شخصيات من قصة سليمان عليه السلام .. العفريت، ومن عنده علمٌ من الكتاب ..
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك ...
بقلم د. علي محمد الصلابي ...
الحلقة (69)
أ- معنى العفريت:
قال الإمام السمين الحلبي في عمدة الحفاظ عن معنى العفريت: هو المتمرد من الجن الخبيث منها، وقيل: هو من الجن النافذ القوي مع خبثٍ، ويستعار ذلك للآدميين استعارة الشيطان لهم. قال ابن قتيبة: هو من قولهم: رجل عفريت، وهو الموثق الخلق. وأصله من العفر وهو التراب. ومنه: عافره: صارعه فألقاه في العفر. وعلى هذا فنسبة هذه الصفة إلى الإنس أولى من الجن، لأن الإنس خلقوا من التراب، والجن من النار. ويقال: رجل عفر نفر، عفريت نفريت، وعفارية نفارية: إذا كان خبيثًا.
والعفريت هو الجني القوي المتين المسيطر، كثير الحركة، واشتقاقه من العفر وهو التراب، فكأنه بحركته الكثيرة المستمرة يثير التراب والغبار. ولم ترد كلمة (عفريت) إلا في هذا الموضع من القرآن، وقيدت الآية كلمة العفريت، بأنه من الجن، ولا ينطبق على الإنسان إلا من باب الاستعارة.
ب- الفرق بين العفريت وبين الشيطان:
يقول الدكتور صلاح الدين الخالدي: وهناك فرق بين العفريت الجني، والشيطان الجني، لأن الكلمتين وردتا في القرآن، ونعلم أنه لا ترادف في القرآن. (لعله: يقصد الترادف الكلي وليس الجزئي).
الشيطان الجني: هو الجني الكافر المتمرد المتشيطن البعيد عن رحمة الله، وأما العفريت هو الجني المؤمن التقي النقي القوي كثير الحركة والنشاط، بدليل أن العفريت الجني كان مقرّباً عند سليمان (عليه السلام)، ولا يقربه سليمان إلا إذا كان مؤمناً وهو قوي أمين، كما عرف عن نفسه، ولا يكون ذلك إلا إذا كان مؤمناً أيضاً.
جـ- شخصية غير بشرية في مجلس سليمان (عليه السلام):
ظهرت شخصية العفريت -من الجن- غير البشرية بوصفها قادرة وعالمة ومهمة في مجلس سليمان (عليه السلام)، حيث فاضل النبي ﷺ بين جلسائه، وجعل هذه المفاضلة في القدرة على جلب عرش الملكة قبل أن تصل مع حاشيتها، وقد بلغه أنها في طريقها إليه: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 38].
فظهرت هذه الشخصية بما فيها من عجائبه بالنسبة لقوانين الحياة البشرية، ولكن وجوده كان طبيعياً في مجلس الملك الذي سخر الله سبحانه له الجن الذين هم أجناس أيضاً فهو عفريت من فصيلة الجن، ويوحي بالقوة والشباب، وأكد ذلك لفظة (قوي) والقدرة التي أبداها في إمكانية جلب العرش في زمن قصير مع المحافظة عليه، أي حمايته، وذلك ليغري الملك بتكليفه، لشرف هذا التكليف. وبرز وجود هذه الشخصية بوصفه طبيعياً في سياق ما وهب الله لسليمان (عليه السلام)، مبرزاً دور جلساء الملك وأعوانه ومهماتهم وطلبهم الحظوة عند الملك، عبر تنفيذ المهام الصعبة: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾.
ولقد أضاءت هذه الشخصية صفات جلساء الملك النبي (عليه السلام)، وهي الإيمان والعلم والقوة والأمانة، وهذه الصفات هي ما يجب أن يكون عليه مستشار الملك الذي عليه أن يقرب أكثر مستشاريه علما وإحاطة، وإذ فاز بأداء المهمة أكثر الجلساء علماً. والآية التالية توضح ذلك.
5- ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾:
أ- ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾:
قدّم الذي عنده علم من الكتاب عرضاً آخر أسرع، قال لسليمان (عليه السلام): أستطيع أن آتيك بعرشها قبل أن يرتدّ إليك طرفك. والطرف هو تحريك جفن العين. والطرف تحريك الجفن، والعين، والنظر. والطرف: النهاية. والطرف من كل شيء: منتهاه.
فمعنى قوله: ﴿قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾: مدّ بصرك وانظر إلى شيء بعيد يصله نظرك، ومدّ طرفك إليه، فإنه لا يرتد إليك طرفك إلا وعرشه حاضر عندك، موجود بين يديك.
فإذا كان العفريت يقدر على إحضار العرش خلال ساعات، فإن الذي عنده علم من الكتاب يقدر على إحضاره خلال ثوان معدودة، لأن مدّ البصر إلى شيء بعيد، وإرسال الطرف إليه، ثم إعادته لا يستغرق إلا ثوان قليلة.
فهذا الذي عنده علم من الكتاب سيطوي المسافة الطويلة من اليمن إلى بيت المقدس، وسيقطعها في لحظات. ولن يفعل ذلك بنفسه، وإنما سيفعله بأمر الله، فالله هو الذي سيأتي بالعرش في الحقيقة؛ ولكنه سيجريه على يد الذي عنده علم من الكتاب.
ب- من هو الذي عنده علم من الكتاب؟
وقد كثرت الأقوال في تعيين هذا الشخص، منها:
- قيل إنه: آصف بن برخيا، وهو وزير سليمان وكاتبه، قالوا: كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، وهذا قول أكثر المفسرين.
- كما قيل هو سليمان نفسه. وهناك أقوال أخرى. وقد رجح بعض المفسرين أنه سليمان (عليه السلام)، فقد قال ابن عطية: قالت فرقة: بل هو سليمان (عليه السلام) والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لما قال هو: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ﴾، كأن سليمان (عليه السلام) استبطأ ذلك، فقال له على جهة تحقيره ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ واستدل قائل هذا القول بقول سليمان: ﴿هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾. وهذا القول ذكره النحّاس. وقال عنه القرطبي: وهو قول حسن (إن شاء الله تعالى)، رغم أنه قال قبل هذا الموضع: ولا يصح في سياق هذا الكلام مثل هذا التأويل.
وهذا الذي رجحه الرازي في تفسيره. ومن المعاصرين الدكتور فضل عباس، والدكتور محمود بكر إسماعيل، والشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمهم الله تعالى).
جـ- رأي الدكتور صلاح الدين الخالدي (رحمه الله):
وقد أبهم القرآن هذا الشخص الذي سيحضر العرش في لحظات، ولم يصفه إلا بأنه ﴿عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾، ولا يوجد حديث صحيح مرفوع للنبي ﷺ يتحدث عنه، ويضيف جديداً إلى ما في القرآن.
ولا نقول فيه إلا أنه رجل عنده علم من الكتاب، فلا نعرف اسمه ولا نسبه ولا جنسه، أهو من الجن أم من الإنس؟ ولا وظيفته وعمله عند سليمان (عليه السلام).
و﴿الْكِتَابِ﴾؛ هو كتاب الله الذي يحكم به سليمان (عليه السلام). ونعلم أن أنبياء وحكام بني إسرائيل كانوا يطبقون على قومهم أحكام التوراة، كما نعلم أن الله أنزل الزبور على داوود (عليه السلام)، وجعله مكملاً للتوراة.
وهذا معناه أن سليمان (عليه السلام) كان عنده كتابان وهما التوراة والزبور، علمه الله إياه وكان بهذا العلم المستمد من الكتاب قادراً -بإذن الله- على إحضار العرش في لحظات.
د- ما قاله الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر (رحمه الله):
قال -رحمه الله- في قوله: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾: وهذا يشير بكل سهولة إلى أنّه من العلماء، ويكون معنى الإشارة أن عرش (بلقيس) كان إحضاره عن طريق العلم، وأن طريق العلم أسرع من طرق الشياطين، ومرَدة الجن. الوسيلة -إذن- في إحضار عرش بلقيس إنما كانت الوسيلة العلمية، أما كيف، وأما التفاصيل، وأما دقائق التنفيذ، فإن ذلك كله لا سبيل إلى معرفته. ولعل تقدم العلم يكشف -في يوم من الأيام- عن الأسلوب الذي أُتي به عرش بلقيس، أو على الأقل يقربه من الأفهام والله أعلم.
إنّ القرآن الكريم يعرفنا بهذه القصة أن العلم يفعل الأعاجيب، وأنه يفعل ما لا تفعله الجن، وأن مقدرة العالم تصل إلى ما لا تصل إليه مقدرة عفريت من الجن، وأنه بالعلم تطوى الأرض وتزول المسافات، وتتحقق المعجزات. والقرآن الكريم حينما يقول ﴿الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾، فإنه من الواضح أن لا يقصد العلم الوهبي، وإنما يقصد العلم الكسبي. إنه علم ﴿الْكِتَابِ﴾، إنه ليس وحيًا، وهنا يجعلنا نتساءل:
- إلى أيّ مدىً بلغت الحضارة في عهد نبي الله سليمان (عليه السلام)؟
إنَّ الإتيان بالعرش ليس معجزة، والبيان القرآني لا يشير إلى معجزة، ولو كان الأمر أمر معجزة لكان سليمان أولى بها، وهو النبي الرسول.
إذن: إنها ثمرة من ﴿الْكِتَابِ﴾، وكل ما كان ثمرةً من الكتاب، فهو كسبي. إنه حضارة بكل ما تطلبه الحضارة من جهد في الملاحظة والتجربة والاستقراء، وبكل ما تطلبه الحضارة من تعمق في الأسرار والظواهر والتصرف في قوانين الكون باستخدام قوانين أخرى للتعبير والتبديل والتعديل أو الإلغاء أو التقوية.
ويُعلمنا القرآن الكريم بهذه القصة، أنه بالعلم تُطوى الأرض وتزول المسافات، أو يزول الزمن الذي يتطلبه (في نظرة الجاهلين) قطع المسافات والأمكنة. وكم من الزمن يستغرقه الآن انتقال الصوت عبر آلاف الأميال التي تفصل بين قُطر وقُطر، حينما يتحدث الإنسان في الهاتف (التلفون)، أو المذياع (الإذاعة)، وكذلك عند انتقال التلفاز (التلفزيون)، ومهما يكن من شيء فإنّ مردة الجن تعجز عما يستطيعه الإنسان بالعلم. قال ابن القيم -رحمه الله- بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 308-316.
- القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق - الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه - 1998م، (3/552-553-261).
- عمدة الحفاظ للسمين الحلبي، (3/116).
- صورة المرأة الحاكمة في سورة النمل، ص466.
- المحرر الوجيز (4/261).
- الجامع لأحكام القرآن (13/136).
- التفسير الكبير (8/557).
- تفسير الشعراوي (17/10785).
- قصص الأنبياء في رحاب الكون، د. عبد الحليم محمود، ص262.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689