حكم داوود وسليمان عليهما السلام بين المتخاصمين في الحرث (2) ..
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك ...
بقلم د. علي محمد الصلابي ...
الحلقة (72)
﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾:
أ- ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ﴾:
يصح أن نقول: كان التعليم بالوحي، أو بالتجربة أو الإلقاء في الرُّوع. وهذه الصنعة لم تكن معروفة قبل داوود (عليه السلام)، تلك هي صنعة الدروع: حلقاً متداخلة، بعد أن كانت تضع صفيحة واحدة جامدة. والزرد المتداخل، أيسر استعمالاً، وأكثر مرونة. ويبدو أن داوود هو الذي ابتدع هذا النوع من الدروع بتعليم الله له.
وكلمة ﴿لَبُوسٍ لَّكُمْ﴾: واللبوس أبلغ وأحكم من اللباس؛ فاللباس من نفس مادة (لبس) هي الملابس التي تستر عورة الإنسان وتقيه الحر والبرد، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: 81].
أما في الحرب؛ فنحتاج إلى حماية أكبر ووقاية أكثر من العادية التي نجدها في اللباس. في الحرب نحتاج إلى ما يقينا البأس، ويحمينا من ضربات العدو في الأماكن القاتلة؛ لذلك اهتدى الناس إلى صناعة الخوذة والدرع لوقاية الأماكن الخطرة في الجسم البشري، وتتمثل هذه في الرأس والصدر؛ ففي الرأس المخ، وفي الصدر القلب. فإن سلمت هذه الأعضاء فما دونها يمكن مداواتها وجبره. إذن: اللبوس أبلغ وأكثر حماية من اللباس، لأن مهمته أبلغ من مهمة اللباس، وهذه كانت صنعة داوود (عليه السلام)، وهي صنعة الدروع.
ب- ﴿لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ﴾:
أي: هي وقاية لكم، وحفظ عند الحرب واشتداد البأس.
جـ- ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾:
شاكرون على نعمة الله الذي يرعاكم، ويحفظكم في المآزق والمواقف الصعبة.
- ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾: سؤال توجيه وتحضيض على شكر العبد لربه، وهو أن يستعين بنعمه على طاعته. وشكر الرب لعبده: هو أن يثيبه الثواب الجزيل عن عمله القليل.
قال الرازي -رحمه الله-: على أن أول من عمل الدرع داوود، ثم تعلَّم الناسُ منه، فتوارث الناس عنه ذلك، فعمَّت النعمة بها كل المحاربين من الخلق إلى آخر الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة، فقال: ﴿فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾، أي اشكروا الله على ما يسَّر عليكم من هذه الصنعة.
وقال القرطبي -رحمه الله-: هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه. فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونسب مَن ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة.
وما قاله القرطبي واستدل به حق واضح، فعلى ولاة الأمور إيجاد المصانع والِحرف وسائر وسائل مستلزمات الحرب، والوقاية من العدو، والتحرر منه، وهذه الأدوات تتغير بتغير الزمان والمكان، وما يتعلمه الإنسان. وعلى هذا؛ فأدوات الحرب والقتال أصبحت في زماننا متنوعة جداً، وتحتاج إلى معرفة فنون وعلوم كثيرة، وإيجاد مصانع لها، مما يلزم المسلمين تعلم هذه العلوم، وإيجاد المصانع لعمل هذه الأدوات.
د- أهمية تعلم الحِرَف:
كان داوود (عليه السلام) عاملاً ماهراً في صنع الدروع، وإليه نسبت، فقيل دروع داووديّة. كما كان قبل ذلك راعياً للغنم في شبابه، وكان يعمل ويكسب بيده بالصناعة، ويأكل من عمل يده، ويستغني عن غيره. وهذا من شرعة الله تعالى للبشرية؛ ليسود العمل الذي يغنِي صاحبه، ويقيم اقتصاد الأمة، ويحارب الكسل والكسالى الذين يعيشون على أكتاف غيرهم، ويشكلون عبئاً على المجتمع والأمة والدولة. ولذلك أكدت الشريعة الإسلامية على القيام بالعمل؛ ليكسب الإنسان من عرق جبينه، وكان نبي الله داوود (عليه السلام) مثلاً أعلى في ذلك. قال رسول الله ﷺ: ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داوود (عليه السلام) كان يأكل من عمل يده. وقال أيضاً: إن داوود (عليه السلام) كان لا يأكل إلا من عمل يده. وهذه الشرعة الإلهية هي المقررة في العالم، وخاصة في العصر الحاضر، للتأكيد على العمل، واعتماد الإنسان في كسبه على العمل، وصدرت أنظمة وقوانين للعمل في جميع دول العالم توافق ما ذكرنا.
إن تعلم الحِرف والأعمال التي يحتاجها المجتمع من فروض الكفاية، ولهذا كان أنبياء الله والصالحون يتعاطون الِحرف التي يحتاجها الناس؛ ليكون ذلك منهم دلالة على مشروعية هذه الحِرف، وتعلّمها وتعاطيها؛ وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ آدَمُ (عليه السلام) حَرّاثًا، وكانَ إدْرِيسُ خَيّاطًا، وكانَ نُوحٌ نَجّارًا وكانَ هُودٌ تاجِرًا، وكانَ إبْراهِيمُ راعِيًا، وكانَ داوُدُ زَرّادًا، وكانَ سُلَيْمانُ خَوّاصًا، وكانَ مُوسى أجِيرًا، وكانَ عِيسى سَيّاحًا، وكانَ مُحَمَّدٌ ﷺ شُجاعًا؛ جُعِلَ رِزْقُهُ تَحْتَ رُمْحِه.
ومن الواضح أنّ الحِرف والصنائع التي يحتاجها الناس تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، وتقدم الإنسان في المعرفة، فيجب أن توجد هذه الحِرف والصنائع الجديدة، وعدم الاكتفاء بالصنائع القديمة التي لم تعد تفي بحاجات الناس.
إن الآية الكريمة تشير إلى أن الدين لا يرفض العلم الخادم النافع، المستخدم في طاعة الله عز وجل، وأن الله عز وجل يبارك لأصحاب الصناعات الذين أخلصوا له في التّوجه.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 325-332.
- شرعة الله للأنبياء، محمد مصطفى الزحيلي، دار ابن كثير، دمشق، ط1، 2018م، ص 460.
- عظات وعبر من قصص الأنبياء، سعيد عبد العظيم، ص154.
- شرح ابن بطال، (8/385).
- فتح الباري، (6/465).
- أحاديث الصحيحين المنتقدة الخاصة بالأنبياء، أسامة الشنقيطي، ص390.
- تاريخ القضاء، الزحيلي، نقلاً عن: شرعة الله للأنبياء، ص469.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2390).
- تفسير الشعراوي (7/9609 – 9610-9611).
- تفسير السعدي، ص693.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (4/673 - 675).
- التفسير الكبير، (22/174).
- تفسير القرطبي، (11/321).
- أنبياء القرآن، عبد المجيد همو، ص189.
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور. جلال الدين السيوطي (1/305). والموسوعة القرآنية.
- المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة، عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، ط1، 1419ه - 1998م، ص276.
- التلازم بين العقيدة والشريعة وآثاره، د. طارق سعيد القحطاني، مكتبة الرشد ناشرون، ط1، 2014م، ص165.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689