاجموا الأراضي التي يسيطر عليها صلاح الدين ، فأغار ريموند الثالث صاحب طرابلس على إقليم البقاع ، في حين زحف الجيش الملكي من الجنوب بقيادة الملك وهمفري سيدتبنين ، ويبدو: أن ريموند الثالث تعرَّض للهزيمة على يد ابن المقدَّم أمير بعلبك ، غير أن الجيشين الصَّليبيين اجتمعا سوياً ، واصطدما بشمس الدَّولة توران شاه ، أخي صلاح الدين ، ونائبه في دمشق، عند عنجر في البقاع ، وكان قد خرج لنجدة بعلبك؛ غير أن اللقاء لم يكن حاسماً ، ولم يكد صلاح الدين يقدَم من الشمال؛ حتى انسحب الصَّليبييون من المنطقة ، ولم يشأ أن يتعقَّبهم ، وإنما فضَّل العودة إلى مصر تاركاً أخاه توران شاه في دمشق.
ب ـ الصَّليبييون يغيرون على حمص ، وحماة: لا شكَّ بأنَّ الصليبيين أضاعوا من أيديهم فرصةً ذهبيةً لضرب صلاح الدين في مصر ، في الوقت الذي لم يُثبِّت أقدامه شمالي بلاد الشام ، ذلك: أنَّ الظروف كلَّها كانت مهيأةً لهم بعد أن وضع الأمبراطور البيزنطي كلَّ ثقله لنجاح الحملة ، وقد أثبتت الأيام: أنَّ تلك الفرصة لم تتح للصليبيين بعد ذلك، وإذا كان مشروع الحملة الصليبية ـ البيزنطية المشتركة على مصر قد باء بالفشل؛ فإنَّ ذلك لم يمنع الصليبيين من الاستفادة من الحملة الفلمنكية لمهاجمة الأراضي الإسلامية؛ التي يسيطر عليها صلاح الدين في بلاد الشام ، ففي 4 ربيع الأول عام 572 هـ/11 أيلول عام 1176 م غادر صلاح الدين بلاد الشام إلى مصر بعد أن عقد الصلح مع الملك الصالح إسماعيل صاحب حلب، فانتهز بلدوين الرابع الفرصة ، وكرَّر الطلب من فيليب الألزاسي بضرورة ضرب القوات الإسلامية المتمركزة على الحدود الشرقية لإمارتي الرُّها ، وطرابلس ، فوافق الأخير على طلبه ، ثم غادر بيت المقدس في شهر ربيع الاخر عام 573 هـ/نهاية تشرين الأول عام 1177 م متوجهاً إلى الشَّمال لمساعدة كلٍّ من ريموند الثالث صاحب طرابلس ، وبوهيموند الثالث صاحب إنطاكية بناءً على طلبهما ، حيث بدا ممكناً إنجاز شيءٍ ما في ظل غياب صلاح الدين ، وأمدَّه الملك بمئة فارس ، وألفين من المشاة، وأغارت كتيبة من الجيش على بلاد حمص ، فوقعت في كمين ، وفقدت كلَّ ما حصلت عليه من غنائم,  بينما أغار كلٌّ من فيليب ، وريموند الثالث بقوَّاتهما على حماة؛ التي كادت أن تسقط لولا صلابة المسلمين في الدِّفاع عنها ، وارتدَّا خائبين بعد حصارٍ دام أربعة أيام دون أن يحقِّقا شيئاً. ويبدو: أنَّ الجدب الذي عَمَّ المنطقة في تلك السنة كان من بين أسباب هذه الغزوة ، وفي الكتاب الفاضلي المرسل إلى بغداد بتوقيع صلاح الدين ما يدلُّ على ذلك: خرج الكفار إلى البلاد الشامية فاسخين لعقدٍ كان مُحْكماً ، غادرين غدراً صريحاً ، مُقَدِّرين أن يجهزوا على الشَّام لمَّا كان بالجدب جريحاً ، ونزلوا على ظاهرة حماة يوم الإثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى.
ج ـ الإغارة على حارم: كانت حارم مدينةً تقع شرقي نهر العاصي على بعد اثني عشر ميلاً من إنطاكية ، وقد طلب أمير إنطاكية بوهيموند الثالث مِنْ فيليب الألزاس أن يشنَّ هجوماً على مدينة حارم ، ووعده ببذل المساعدة، فتوجَّه فيليب إليها بصحبة ريموند الثالث ، وكانت انذاك تحت حكم كمشتكين الأتابك السابق للملك الصالح إسماعيل ، وقد سادها الاضطراب الدَّاخلي بسبب مساندة أهلها لكمشتكين؛ الذي كان على خلاف مع الملك الصالح إسماعيل. حوصرت حارم على يد الصليبيين في أوائل شهر جمادى الاخرة شهر تشرين الثاني ، فتناسى أهل حارم خلافاتهم ، وقاوموا الحصار؛ الذي استمرَّ أربعة اشهر ، وكانت مقاومتهم باسلةً ، وفي الوقت نفسه أخذ الحلبيُّون يشنُّون غاراتٍ على الأراضي الصليبية القريبة ، وأرسل الصَّالح إسماعيل فرقةً عسكريَّةً اجتازت خطوط الصَّليبيين ، وانضمت إلى حامية المدينة، وخرج صلاح الدين ، في هذا الوقت ، من مصر ليهاجم مملكة بيت المقدس الخالية مِمَّن يحميها ، فخشي الصَّليبييون أن يستنجد الحلبيُّون به ، كما عزموا على مساعدة مملكة بيت المقدس ، لكنَّ الملك الصالح إسماعيل فاوضهم على فكِّ الحصار لقاء دفع مبلغ من المال ، كما أنذرهم بأنَّه سيسلم المدينة إلى صلاح الدين ، فقاموا بفكِّ الحصار ، وفشلوا في الاستيلاء عليها.
د ـ معركة الرملة: كانت هذه المعركة تجربةً مريرةً لصلاح الدين ، ولعلَّه تعلّم منها: أنَّ الخطأ مقارعة الصليبيين قبل أن يحقِّق الوحدة الإسلامية ، فبتحقيقه لهذه الوحدة سيحصل على قوَّةٍ زاخرة هائلةٍ مستعدَّةٍ للبذل في سبيل تحطيم قوة العدوِّ المحتل؛ إضافة إلى أنَّه سيكون بوسع جيشه التحرُّك في رقعةٍ أوسع؛ على الرَّغم من أنَّ صلاح الدين قد ألحق جزءاً لا يستهان به من بلاد الشام بدولته في مصر منذ أن توجَّه إلى دمشق عام 570 هـ/1174 م ، ثم ضمَّ حمص، وحماة, وحارم ، إلا أنَّ أجزاء واسعةً ظلَّت خارج نطاق نفوذه.
وبعد أن عاد صلاح الدين إلى مصر سنة 572 هـ/1176 م قرَّر أن يقوم بحملةٍ ضدَّ الصليبيين ، فخرج من القاهرة في عشرين ألف مقاتل في شهر جمادى الأولى 573 هـ/تشرين الثاني 1177 م وخيَّم بمدينة بلبيس المصرية الواقعة على بعد عشرة فراسخ من مدينة مصر على طريق الشام، ثم توجَّه منها إلى الأجزاء الجنوبية من فلسطين ، فنزل على عسقلان؛ التي يحتلها الصَّليبييون ، وتمكَّن من أسر بعض الصَّليبيين ، فأمر بضرب أعناقهم، ولم يجد صلاح الدين أية مقاومة تذكر من العدوِّ ، فتفرَّق جنده يكتسحون القرى مغيرين ، وأخذوا يجمعون الغنائم ، ثم جمع صلاح الدين بعض جنوده ، وتقدَّم بهم نحو بلدة الرَّملة القريبة من السَّاحل ، والتي كانت من أكبر المدن الفلسطينية يومئذٍ، فاعترضهم نهر تل الصَّافية ، فتفرقوا يبحثون عن مكان يصلح لعبورهم.
وبينما هم في هذه الحالة هجمت عليهم قوةٌ صليبية ، قبل أن يرتِّبوا أوضاعهم ، والظَّاهر: أنَّ الصليبيين كانوا يراقبون تحركاتهم ، فباغتوهم في الوقت المناسب ، وكان يقودهم الأمير الشَّهير أرناط ، ويسانده في مهمَّته بلدوين الثالث ملك بيت المقدس، ولم يكن مع صلاح الدين في تلك اللحظة سوى عددٍ ضئيل من أمرائه ، وجنده؛ لأنَّ أكثرهم تفرَّقوا في طلب الغنيمة ، ثم بدأت المصادمات ، وتجمَّع جند صلاح الدين ، واشتبكوا مع الصَّليبيين ، وقد أبلى بعض قادة صلاح الدين ، وأقاربه بلاءً حسناً ، لا سيَّما تقي الدين عمر ، وابنه أحمد ، وكذلك ضياء الدين عيسى الهكَّاري، وأخوه ظهير الدين ، وقد أسرا ، وبقيا في الأسر سنتين ، فافتدى صلاح الدين الفقيه عيسى بستين ألف دينار، فقد تقدَّم تقي الدين عمر ، وباشر القتال ببسالة بين يدي عمِّه ، وقتل عدداً من الصَّليبيين ، ثم تقدَّم ابنه أحمد ، وأبدى ضروباً من الشجاعة ، وقتل عدداً من أفراد العدو ، وعاد إلى أبيه سالماً ، ثم أمره أبوه بالعودة إليهم قائلاً له: «عد يا أحمد ، فإنَّ العود أحمد» فعاد إليهم ، وقاتلهم ، فاستشهد؛ إلا أن المسلمين لم يستطيعوا الصمود بوجههم.
وقد تحدَّث صلاح الدين عن الهزيمة ، وكيف أدَّى تغيير مواقع الجنود ، وأجنحة الجيش إلى هذه النتيجة المؤسفة قائلاً: في وقتٍ صار العدو على مقربةٍ منهم رأى بعض الجنود أن يعبروا الميمنة إلى جهة الميسرة ، والميسرة إلى جهة القلب ليكون التلُّ الموجود بأرض الرَّملة خلف ظهورهم ، وليس أمامهم ، فبينما هم مشغولون بهذه الخطَّة؛ هاجمهم العدو.
ـ أسباب الهزيمة في معركة الرَّملة:
ـ مباغتة الصليبيين للجيش الأيوبي أثناء تفرُّق أفراده قبل أن يرتبوا أنفسهم في الوقت المناسب.
ـ هذه المباغتة أدت إلى حدوث خلل في صفوف ، وأجنحة الجيش الأيوبي ، وتفرُّق قادة الجيش ، ولجوئهم إلى أسلوب المبارزة الفردية؛ التي لم تُجْدِ نفعاً في مثل هذه الحالة.
ـ اختفاء صلاح الدين عن الأنظار حتَّى ظُنَّ: أنه قتل.
ـ ابتعاد الجيش الأيوبي عن خطوط التموين ، وانقطاع الزاد ، والماء عنه. وممَّا يؤكد فداحة الخسارة التي ألحقت بالجيش الأيوبي في هذه الموقعة قول المؤرخين: إن الهزيمة كانت وهناً ، لم يجبره الله إلا بوقعة حطين.
وقد قتل في هـذه المعركة ، وجرح ، وأسر معظم من كان مع صلاح الدِّين ،  وخرج هو من وسط المعركة سالماً بأعجوبة ، فبعد أن تمَّت الهزيمة حمل أحد الصليبين عليه ، فقاربه؛ حتَّى كاد أن يصل إليه ، فقُتل الصَّليبيُّ بين يديه: وتكاثر الفرنج على صلاح الدين ، فمضى منهزماً يسير قليلاً ، ويقف ليلحقه العسكر ، إلى أن دخل اللَّيل ، فسلك طريق البرية ، ومضى في نفرٍ يسير إلى مصر ، ولقوا في طريقهم مشقةً شديدةً ، وقلَّ عليهم القوت ، والماء، وهلكت دوابُّهم جوعاً ، وعطشاً ، وسرعة سير. وفي الطريق إلى مصر اختفى صلاح الدين عن الأنظار ، فأوقع ذلك الرُّعب في الصفوف ، فخرج القاضي الفاضل مع بعض رفاقه يلتمس مكانه ، وبثهم وسط الصحراء؛ حتى اهتدوا إلى مكانه ، وأسعفوه بما كان معهم من الزاد ، ثم وصل الرَّكب إلى القاهرة في منتصف جمادى الاخرة 573 هـ/كانون الأول 1175 م؛ إلا أن خبر سلامته قد وصل إلى مصر على الهجن السَّريع قبل وصوله هو؛ لكي يضع حدَّاً لكلِّ من تسوِّل له نفسه التمرُّد على حكمه؛ لا سيما مَنْ هم من أعوان الفاطميين ، وليؤكد: أنه مازال على قيد الحياة. ولدى وصوله إلى القاهرة حمل الحمام الزَّاجل بطائق البشرى إلى أنحاء مصر ، لتهدئة الخواطر.
كانت معركة الرَّملة تجربةً قاسيةً لصلاح الدين ، تَعَلَّم منها الكثير في مواجهاته التالية ، كما كانت أوَّل هزيمة كبرى له، ولقوَّاته ، واخرها أمام قوَّاد الصليبين ، ومن ناحية أخرى فقد تحقَّق صلاح الدين من حقيقة أخرى تتعلَّق بهـذه الجبهة مع الصَّليبين ، وهي طول خطوط الإمدادات ، والتموين بين مركزه في القاهرة وبين سهول فلسطين ، وصعوبتها ، وقلَّة الماء ، والعشب فيها. وهـذه الحقيقة كانت معروفةً لديه ، ولدى أمرائه ، والقاضي الفاضل؛ إذ ضُمّنت في الكتاب الذي وجَّهَه إلى دار الخلافة قبل هـذه المعركة بثلاث سنوات طالباً التقليد على كلِّ الشام إضافةً إلى مصر:... وإنّا لا نتمكن بمصر منه (العدو) مع بعد المسافة ، وانقطاع العمارة ، وكَلاَلِ الدّواب التي بها على الجهاد القوَّة ، وإذا جاورناه؛ كانت المصلحة باديةً ، والمنفعة جامعةً ، واليُد قادرةً ، والبلاد قريبةً ، والعزوة ممكنةً ، والميرة (التموين) متسعاً ، والخيل. مستريحة ، والعساكر كثيرة الجموع ، والأوقات مساعدةً. فجاءت معركة الرملة؛ لتثبت صحة هـذا التفكير.
ومنذ ذلك الوقت قرَّر صلاح الدين نقل مركزه الدَّائم ، بعد إعادة بناء قوَّته العسكرية ، والسياسية إلى دمشق؛ التي كان لقوَّتها العسكريةـ والتي ورث بعضها عن نور الدين ، وأمرائها ، وأمرائه ـ خبرة أطول في مواجهة قوَّات الصليبين ، ومعرفة أفضل بجغرافيتها إضافةً غلى قصر خطوط مواصلاتها وتموينها ، وطول هـذه الخطوط بالنِّسبة للعدو.. وإذ كان الهدف الأساسي في عملياته العسكرية في المستقبل هو تحرير القدس ، واستعادة الأراضي التي سيطر الصَّليبيون عليها، فإنَّ دمشق هي القاعدة الأساسية الأكثر مناسبةً لمثل هـذه العمليات ، ولذلك جعلها صلاح الدين مركزه الدَّائم ، ولا يغادرها إلى مصر إلا لتفقد أحوالها.
هـ معركة تل القاضي: ظلَّ صلاح الدين في مصر عدَّة أشهر بعد معركة الرَّملة؛ حتى تحقَّق له: أنَّ كل شيء أضحى تحت سيطرته ، ثم غادرها متوجهاً إلى دمشق ، فوصل إليها يوم السبت في 24 شوال عام 574 هـ/شهر نيسان عام 1179 م ، وأمضى بها بقية تلك السنة ، وكلُّ ما وقع من حروب انذاك لم يتجاوز شنَّ بعض الغازات، وردَّ بعض الهجمات ، والواقع: أنَّ صلاح الدين انهمك بحصار بعلبك بعد أن رفض حاكمها محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدَّم ، التنازل عنها لصالح تورانشاه أخي صلاح الدين ، لكنَّه لم يهمل أمر حصن مخاضة الأحزان ، وصرَّح لأمرائه: أنَّه إذا أتمَّ الصليبيون بناءه «نزلنا عليه، وهدمناه إلى الأساس» وبعد أن فرغ من أمر بعلبك التفت إلى الحصن ، وطلب من الصَّليبين أن يهدموه ، فطلبوا مقابل ذلك,  النفقات التي بذلوها في تشييده ، فعرض عليهم ستين ألف دينار ، ثم رفع المبلغ إلى مئة ألف ، ولكنهم رفضوا ذلك.
وحدث في شهر ذي القعدة عام 574 هـ/شهر نيسان عام 1179 م أن اعتدى بلدوين الرَّابع على بعض الرُّعاة المسلمين الذين خرجوا لرعي ماشيتهم في المراعي القريبة من بانياس ، وشاركه همفري دي تورون سيد تبين ، فأرسل صلاح الدين قوةً عسكرية بقيادة ابن أخيه عز الدين فروخشاه ليستطلع الأمر ، فاشتبك مع العدو بالقرب من شقيف أرنون ، وانتصر عليه ، ولم يتمكَّن الملك من النجاة إلا بفضل بسالة همفري الذي جرح في المعركة ، وتوفي بعد ذلك متأثراً بجراحه ، وكانت وفاته خسارةً كبرى للصَّليبين.
وكان صلاح الدين قد خرج من دمشق عندما علم بنبأ الانتصار لحصار بيت الأحزان ، لكنَّه اكتفى بمهاجمة حاميته؛ إذ بلغت استحكاماته الدِّفاعية من المتانة ما حمله على الارتداد بعد مضي بضعة أيام ، فعسكر عند تلِّ القاضي في سهل مرجعيون غربي بانياس ، وأرسل العساكر للإغارة على الجليل ، ولبنان لتدمير محصولات الأراضي الواقعة بين صيدا، وبيروت. أثارت هـذه الغارات حفيظة بلدوين الرابع ، الذي رأى: أنَّه لا بدَّ من وضع حدٍّ لها ، فجمع قوَّاته، وخرج للتصدِّي للمسلمين ، ودعا ريموند الثالث صاحب طرابلس لمساعدته ، وعلم بأنَّ فروخشاه عائد من السَّاحل بغنيمةٍ كبيرة ، فتحرَّك نحو الشمال لاعتراضه في وادي مرجعيون بين نهر الليطاني ، والمجرى الأعلى لنهر الأردن ، غير أنَّ صلاح الدين شاهد تحرُّكه ، وفي الوقت الذي كان فيه الملك الصَّليبي يشتبك مع فروخشاه؛ كان ريموند الثالث والدَّاوية يتقدَّمون نحو نهر الأردن ، وعند مدخل الوادي فاجؤوا صلاح الدين ، فبادر الدَّاوية إلى الاشتباك في القتال على الفور ، وصمد صلاح الدين في المعركة ، وبفضل ما طبَّقه من خطط عسكرية أتاحت له أن يقوم بهجوم مضادٍّ، وتحقيقه الانتصار. وولَّى الصليبيون الأدبار ، لا يلوون على شيء.
ولما وصلوا إلى الجيش الملكي ، وساد الذعر صفوف أفراده ، واضطروا إلى الارتداد ، ثم لاذوا بالفرار ، ووقع كثيرٌ منهم في الأسر ، كان من بينهم أودو سانت أماند ، مقدَّم الداوية ، وبلدوين سيد الرَّملة ، وهيو صاحب الجليل.
وقد حدثت المعركة في أوائل عام 575 هـ/ صيف عام 1179 م ولم يستثمر صلاح الدين انتصاره هـذا بمهاجمة بيت المقدس؛ لأنه اعتقد: أنَّ باستطاعة الملك الصليبي؛ الذي ما زال طليقاً استدعاء العساكر من مختلف المناطق ، فيلتفُّون من حوله ، مما جعل مهمته صعبةً ، وبخاصة: أنه وصلت إلى المملكة انذاك مجموعةٌ قويَّةٌ من الفرسان الفرنسيين للحجِّ برئاسة هنري الثاني ذي شامبانيا ، مما أنعش امال الصليبين ، ورفع من معنوياتهم. واستعاض عن مهاجمة بيت المقدس بمهاجمة حصن بيت الأحزان في شهر ربيع الأول/شهر أيلول. واستطاع بعد حصارٍ دام خمسة أيام من اقتحامه، ودمَّره عن اخره ، وسوَّاه بالأرض ، كما أغار على المناطق السَّاحلية: صور ، وصيدا ، وبيروت ، وهاجم أسطوله البحري مدينة عكَّا ، ودمَّر السُّفن الراسية فيه.
و ـ الهدنة بين صلاح الدين وبلدوين الرابع: ارتفعت خسائر الصَّليبين ، وانزعج بلدوين الرابع من هـذه الانتصارات للمسلمين ، فلم يجد أمامه إلا طلب الهدنة ، وبالفعل وافق صلاح الدين على طلب بلدوين بعقد هدنة بينهما لاعتبارات خاصَّة لديه ، ومنها أنه:
ـ أراد أن يضمَّ حلب إلى سيطرته قبل أن يوجه ضربةً حاسمةً إلى الصليبين ، وفي الوقت نفسه يتقي شرَّ هجمات الصَّليبين أثناء قيامه بمهاجمة حلب.
ـ ومن هـذه الاعتبارات أيضاً: رغبته في القيام بحملةٍ على أرمينية.
ـ أن يبني علاقة مع قلج أرسلان الثاني سلطان سلاجقة الرُّوم تجعله في معسكره ، أو على الحياد بينه وبين الصَّليبين.
ـ أن يتفرَّغ لمهاجمة إمارة طرابلس ، وقد وصلته أنباء بأنَّ هناك اتصالات بين الصَّليبيين ، والبيزنطيين لتجديد التحالف بينهما، وقد هاجم أسطوله انطرخوس، وهي بلد في سواحل الشام، وهي اخر أعمال دمشق من البلاد السَّاحلية، وفتح جزيرة في البحر قرب القسطنطينة ، يقال لها: أرواد، فاضطرَّ ريموند إلى عقد هدنة معه، وطلب الانضمام إليه، وجعله من أتباعه ، وذلك بسبب خلافاته داخل مملكة بيت المقدس ، والتي انتهت إلى إقصائه ، وطرده من حكم المملكة وأما بلدوين الرَّابع ، أصبح منهكاً متعباً ، وكذلك جنوده بسبب كثرة الاصطدامات بينه، وبين صلاح الدين، ولذلك سعى إلى الهدنة لحاجته إليها في تنظيم صفوفه، ومخاطبة حلفاء جدد، وقد تحدَّدت مدَّة الهدنة بينهما بسنتين، وتبيَّن في ذلك: أن الفترة التي سبقت الهدنة كانت هدفها الإغارة على الصَّليبين والموافقة على الهدنة لبناء الصُّفوف الإسلامية، وتوجيهها.
ز ـ صلاح الدين والفارس اللِّص «أرناط»: استفاد صلاح الدين من الهدنة التي وقعها مع حاكم مملكة بيت المقدس لينتقل بنشاطه العسكري إلى مناطق التواجد الصليبي في شمال بلاد الشام؛ حيث تمَّت غاراتٌ بحريَّةٌ ناجحةٌ ضدَّ إمارة طرابلس كانت كفيلة بإجبار الصَّليبيين بقيادة ريموند الثالث على عقد هدنة مع صلاح الدين مدَّتها خمس بسنوات 1180 ـ 1185 م ، وقد أفاد صلاح الدين من إنجازاته العسكرية ، والسياسية تلك بالتفرُّغ لهدفه الأساس ، وهو توحيد بلاد الشام ، فبدأ بحملاته ـ التي أشرنا إليها ـ ضدَّ مناطق الموصل ، وأتبعها بعد ذلك بحصار حلب ، والسيطرة عليها ، وفي الوقت الذي كانت فيه قوَّات صلاح الدين تحاصر حلب؛ كانت القوات الإسلامية في مصر تقوم بعمل عسكري موفق على الجبهة الجنوبية في منطقة الداروم (ما بين غزَّة ، ومصر) وقد أثبتت مجمل هـذه المعارك: أن الجبهة الصليبية في هـذا الموضع أقصى ما يمكن أن تقوم به هو القدرة على الدِّفاع عن بعض مناطق سيطرتها ، وفقدت ميزة القدرة على الهجوم مقارنةً بأوضاعها قبل ظهور صلاح الدين الأيوبي ، والاستثناء الذي حصل هي الغارات التي كان يقوم بها حاكم الكرك الصَّليبي أرناط ، والذي يعتبر تابعاً لمملكة بيت المقدس.
وقد عرف أرناط بالفارس اللِّص؛ حتى عند الفرنج؛ إذ لم يكن من نوع الفرسان الذين يحرصون على شرفهم ، ويتمسَّكون بمبادأى الفروسية ، بل كان لا يصلح إلا للنَّهب ، والسَّلب,  والغدر ، وشنِّ الغارات على الأبرياء المسلمين ، وقد وصفه بعض المؤرِّخين الأوربيين: أنه نموذج للفارس اللِّص في عصره ، فقد اتَّصف بالجشع ، والغدر ، والوحشية ، والتعصب الأعمى ، ولم تفلح الخمس عشرة سنة التي قضاها أسيراً في حلب لتعديل سلوكه، أو تهذيبه. وأمَّا المؤرخ أبو شامه فقد وصفه بأنه: أغدر الفرنجة ، وأخبثها ، وأفحصها عن الردَّى ، والرداءة ، وأنقضها للمواثيق المحكمة ، والأيمان المُبرمة.
وقد تناسى أرناط أمر هدنةٍ معقودةٍ بين صلاح الدين ، ومملكة بيت المقدس ، وخرج على رأس قوَّةٍ من رجاله ، وأوغل في صحراء العرب حتَّى تيماء ، وكان في نيته أن يزحف من تيماء إلى المدينة النبوية: للاستيلاء على تلك النواحي الشَّريفة؛ إلا أنَّ فرخشاه ابن أخي صلاح الدين، ونائبه في دمشق أسرع إلى غزو الأردن ، وأعمال الكرك ، ونهبها ، مما جعل أرناط يعود إلى إمارته للدِّفاع عنها ، بعد أن نهب قافلةً إسلاميَّةً كبيرة كانت متَّجهة من دمشق إلى مكَّة ، وسلب منها ثروةً ضخمةً ، ولذلك غضب صلاح الدين ، وأرسل إلى ملك بيت المقدس يلومه على ما حدث ، ويذكِّره بالهدنة المعقودة بين الطرفين ، ويطلب منه أن يلزم أرناط بردِّ المسلوبات, والملك ـ بلدوين الرَّابع ـ كان مستاءً من أرناط أيضاً ، فأرسل إليه يطلب إعادة ما سلب من المسلمين ، وأسراهم ، ولكنَّ أرناط سخر من سيده ـ الملك المريض ـ ورفض أن يصغي إلى نصحه.
كانت حملات أرناط غير موفقة من حيث توقيتها ،فهي جاءت في وقتٍ كانت فيه قوَّة صلاح الدين تتعاظم في حين أنَّ مملكة بيت المقدس ،والإمارات الصَّليبية الأخرى تعاني من مشكلات داخلية عصيَّةٍ على الحلِّ ،فبذور الشك أصبحت متزايدةً بين حاكم مملكة بيت المقدس بلدوين الرابع ،وبين بوهميند الثالث أمير أنطاكية ،وريموند الثالث أمير طرابلس ،كما جاءت في وقت تعاني فيه مملكة بيت المقدس من مشاكل حول صحَّة بلدوين الرَّابع ، ومشكلة وراثة العرش، وعلى الصَّعيد الخارجي كانت علاقات صلاح الدين تتوثَّق مع المدن الإيطالية ، ومع حاكم الإمبراطورية البيزنطية الكيسوس كومنين الثاني ، يضاف إلى ذلك: أنَّ حملات أرناط جاءت لتؤكِّد فشل مملكة بيت المقدس في السيطرة على المناطق التابعة لها؛ إذ إنَّ أرناط الذي يُفترض: أنَّه تابع لمملكة بيت المقدس لم يلتزم بالهدنة الموقعة بين صلاح الدين ، ومملكة بيت المقدس ، إضافةً إلى أنَّ حملات أرناط ، وما حملته من تهديد للأماكن المقدَّسة قد عاد بأثرٍ إيجابي على الجبهة الإسلامية ، حيث إنَّ هـذه التصرفات من قبل أرناط جعلت جميع القوى الإسلامية في بلاد الشام، والجزيرة تقف إلى جانب صلاح الدين.
وبدأ صلاح الدِّين يركز على معاقبة أرناط على كلِّ أفعاله الإجرامية بحقِّ قوافل التِّجارة ، والحجيج ، واتَّجه لحصار الكرك أكثر من مرَّة عام 580 هـ/1184 م وعام 583 هـ/1187 م إلى جانب عمليات عسكرية إسلامية على الجبهة الشمالية في مناطق طبرية في عام 583 هـ/1187م. جرت هـذه التطوُّرات والجبهة الإسلامية الان مكتملة الوحدة بعد الصلح الذي وقع مع حاكم الموصل ، والجبهة الصليبية تعاني من مشكلاتها الداخلية؛ التي ازدادت سوءاً بعد وفاة بلدوين الرابع ، وتسلُّم بلدوين الخامس للحكم سنة 1185 م ، وتوفي بعد ذلك عام 1186 م لتدخل بعدها مملكة بيت المقدس في صراع على وراثة الحكم ، شارك فيه أمير طرابلس ريموند الثالث ، فثارت شكوكٌ حول وفاة بلدوين الخامس: أهي وفاة طبيعيةٌ ، أم أنَّ الأطراف الطامعة في تاج مملكة بيت المقدس كانت وراء هـذه الوفاة؛ حيث يشار على أنَّه مات مسموماً.
ووصل الأمر إلى أن أصبح الصَّليبيون يشكِّلون معسكرين متعاديين حول وراثة حكم مملكة بيت المقدس ، فريق يؤيد جاي لوزجنان ، وحكمه للقدس ، وفريق اخر معارض لهـذا الحكم ، ويرأسه ريموند الثالث أمير طرابلس ، وبوهيمند الثالث أمير أنطاكية. في هـذه الأوضاع المضطربة داخلياً على الجبهة الصَّليبية ، والتي يقابلها وحدة ، وقوَّة في الطرف الإسلامي؛ قام حاكم الكرك أرناط بإثارة مشكلات مع الطَّرف الإسلامي ، حيث عاود أسلوبه غير الملتزم بالهدن ، والمواثيق ، واعتدى على قافلة تجارية ما بين دمشق ، والقاهرة ، وغنم ، ونهب ما في القافلة ، وأسر تجَّارها ، وحرَّاسها ، ولم تفلح جهود صلاح الدين بإقناع أرناط بتسليم الأسرى ، وردِّ الغنائم ، كما لم تُفلح جهود حاكم مملكة بيت المقدس في إجبار أرناط على تسليم ما نهبه في القافلة ، أو إطلاق الأسرى ، وقد قاد ذلك إلى ردِّ فعلٍ إسلاميٍّ قويٍّ من جانب صلاح الدين قاد إلى معركة حطين ، ونتائجها التي سنشير إليها لاحقاً بإذن الله تعالى.


يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022