تسخير الريح لسليمان عليه السلام (2) ..
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك ...
بقلم د. علي محمد الصلابي ...
الحلقة (74)
من الآيات التي تكلمت عن الريح المسخّرة لسليمان (عليه السلام)، قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [سبأ: 12].
ومعنى غدوُّها شهر ورواحها شهر: جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك.
- والغدوة: الصباح إلى الزوال.
- والروحة: من الزوال إلى الغروب.
فكانت هذه الريح: (غدوُّها إلى انتصاف النهار مسيرة شهر، ورواحها من انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر).
لقد كانت هذه الريح المباركة من السرعة بحيث تقطع مسافة شهرين في اليوم الواحد ذهاباً وإياباً، وهذه نعمة، ومنحة كبرى أوتيها سليمان في عصر كانت وسائل النقل فيه بدائية تعتمد على الخيل والجمل والحمير والبغال. وكانت فترة رخاء ورفاهية تنعم فيها بنو إسرائيل بعيشهم وجنوا خصب زروعهم وثمارهم، وأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وهذه الخيارات من ثمار الحكم الرشيد القائم على شريعة الله عز وجل، في عهد سليمان (عليه السلام).
وأما عن كيفية تسخير الريح لسليمان (عليه السلام)؛ فقد قال الشيخ عبد الوهاب النجار -رحمه الله-: إن الريح كانت مسخرة لسليمان تجري بأمره رخاء؛ فيأمرها أن تهب في هذه الناحية لاحتياج أهلها إلى الريح الرخاء للانتفاع بها في زرعهم ومعاشهم أو في تزجية السفن كي تصل إلى المرافئ سالمة.
وقد ردّ الشيخ عبد الوهاب النجار على أساطير بساط الريح، في بحث طويل، وبيّن أنه لا أساس لها من الصحة.
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور (رحمه الله): وتسخير الريح: تسخيرها لما تصلح له، وهو سير المراكب في البحر. والمراد أنها تجري إلى الشام راجعة عن الأقطار التي خرجت إليها لمصالح ملك سليمان من غزو أو تجارة، بقرينة أنها مسخرة لسليمان، فلا بد أن تكون سائرة لفائدة الأمة التي هو ملكها.
وعلم من أنها تجري إلى الأرض التي بارك الله فيها أنها تخرج من تلك الأرض حاملة الجنود أو مصدرة البضائع التي تصدرها مملكة سليمان إلى بلاد الأرض، وتقفل راجعة بالبضائع والميرة ومواد الصناعة وأسلحة الجند إلى أرض فلسطين، فوقع في الكلام اكتفاء اعتماداً على القرينة. وقد صرح بما اكتفى عنه هنا في آية سورة سبأ ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [سبأ: 12] ولسليمان الريح غدوُّها شهر ورواحها شهر.
ووصفها هنا بعاصفة بمعنى قوية. ووصفها في سورة ص ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص: 36] بأنها رُخاء في قوله تعالى: فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب. والرُّخاء: الليلة المناسبة لسير الفلك. وذلك باختلاف الأحوال؛ فإذا أراد الإسراع في السير سارت عاصفة، وإذا أراد اللين سارت رخاء، والمقام قرينة على أن المراد المواتاة لإرادة سليمان كما دل عليه قوله تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ﴾ في الآيتين المشعر باختلاف مقصد سليمان منها، كما إذا كان هو راكبا في البحر، فإنه يريدها رخاء لئلا تزعجه، وإذا أصدرت مملكته بضاعة أو اجتلبتها سارت عاصفة، وهذا بيِّنٌ بالتأمل.
جـ- ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾: جملة معترضة بين الجمل المسوقة لذكر عناية الله بسليمان، والمناسبة أن تسخير الريح لمصالح سليمان أثر من آثار علم الله بمختلف أحوال الأمم والأقاليم، وما هو منها لائق بمصلحة سليمان، فتجري الأمور على ما تقتضيه الحكمة التي أرادها سبحانه.
وقال الشيخ الشعراوي (رحمه الله) في قوله تعالى: ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾؛ أي: عندنا علم نرتب به الأمور على وفق مرادنا، ونكسر لمرادنا قانون الأشياء، فنسيّر الريح كما نحب، لا كما تقتضيه الطبيعة.
وقال الشيخ أبو زهرة في قوله تعالى: ﴿وَكنَّا بكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾: وقدم الجار والمجرور للاهتمام بعموم علمه سبحانه، والجملة الاسمية تدل على استمرار علمه سبحانه، وأنه لَا يغيب عنه شيء في السماء ولا في الأرض، ودل على الاستمرار الوصف (عَالِمِينَ)، وتقديم الجار والمجرور، والجملة الاسمية المؤكدة، وكان الدالة على الاستمرار.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 335-339.
- معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، بيروت، عالم الكتب، ط1، 1408ه - 1988م، (4/245).
- جامع البيان، الطبري (22/96).
- سليمان (عليه السلام) في القرآن، همام حسن سلوم، ص111.
- التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية، ط1، 1984م، (7/307).
- تفسير الشعراوي (15/9612).
- زهرة التفاسير، (9/4903).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689