الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

استشارة ملكة سبأ لقومها بشأن كتاب سليمان (عليه السلام)

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهما السلام)

بقلم د. علي محمد الصلابي ...

الحلقة (66)

 

قال تعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾:

في هذا تبدو سمة الملكة الأريبة؛ فواضح منذ اللحظة الأولى أنها أخذت بهذا الكتاب الذي ألقي إليها من حيث لا تعلم، والذي يبدو فيه الحزم والاستعلاء وقد نقلت هذا الأثر إلى نفوس الملأ من قومها وهي تصف الكتاب بأنه (كريم)، وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، إنما تمهد له بذلك الوصف، ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة.

أ- ﴿أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾؛ أي: أشيروا عليّ، وقدّروا لي التصرف المناسب في هذا الأمر المفاجئ، فماذا نتصرف؟ وماذا نفعل؟

ب- ﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾؛ وتابعت طلب الفتوى والمشورة، وقالت بأنها لا تقوم بتصرف ولا إصدار حكم، ولا تضع أمراً ولا تخطوا خطوة، إلا بعد أن تضع أشراف قومها في الصورة، وتطلعهم على القضية، وتسمع آراءهم وفتاويهم، وتستفيد من أصحاب التحليل الدقيق، والخبرة العميقة.

إنّ هذا الموقف من الملكة، وإخبارها لقومها بتفاصيل حادثة رسالة سليمان (عليه السلام) يدل على طبيعة نظام الحكم في سبأ، والتي كانت تمارسه تلك الملكة الحكيمة، وهو أشبه بما يسمى بنظام الحكم الديمقراطي في العصر الحديث.

وإن هذه مزية تسجل لنظام الحكم في سبأ في ذلك الزمان البعيد، باعتبار سبأ مملكة عربية أقيمت في بلاد اليمن، ونشأ نظام حكمها على مشاركة الملأ والوجهاء للملكة، ولهم سبق زمني في هذا النوع من الحكم. وعلى عادة رجال الحاشية أبدوا استعدادهم للعمل؛ ولكنهم فوضوا الرأي.

3- قوله تعالى: ﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾:

أجابوا بثلاثة أمور مطمئنة ملقية في نفسها روح الاطمئنان على حكمها وسلطانها.

- أول هذه الأمور الثلاثة: ﴿أُولُو قُوَّةٍ﴾ أي: أصحاب قوة في استعدادنا من حيث العددُ والذخيرة، وكل ما يحتاج إليه الجندي القوي المستعد.

- الأمر الثاني: أنهم ﴿وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾؛ أي: أهل همة ونجدة وشجاعة، لا نفرط في الدفاع أو الجهاد إذا دعاه داعيه. وإن بأسنا شديد، لا نتخاذل في حرب.

- الأمر الثالث: أن القيادة كلها (الأمر إليها) ولذا قالوا: ﴿وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ﴾ أي: نحن نتعاون طائعون والأمر إليكِ ﴿فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾؛ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي؛ إذا كان الأمر إليكِ فانظري ماذا تأمرين، أي انظري في نفسك الذي تأمرين به، لأن الاستعداد كامل لتنفيذ الذي تأمرين به كاملاً غير منقوص.

قال السعدي (رحمه الله): أي: إن ‌رددتِ ‌عليه قوله ولم تدخلي في طاعته فإنا أقوياء على القتال، فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي الذي لو تم لكان فيه دمارهم، ولكنهم أيضا لم يستقروا عليه بل قالوا: ﴿وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ﴾ أي: الرأي ما رأيت لعلمهم بعقلها وحزمها ونصحها لهم ﴿فَانْظُرِي﴾ نَظَر فكرٍ وتدبرٍ ﴿مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾.

فأجابت:

4- ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾:

حين أشاروا عليها لم تجارهم في ذلك وحذرتهم من المساس بمصالحهم ليعيدوا التفكير في ضوء ذلك، ولكن البطانة الواثقة، مما لديها لمواجهة العدو، والتي عززت الثقة بالملكة حين أعادت الأمر إليها، لم تقنع الملكة برأيها الذي يبدو أنها كانت تتوقعه منهم؛ فبحثت بدورها عن أساليب أكثر عقلانية في التعامل مع المعضلة الكبيرة، وهذا يشير إلى عمق معرفتها واتساع هذه المعرفة، ورجاحة عقلها في العمل بما تعلم: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾؛ وبذلك حذرت عِلية القوم من أنهم سيكونون أول الخاسرين من حدوث الحرب، إن كانت الغلبة للعدو، وإن لم تقدر الأمور مسبقاً تقديراً سليماً. وفي ذلك إشارة تحذيرية واضحة لمستشاريها وعِلية قومها من حيث إنّ الحروب لا تحمد عقباها ولا تضمن نتائجها، فقد كانت تدرك وتعلم قبل التثبت من قدرة العدو ومقاصده الحقيقية، لهذا استبعدت الملكة المواجهة، وجعلته خياراً متأخراً يقتضي قبله معرفة العدو واختباره، علاوة على ما يحمل الموقف من رجاحة العقل والتفكير، من حيث إن خيار المواجهة فيه غرور، فتعاملت معه بوصفه وجهة نظر تحتمل الحكم عليها بالخطأ أو الصواب.

لقد كانت الملكة أكثر عقلانية من مستشاريها في التعامل مع الموقف، وهي تبعاً لذلك يصعب خداعها أو تضليلها، بسبب ما تتمتع به من بصيرة وعلم وحكمة وذكاء.

- جملة ﴿وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ﴾: يحتمل أن تكون من كلام الملكة كأنه تذييل وتأكيد على كلامها السابق بحق الملوك بحكم تجارب التاريخ، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تصديقاً لقولها عن الملوك. ورجح الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- أن هذه العبارة من الحق سبحانه وتعالى، فقال: فالرأي الصواب أن ‌هذه ‌العبارة ‌من ‌الحق سبحانه وتعالى ليُصدِّق على كلامها، وأنها أصابت في رأيها، فكذلك يفعل الملوك إذا دخلوا قرية، مما يدل على أن الحق سبحانه رب الخلْق أجمعين، إذا سمع من عبد من عبيده كلمة حق يؤيده فيها، لا يتعصب ضده، ولا يهضمه حقه.

والملوك نوعان: صالحون عاملون بشرع الله عادلون في أحكامهم وما وُلّوا. وملوك فاسدون مفسدون متجبرون يحكمون الناس بالظلم والعدوان. وقول ملكة سبأ ينطبق على الملوك الذين يحكمون بشرائع الضلال والجاهلية، والشرائع القائمة على الظلم والشر والباطل والتي تسوّل للسياسة والأمراء والملوك الطغاة أن يفعلوا الآثام والمنكرات ويسعوا في الأرض فساداً.

أ- قال المكي الناصري -رحمه الله- تعليقاً على الآية الكريمة:

هذا ما ‌ينبغي ‌أن ‌يكون عليه الراعي من حصافة الرأي وتقليب وجوه النظر، والجنوح إلى الوسائل السليمة في معالجة المشاكل السياسية، بدلا من الوسائل الحربية، وهذا المعنى هو الذي تشير إليه ملكة سبأ صراحة وضمنا.

ب. قال الشنقيطي -رحمه الله- في مقدمة الأضواء:

ألا ترى أن ملكة سبأ في حال كونها تسجد للشمس من دون الله هي وقومها، لما قالت كلاماً حقّاً صدقها الله فيه، ولم يكن كفرها مانعاً من تصديقها في الحق الذي قالته.

هذا؛ وقد ظهر تميز ملكة سبأ حين عرضت عليهم رأيها بعد أن أخذت الثقة منهم والموافقة على ما تنوي فعله بوصفه أكثر حصافة وعقلية، خاصة أنها تسعى من خلاله للحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم. وحين أعلنت عن إرسال الهدية لم تخبرهم بالخطوة اللاحقة، وإنما أشارت إلى أنها ستبني موقفها بناء على الموقف الذي سيظهره سليمان (عليه السلام)، وبما سيعود به الرسل من معلومات.

5- ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾:

ولم تقل: (إليه) رغم أنه خاطبها بصيغة المفرد (عليّ) و (اتوني) وفي تقديرها أن المرسل ما كان ليكون وحيداً في تدبيره، إذ من الواضح أنه قد استعد بصورة كافية ليرسل مثل هذا الخطاب، وهو على علم بأنها لا تحكم منفردة، ولهذا خاطبهم بصيغة الجمع، وما دام كذلك فهو يعلم مدى استعداد أهل مملكتها للمواجهة والحرب، ومدى ثقتهم بأنفسهم، وبقدراتهم مما قد يدفعهم للعلو عليه، ولهذا نجدها تستخدم في خطابها أمام قومها مفردات مماثلة: (إليهم) ليدرك قومها جلل الموقف أيضاً، وهي ترغب بمزيد من الوقت والمعرفة لتدقيق النظر، وإمعان التفكير بما يجري حولها، وما يحدث معها وبمصير ملكها ومستقبل شعبها.

إن إرسال الهدية إلى سليمان (عليه السلام) تمثل المناورة السياسية، وإظهار الميل إلى السلم وحسن النية، والرغبة في كسب الوقت، ومحاولة كشف الآخر وفهمه، ومعرفة دوافعه، ونقاط ضعفه، بالإضافة إلى التعامل على أساس النديّة، فقد أرسل الملك كتاباً، وهي ترد كملكة لها مكانتها فترسل هدية، فتكون أقرب إلى تحقيق غايتها، بمعنى أنها لم تكتف بالرد على كتاب، مهما كان نوع هذا الرد، وإنما تجاوزت ذلك بإرسال هدية بغية دفع الأمور باتجاه آخر، غير الذي كان يخطط له المرسل، وذلك من وجهة نظرها كملكة لديها خطة، فهي لا تقف متفرجة ولا تستلم، وإنما تصنع الحدث وتؤثر فيه، وتسعى في الوقت نفسه إلى احتواء الآخر وتسييره نحو الهدف الذي يشغلها كملكة عاقلة في طلب السلام، وتحقيق شروطه؛ إذ أكثر ما تكشف الهدية نوايا الملكة، فلقد أرادت أن تقدم نفسها للملك الغاضب في صورة الوديع المسالم، وهي بالتأكيد الصورة التي أرادت تقديمها عن شعبها، وإن كانوا في الحقيقة أولو قوة وأولو بأس شديد ، ولكنها أرادت أن توصل إليه رغبتها وشعبِها في السلام، وإقامة أواصر المحبة بين الشعبين، وإن كانت في الأصل ترغب بمعرفة المزيد عن الملك الغريب الذي يهدّد عرشها، وتختبر قوته ومواطن ضعفه وحقيقة دعوته، خاصة أن النبوة لم تكن في عقيدتها.

إن الهدية ما يعطى بقصد التقرب والتحبب.

أرادت الملكة أن تمتحن سليمان (عليه السلام)، وتختبر نفسه، وتبتلي أخلاقه، لتعرف أهو جاد في كتابه؟ أم أنه صاحب أطماع مادية، يسكته بريق الذهب والمال؟ فقررت أن ترسل إليه هدية، هي في واقع الحال رشوة تحت ستار هدية.

روي عن ابن عباس أنه قال: قالت لقومها: إن قبل الهدية، فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتّبعوه.

وهذا من رجاحة عقلها وفطنتها، فقد علمت أن للهدية تأثيراً بالغاً في النفوس.

قال صاحب الظلال: والهداية تلين القلب، وتعلن الود، وقد تفلح في دفع القتال. وهي تجربة. فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا، ووسائل الدنيا إذن تجدي. وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة، الذي لا يصرفه عنه مال، ولا عرض من أعراض هذه الأرض.

والهدية تُزيل حزازات النفوس، وتبني جسور الود والحب والتقدير، وهي لعلها أرادت عن طريقها بناء علاقات طيبة مع سليمان (عليه السلام).

- وفي قوله: ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾: دلالة على أنها لم تثق بالقبول وجوزت الرد وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان. ويبدو أن الملأ وافقوها على رأيها، واستحسنوا خطتها.

هكذا أرجأت الملكةُ القرارَ النهائي في الأمر حتى يرجع المرسلون، أي لا قرار قبل الاستيضاح والفهم بدوافع الطرق الآخر، ويكشف الموقف أيضاً عن كونها ليست متعجلة أو متسرعة، فهي تمعن النظر، وتديم التفكير، وتبني مواقفها على حقائق وبراهين ثابتة، وليس على التوقع والظن.

أعدت الملكة هديتها وأرسلت بها مع وفد رفيع كعادة الملوك، والقرآن الكريم سكت عن هذه الهدية ما هي، وما حجمها؟ وما نوعها؟ وبالغت الإسرائيليات في وصفها مبالغة كبيرة لا يصدقها عقل، وهي أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقيقة.

قال ابن عطية عن هذه الهدية: أكثر بعضُ الناس في تفصيلها، فرأيت اختصار ذلك لعدم صحته.

وقال الألوسي في التعليق على ما ورد من شأن هذه الهدية: وكل ذلك أخبار لا ندري صحتها ولا كذبها، ولعل في بعضها ما يميل القلب إلى القول بكذبه. وكل ما نستجيز قوله هنا: أنها هدية ثمينة تليق بالملوك، فملكة سبأ تريد استرضاء سليمان حتى يكفّ بأسه عن قومها.

رجع الهدهد وأخبر سليمان (عليه السلام) بخطة الملكة وما انعقد عليه رأي القوم، ووصل الوفد الرفيع الذي يحمل الهدية إلى سليمان (عليه السلام)، فكان موقف سليمان (عليه السلام) ما قصّه علينا القرآن الكريم.

 

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 287-296.

- القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق - الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه - 1998م، (3/542).

- تفسير الشعراوي، (17/10777-10780).

- في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2640).

- زهرة التفاسير (10/5452).

- تفسير السعدي، ص804.

- صورة المرأة الحاكمة، ريم المرايات، ص 478-479-480.

- سليمان (عليه السلام) في القرآن الكريم، همام حسن سلوم، ص 167- 168-169.

- التيسير في أحاديث التفسير، (4/428).

- أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، دار عطاءات العلم، ط5، 1441ه، (1/6).

- تفسير الطبري (19/155).

- تفسير الرازي (8/555).

- المحرر الوجيز (4/259).

- روح المعاني، الألوسي، (19/200).

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022