حكم داوود وسليمان عليهما السلام بين المتخاصمين في الحرث (2) ..
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك ...
بقلم د. علي محمد الصلابي ...
الحلقة (71)
ومن المسائل التي قضى فيها سليمان، واستدرك بها على حكم والده بالقرائن، ما ورد في السنة الصحيحة أن رسول الله ﷺ قال: «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى».
فداوود (عليه السلام) حكم للكبرى بقرينة أنها الأولى والأصدق، وحكم سليمان للصغرى بقرينة شفقتها عليه، وحرصها على حياته لو أخذته الكبرى، بينما وافقت الكبرى على شقّه لتحصل على شِقّ ويموت نكاية في الأخرى. وفيه دلالة على استئناف الحكم ونقض الأوّل.
وهذا الحديث أصل في استعمال الحكام طرقاً من الحيل المباحة في استخراج الحقوق إذا وقع الإشكال.
- أنه جائز للعاِلم مخالفة غيره من العلماء، وإن كانوا أسنّ منه وأفضل منه، إذا رأى الحق في خلاف قولهم.
- أن الفطنة والفهم موهبة من الله لا تتعلق بكبر سن ولا صغره.
- أن الأنبياء يسوغ لهم الحكم بالاجتهاد وإن كان وجود النص ممكناً لديهم بالوحي.
إن مملكة داوود وسليمان كانت قائمة على العدل والحق، وكان باب الاجتهاد مفتوحاً للوصول إلى الحكم العادل، وقد نُقل عن داوود وسليمان أحكام أخرى في القضاء وفصل الخصومات، فكانوا ملوكاً وقضاة وأنبياء، وهذا من فضل الله عليهم. إن القضاء من شرعة الله تعالى الخالدة، وأقره الإسلام وجعله أحد الأعمال الجليلة، وكان رسول الله ﷺ أول قاضٍ في الإسلام، فكان نبيّاً وحاكماً، وعيّن الصحابة للقضاء بين الناس، حتّى بين يديه أحياناً؛ ليدرّبهم على القضاء، وعيّن قاضياً في مكة، وأرسل القضاة إلى اليمن، وعلّمهم كيفية القضاء وآدابه وأحكامه.
إن القضاء كان من مؤسسات دولة داوود وسليمان لترسيخ قيم العدل والحكم بين الناس بالحق. إن قصة قضاء داوود وسليمان (عليهما السلام) لأصحاب الحرث والغنم من القصص التي اهتمّ بها الفقهاءُ والمفسّرون، وقد أفرد الدكتور زكي صبري محمد عبد الله بحثاً منفرداً في هذه القصة وجمَع فيها أقوالَ العلماء والفقهاء حول الآية، واستخرج في نهاية دراسته مجموعة من الفوائد المستنبطة من القصة، ومن أهمّها:
- جواز الاجتهاد للأنبياء فيما ليس فيه وحي ربّاني، وتفهيم الله لنبيٍّ حكماً أصوب من حكم نبيّ آخر، وعدم تعارض ذلك مع تقرير الحكم والعلم لكل منهما، وجواز رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه.
- لولا هذه الآية لرأيت الحكماء قد هلكوا، ولكن الله أثنى على سليمان بصوابه، وعلى داوود باجتهاده.
- مرتبة الحكم بين الناس مرتبة دينية، توّلاها رسل الله وخواص خلقه، وأن على القائم بها الحكم بالحق وألا يتّبع الهوى.
- سليمان (عليه السلام) يعدّ من فضائل داوود (عليه السلام)، وهبة من الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 30]، إذ كانت فرحة داوود (عليه السلام) بسليمان عظيمة، والمرء لا تقدّر فرحته في حال نبوغ ابن من أبنائه، وتفوّقه، لا سيّما إذا كان ذلك في أمر الدين والدنيا معاً.
- عدم تسفيه آراء الأبناء، وإتاحة الفرصة أمامهم للتعبير عمّا بداخلهم، حيث إنهم سيكونون رجال الغد ورموزه الفاعلة، ولعل الله يُجري الحق على ألسنتهم، والحكمة ضالة المؤمن فهو أولى بها أنّى وجدها. وفرحة الأب بتفوّق ولده وحسن فهمه لا يعدلها شيء من زينة الدنيا.
- لقد اتّجه داوود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث، وهذا عدل فحسب، ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل، البناء والتعمير، وجعل العدل دافعاً إلى البناء والتعمير، وهذا هو العدل الحي الإيجابي، في صورته البانية الدافعة، وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء، ولقد أوتي داوود وسليمان كلاهما الحكمة والعلم: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ وليس في قضاء داوود من خطأ.
ولكن قضاء سليمان كان أصوب، لأنه من نبع الإلهام. لقد أسهم حكم سليمان في هذه القضية في تحقيق أهداف عاجلة وآجلة، ودفع كل من الخصمين إلى دائرة عمل الآخر لتنتقل الخبرات بين أبناء المجتمع، وتتعدد الحِرف بين أبنائه، ويحس كل واحد بقيمة ما عند الآخر، فيحرص عليه حرصه على حاجاته، وبذا يتقدّم المجتمع، وتسود روح التعاون بينه وتتحقق فيه قيم العفو والعدل.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 321-325.
- شرعة الله للأنبياء، محمد مصطفى الزحيلي، دار ابن كثير، دمشق، ط1، 2018م، ص 496.
- عظات وعبر من قصص الأنبياء، سعيد عبد العظيم، ص154.
- شرح ابن بطال، (8/385).
- فتح الباري، (6/465).
- أحاديث الصحيحين المنتقدة الخاصة بالأنبياء، أسامة الشنقيطي، ص390.
- تاريخ القضاء، الزحيلي، نقلاً عن: شرعة الله للأنبياء، ص469.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2390).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689