حُكم داوود وسليمان (عليهما السلام) بين المتخاصمين في الحرث ..
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (70)
قال تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾:
هذه قضية ذكرها القرآن الكريم متعلقة بالحكم بين متخاصمين جاءا إلى داوود (عليه السلام) ليحكم بينهما في مسألة رعي غنم أحدهما زرع الآخر ليلاً دون إذنه، وكان ابنه سليمان له رأي آخر غير الذي حكم به والده داوود (عليه السلام)، فقد استدرك سليمان على أبيه، وأقرّ داوود حكم سليمان ابنه (عليهما السلام).
أ- ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾: منصوبان بفعل مقدّر، تقديره: اذكر داوود وسليمان.
والخطاب موجه لرسول الله ﷺ ولكل مؤمن من بعده يدعوه الله إلى أن يذكر ويتذكر هذه الحادثة التي حكم وقضى بها داوود وسليمان عليهما السلام.
ب- و﴿إِذْ﴾: ظرف زمان الماضي، وهو متعلق بالفعل المقدر؛ أي: اذكر داوود وسليمان وقت حكمهما في الحرث.
جـ- ﴿يَحْكُمَانِ﴾: يقضيان بين الخصمين، عندما رفعت لهما هذه القصة. ﴿فِي الْحَرْثِ﴾: في زرع أحدهما؛ أي: في مزرعته التي زرعها وقد يكون هذه المزرعة مزروعة زرعاً كالقمح، أو الشعير، وقد تكون مغروسة أشجاراً مثمرة كالعنب.
د- ﴿نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾: دخلت غنم الآخرين تلك المزرعة فرعتها وأفسدتها وكان دخولها فيها ليلاً.
ه- ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾: وكنا لحكم داوود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم فيما أفسدت غنم أهل الغنم من حرث أهل الحرث شاهدين، لا يخفى علينا منه شيء ولا يغيب عنا كلمة.
2- ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾:
أ- وقد أثنى الله على سليمان في حكه بقوله: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾؛ والهاء في ﴿فَفَهَّمْنَاهَا﴾ تعود على القضية والدعوى المعروضة. أي: ففهمنا سليمان القضية، وأرشدناه إلى أن يحكم فيها الحكم الأصوب والأكمل.
ب- ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾؛ أي: إنّ داوود عنده حكم وعلم من الله، وسليمان عنده حكم وعلم من الله، فحكم داوود في القضية بما آتاه الله من حكم وعلم، ثم حكم فيها سليمان بما آتاه الله من حكم وعلم، فجاء حكم داوود فيها صواباً. فالآية لم تخطِّئ داوود في حكمه، وإنما أثنت عليه لما عنده من حكم وعلم، وهذا معناه أن حكمه كان صحيحاً، وليس خطأً.
ولم ترد مادة (فهم) في القرآن إلا في هذا الموضع. قال الراغب عن الفهم: الفهم: هيئة للإنسان، بها يتحقق معاني ما يحسن. يقال: فهمت كذا.
- وقوله: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾: وذلك إما بأن جعل الله له من فضل قوة الفهم ما أدرك به ذلك؛ وإما بأن ألقى ذلك في رُوعه، أو بأن أوحى إليه وخصه به. وأفهمتُهُ: إذا قلت له حتى تصوِّره. فهم الله سليمان الدعوى، وأفهمه الحكم الأصوب والأولى فيها، فاستدرك على أبيه عليهما السلام.
وفي قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 79].
والقضية أن زرعاً دخلت فيه غنم لقوم ليلاً فأكلته وأفسدته، فجاء المتخاصمون إلى داوود، وقصّوا عليه القصة، فحكم بالغنم لصاحب الزرع عوضاً عمّا أفسدته الغنم ليلاً، فلما خرج الخصمان على سليمان، وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، فردهما وراجع والده، واقترح أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وأصوافها، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم في السنة المقبلة رد كل منهما ماله إلى صاحبه، فقال داوود (عليه السلام): وُفّقت يا بني، لا يقطع الله فهمك. وقضى بما قاله سليمان. وعرض المفسرون والعلماء المسألة بتوسّع كبير، وأخذوا منها أحكاماً شرعيّة واستنباطات قضائية عدّة.
والمهم أن سليمان كان قاضياً ملهماً وموفقاً ومؤيّداً من الله تعالى، وأن قضاءه كان بعد قضاء والده فكأنه -في الاصطلاح المعاصر- استئناف للحكم، ونقض للحكم الأولي، وهو المطبق في جميع دول العالم اليوم، والمعروف بدرجات التقاضي.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 316-321.
- القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق - الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه - 1998م، (3/443-446).
- جامع البيان، الطبري، (17/50 - 51).
- شرعة الله للأنبياء، محمد مصطفى الزحيلي، دار ابن كثير، دمشق، ط1، 2018م، ص496.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: