الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ..

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام )

بقلم: د. علي محمد الصلابي ...

الحلقة (67)

 

قال تعالى: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾:

أراد سليمان أن يفاجئ الملكة بآية باهرة ومعجزة قاهرة تكون دليلاً على أنه نبي مرسل معه العون والمدد والنصرة من الله، فجمع أهل الحل والعقد في مملكته وعرض عليهم خطته.

إن سليمان (عليه السلام) أراد من إحضاره العرش أن يكون ذلك دليلاً على نبوته وليريها عظمة قدرة الله وقوة سلطان الله سبحانه وتعالى، وليختبر رجاحة عقلها عند مواجهة الصدمات.

يقول الدكتور الخالدي (رحمه الله): هدف سليمان (عليه السلام) من ذلك أن يُري الملكة ووفدها مظهراً من مظاهر قوته واتساع نفوذه، وضخامة سلطانه، وقوة إمكاناته، وذلك ليقضي على أي وسواس في نفوس الوفد بالمواجهة أو المقاومة، وليزيل أي شك في نفوسهم عن الإيمان بالله، ويزدادوا يقينا بأنه لا إله إلا الله.

وعلى ما يبدو كان لدى سليمان (عليه السلام) مع كونه نبياً مقرّباً قوياً، مجلس استشاري يضم الإنس والجن، وهم يساعدونه في تدبير أمور الحكم، ويشيرون عليه بالخير فجمعهم، وقال: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾:

وقد عرف سليمان -من الهدهد- أن للملكة عرشاً عظيماً، ومن المؤكد أن الملكة – قبل خروجها – وضعت عليه حراسة مشددة؛ فمن عادة الملوك إذا خرجوا في سفر أو زيارة شددوا الحراسات وضاعفوا إجراءات الحماية على مؤسسات الحكم العامة، وخاصة القصر الملكي أو الجمهوري الذي يمثل رمز استقرار النظام، ومنه يخرج القرار. ومع ذلك، فسليمان يريد ذلك العرش قبل أن تصل الملكة ووفدها مسلمين، أي: مذعنين منقادين خاضعين وقد قدم لسليمان عرضان لإحضار العرش: الأول من عفريت من الجن، والثاني من شخص عنده علم الكتاب.

4- ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾:

ورد لفظ الجن في القرآن الكريم في آيات كثيرة، وسميت باسمهم سورة هي سورة الجن، وورد في السنة المطهرة كذلك ذكر الجن في مواضع متعددة؛ وكل ذلك، إنما يدل على أهمية هذا المخلوق؛ إذ أنه يشاطر الإنس في التكلف، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

ويستخلص من التعريفات المتعددة للجن، بأنهم نوع من الأرواح العاقلة المريدة المكلفة على نحو ما عليه الإنسان، وهم مجردون من المادة، مستترون عن الحواس، لا يُرونَ على طبيعتهم ولا بصورتهم الحقيقية، ولهم القدرة على التشكل، ويأكلون ويشربون، ويتناكحون، ولهم ذرية، وهم محاسبون على أعمالهم في الآخرة.

صرح القرآن الكريم والسنة النبوية بذكر المادة التي خلق منها الجن، فقد ورد في القرآن قوله تعالى: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر:27[، وذلك مقابل الحديث عن خلق الإنسان من طين، كما في قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [الرحمن:15[.

وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن إباء إبليس للسجود لآدم (عليه السلام)، كقوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12[.

وأما في السنة النبوية، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: «خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجَانُّ من مَارِجٍ من نار، وخُلق آدم مما وُصِفَ لكم».

وهكذا نلاحظ بأن القرآن الكريم والسنة النبوية، قد حددا ماهية المادة التي خلق منها الجن، حيث عبر القرآن عنها مرة بنار السموم، ومرّة بأنها من مارج من نار، فما هي هذه المادة وطبيعتها؟

قال الطبري في تفسير المارج: هو ما اختلط بعضه ببعض من بين أحمر وأصفر وأخضر، من قولهم: مَرِج أمر القوم: إذا اختلط، ومن قول النبي (ﷺ) لعبد الله بن عمرو بن العاص: «كيف بكَ إذَا بَقِيتَ في حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ مرَجَتْ أماناتُهم وعهودُهم». وذلك هو لهب النار ولسانه.

ومما يؤيد هذا القول ما ورد عن ابن عباس في تفسير المارج قال: المارج: اللهب، وقال: خلق الله الجان من خالص النار، وعنه أيضاً: من لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار، فيختلط بعضه ببعض: أحمر وأصفر وأخضر. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وقال المبرد: المارج: النار المرسلة التي لا تمنع.

وفي واقع الأمر أن هذه الروايات كلها متقاربة المعنى وتؤدي معنى واحداً، فخالص النار أو ما كان في طرفها إذا التهبت واختلطت، تعطي ألواناً من الحمرة والصفرة والاخضرار، وهو الذي خلق منه الجن.

وأما بالنسبة للسموم في الآية الأخرى، فقد قال ابن عباس في تفسير ذلك: السموم الريح الحارة التي تقتل. وعنه: أنها نار لا دخان فيها، وقال ابن مسعود: نار السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم.

وقال الإمام النسفي: من نار السموم: من نار الحر الشديد النافذ في المسام. وهذا التفسير لنار السموم لا يخالف تفسير المارج -كما تقدم- إذ إن الشعلة الزرقاء الملتهبة التي تكون في طرف النار، تمتاز بقوة الحرارة ولها خاصية النفاذ من كل المسام.

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 304-308.

- القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق - الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه - 1998م، (3/549-550).

- سليمان (عليه السلام) في القرآن الكريم، همام حسين يوسف سلوم، ص173.

- العقائد الإسلامية، سيد سابق، ص133.

- تفسير الطبري نقلاً عن عالم الجن في القرآن، مرجع سابق، ص14.

- عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة، عبد الكريم نوفان عبيدات، ص14

- تفسير النسفي، 2/272

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022