الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

وسطية القرآن.. تعدد الزوجات وشروطه في القرآن

بقلم: د. علي بن محمد الصلابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

إن إباحة القرآن للتعدد لم تكن ضرورة مقيدة بالعدل المستحيل كما قيل، وإنما هو إباحة عامة تعرض لها الأحكام الشرعية الأخرى تبعا لظروف صاحبها، وقد شفعه الشارع -مثل كل الأحكام- بوصاياه الخلقية وضماناته القانونية، التي تجعل منه عند التطبيق مصلحة اجتماعية ورحمة للناس، وتخفف إلى أقصى الحدود من أضراره الجانبية.

أوجب القرآن العدل والمساواة بين الزوجات في جميع الحقوق التي في إمكان الزوج، كالمبيت والجماع والنفقة والمسكن وغيره

وقد قيده الله تعالى بضوابط وحدود منها:

* جعل حده الأقصى أربع نسوة، كما قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وكان في الجاهلية بلا حدود.

أوجب العدل والمساواة بين الزوجات في جميع الحقوق التي في إمكان الزوج، كالمبيت والجماع والنفقة والمسكن وغير ذلك، ولم يستثنِ من ذلك إلا (الميل القلبي) الذي لا يملكه أحد، بشرط ألا يكون له تأثير في المعاملة الظاهرة؛ لذلك حث الله تعالى من يخشى التقصير على اجتناب التعدد، فقال تعالى في ختام الآية السابقة: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} [النساء: 3] فجعل الله تعالى العدل أمرا لازما يتحرى بقدر الوسع والطاقة، كما قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129]، ذلك لأن العدل الكامل المطلق غير مستطاع، خاصة ميل القلب، فأمر الله تعالى بالعدل الممكن، الذي لا يترخص فيه صاحبه ولا يتنطع.

وبهذا يستبين خطأ الذين قالوا: إن العدل شرط لصحة التعدد، وقد نفى الله القدرة عليه، وبالتالي فهو نفي لإباحة التعدد، وهذا خطأ في التأويل، واعتساف في التفسير.

وفي ظني: أن القائلين بهذا أرادوا الدفاع عن الإسلام في وجه مهاجميه خاصة في أواخر القرن الماضي وما تلاه حين اشتدت موجة الهجوم والتشكيك على الإسلام، واليوم يعود المنكرون الطاعنون إلى التسليم بصحة هذا المبدأ، وينادي كثير منهم بإباحته في مجتمعاتهم، وقد ساق الشيخ محمد رشيد مجموعة من مقالات عديدة من الصحف الأوروبية دعا فيها كاتبوها إلى إباحة التعدد، ويقارنون بينه وبين مفاسد المجتمع الأوروبي، ويمكن إيجاد ذلك في تفسير المنار.

ووجدت في تفسير الشيخ محمد رشيد رأي الشيخ محمد عبده (رحمه الله) في تعدد الزوجات؛ حيث اشتد على مبدأ تعدد الزوجات وكذلك مدرسته من بعده، ويتلخص رأي محمد عبده في: (أنه ضرورة بغيضة اشترط الله لها ما يصعب تحقيقه، وأنها أجيزت لضرورات تاريخية لم يعد لها مبرر أو وجود الآن) ولم يحالفه الصواب، وإنما تأثر بالهجمة الغربية الشرسة على أحكام الإسلام.

كل المجتمعات التي تحرم التعدد، وتنعى على إباحته بحجة أنه امتهان لكرامة المرأة وإيذاء لمشاعرها، ومجلبة لمفاسد اجتماعية من ناحية اختلاف الأسرة ونحو ذلك، هذه المجتمعات تبيح للمرأة أحط أنواع العلاقات سفاحا وعهرا وخدانا

وبقي أن نشير إلى أن كل المجتمعات التي تحرم التعدد، وتنعى على إباحته بحجة أنه امتهان لكرامة المرأة وإيذاء لمشاعرها، ومجلبة لمفاسد اجتماعية من ناحية اختلاف الأسرة ونحو ذلك، هذه المجتمعات تبيح للمرأة أحط أنواع العلاقات سفاحا وعهرا وخدانا، وتعترف بأبناء الحرام تيسيرا لهذه العلاقات، والواضح: أن أول ضحية لهذه الأوضاع هي المرأة، التي جعلت فريسة سهلة لعلاقات آثمة مع رجال لا يتحملون مسؤولية الأسرة ورعاية الأبناء الذين يخرجون من هذه العلاقات؛ ليكونوا بلاء على المجتمع كله.

إن إباحة تعدد الزوجات بالشروط والحدود المذكورة يدل على وسطية القرآن في باب التشريع، وقد اختلف الفقهاء في حكم التعدد، فذهب الجمهور إلى أن الأمر في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا} للإباحة مثل أمره في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} وفي قوله {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [طه: 81] وقال أهل الظاهر: النكاح واجب، وتمسكوا بظاهر هذه الآية: {انْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم}، ولست في صف المدافعين عن الإسلام، فأحكام القرآن واضحة بينة تقنع العقل وتؤثر في القلب وتطهر النفس وترشد إلى الطريق المستقيم.

بل إني في صف المهاجمين للنظم الجاهلية، التي ترى الحسن قبيحا والقبيح حسنا، والحلال حراما والحرام حلالا، فتقبل أن يكون للرجل عشيقات ومدينات، ويعاشرهن بطريق الفاحشة والرذيلة، وتستنكر عليه أن يعدد الزوجات، فيكون له اثنتان أو ثلاث بطريق العفة والطهر، بل رأينا ما هو أقبح من هذا عند الغربيين المعترضين على شريعة الإسلام، وتلامذتهم المفتونين بمبادئ الغرب من بعض أبناء المسلمين؛ حيث جعلوا للمرأة الحرية أن تعاشر من تشاء، دون مؤاخذة أو معارضة، ونتج عن ذلك تعدد الأزواج، فالمرأة عندهم لا تقتصر على زوجها، بل تمارس حقها في الاتصال بمن تشاء، كما يصنع الرجل مع الصديقات والعشيقات.

فلينظر العاقل إلى أية درجة من الانتكاس وصلت هذه الحضارة الغربية العفنة، ثم هم بعد ذلك يعترضون على نظام الإسلام، ويعتبرون ما هم عليه من القذارة حضارة ؟ {فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، فإن مسألة تعدد الزوجات وتقييده بشروط وحدود تدل على وسطية القرآن الكريم في باب التشريع.

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022