الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تسخير الجبال والطير والحديد لداوود (عليه السلام)

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (76)

 

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾:

أ- ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا﴾:

أي: لقد أعطينا داوود فضلاً عظيماً ونعماً جليلة، لم يعطها لكثير من الأنبياء. وكلمة ﴿مِنَّا﴾ دلّت على أن النعمة ليست من ذاتك، إنما من الله؛ فتقديم الجار والمجرور هنا أفاد قصر النعمة على الله سبحانه وتعالى. فهي عنده من لدنه، وذلك تشريف للفضل الذي أوتيه داوود (عليه السلام).

وتنكير ﴿فَضْلًا﴾ لتعظيمه، وهو فضل النبوة وفضل الملك، وفضل العناية بإصلاح الأمة؛ وفضل القضاء بالعدل، وفضل الشجاعة في الحرب، وفضل سعة النعمة عليه، وفضل إغنائه عن الناس بما ألهمه من صنع الدروع الحديد، وفضل إيتائه الزبور، وإيتائه حسن الصوت وطول العمر . والعلم النافع، والعمل الصالح، والنعم الدينية والدنيوية، وغير ذلك.

ب- ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾:

أي: قلنا: يا جبال. وجعل الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد، وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته، ودلالة على عزة الربوبية، وكبرياء الألوهية، حيث نادى الجبال وأمرها.

- ﴿أَوِّبِي﴾: يعني رجّعي معه ما يقول، وما يقرأ من الزبور، أو من الذِّكر. وهذا من فضل الله على داوود (عليه السلام) أن خصّ -بأمره تعالى- الجمادات كالجبال والحيوانات من الطيور أن تؤوّب معه، وترجّع التسبيح بحمد الله ربها مجاوبة له. وفي هذا من النعمة عليه أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لأحد قبله ولا بعده، وأن هذا يكون منهضاً له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات تتجاوب بتسبيح ربّها وتمجيده وتكبيره وتحميده، كان ذلك مما يهيِّج على ذكر الله تعالى، فقد أعطى الله داوود (عليه السلام) من حسن الصوت ما فاق به غيره، وكان إذا رجّع التسبيح والتهليل والتمجيد بذلك الصوت الرخيم الشجيّ المطرب؛ طرب كل من سمعه من الإنس والجن، حتى الطيور والجبال، وسبحت ربّها.

والآية تصور أنه من فضل الله على داوود (عليه السلام) أنه قد بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه، وأنه أوتي القدرة على سماع تسبيح الجبال والطير، وأنه يسمعها وهي تسبح معه، وهذه الشفافية التي بلغها داوود (عليه السلام) تدل على إخلاصه الكبير وصدقه في التوجه لعبادة الله تعالى، وإنها لمنزلة من الإشراق والصفاء والتجرد، لا يبلغها أحد إلا بفضل الله، وإنها للحظات عجيبة لا يتذوّقها إلا من عنده بها خبر ومن جرب نوعها، ولو في لحظة من حياته.

والحقيقة الثابتة في كتاب الله: أن ما من مخلوق في الكون إلا يسبح بحمد الله، قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]. وما دام الله حكم أننا لا نفقه تسبيحهم، فهو تسبيح بالقول.

والذين قالوا تسبيح الدلالة استعظموا أن يكون للجبل كلام ولغة تفاهم، لكن هل للجبل كلام معك أنت؟

للجبل كلام مع ربه وخالقه الذي قال: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

وتأمل قوله تعالى: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾، فجمع بين تسبيح الرعد وهو جماد، وتسبيح الملائكة وهم أعلى أجناس المخلوقات، وأين وجه الدلالة في تسبيح الملائكة؟ فلماذا العجب، وقد ثبت أن لكل شيء لغة تناسبه، وقد رأينا لغة للهدهد، ولغة للنمل ...إلخ، فعظمة سيدنا داوود أنه فهم لغة الجبال، وسمع تسبيحها، ووافق تسبيحها تسبيحه كذلك. ﴿ وَالطَّيْرَ﴾؛ يعني: يا طير أوِّب مع داوود وردد معه التسبيح.

جـ- ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾:

إلانة الحديد في وقتنا الحاضر تتطلب صناعة معقدة وآلات ضخمة، ويداً عاملة بمهارات غالية، وقوة لتوليد الطاقة، فأمرها ليس هيّناً. أما في وقت داوود (عليه السلام)؛ فكانت إلانة الحديد معجزة عظيمة بين يديه بأمر من الله تعالى، كما يفهم من الآية أنه فضل من الله على داوود، كما جاء فضله عليه من قبل، من تأويب الجبال والطير المسخرات له بأمر من الله.

تحدث المفسرون أن الله جعل الحديد بين يديه كالعجين أو كالشمع يثبّته كيفما يشاء، ثم يصبح الحديد حديداً صلباً كما تعرفونه، ولا يحتاج إلى أن نحمّي الحديد حتى يصبح كالعجين، ثم يطرق بالمطارق. وهذا من قدرة الله العظيمة.

ويحتمل أنّ تعليم الله له، على جاري العادة، وأن إلانة الحديد له، بما علمه الله من الأسباب المعروفة الآن لإذابتها، وهذا هو الظاهر. فعندما امتن الله على داوود والعباد بصناعة الدروع أمرهم بشكرها. ولولا أن صنعته من الأمور التي جعلها الله مقدورة للعباد، لم يمتن عليهم بذلك، ويذكر فائدتها؛ لأن الدروع التي صنع داوود (عليه السلام) متعذّر أن يكون المراد أعيانها، وإنما المنة بالجنس: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: 80].

ويبدو أن الحديد كان معروفاً قبل داوود (عليه السلام) لكن استعمال الإنسان له كان قليلاً محدوداً. وأما داوود (عليه السلام)، فقد هداه الله سبحانه إلى اكتشاف مناجم الحديد في مملكته، وألانه له، وجعله طوع يديه، فكان يصنع منه ما يشاء. وأصبحت الصناعات المكونة من الحديد رائجة في عصره، وتستخدم على نطاق واسع في المظاهر المدنية والحضارة والعسكرية. إن الله عز وجل أنعم على عبده داوود بتسييل الحديد له، أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي هو مادة الإعمار والبناء والتصنيع. ولا شك في خطورة مادة الحديد في صناعة الحضارات، وبناء الدول، وفي حسم انتصارات الجيوش. يقول الدكتور عماد الدين خليل: وفي سورة الحديد تقرأ هذه الآية: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: 25]. سورة الحديد؟ هل ثمة أكثر دلالة على ارتباط المسلم بالأرض من تسمية سورة كاملة باسم خام من أهم وأخطر خاماتها؟

هل ثمة ما هو أكثر إقناعا لنزعة التحضر والإبداع والبناء التي جاء الإسلام لكي يجعلها جزءاً أساسياً من أخلاقيات الإيمان وسلوكياته في قلب العالم، من هذه الآية التي تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة أنزلها الله لعباده، وأنزل معها المسألة في طرفيها الّذين يتمخّضان دوماً عن الحديد: ﴿بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ متمثلاً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والإعداد العسكري، والـ ﴿مَنَافِعُ﴾ التي يمكن أن يحظى بها الإنسان من هذه المادة الخام في كافة مجالات بنائه ونشاطه (السلمي)؟! وهل ثمة حاجة للتأكيد على الأهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن، في مسائل السلم والحرب، وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في ميادين القوى الدولية سلماً وحرباً؟

إن الدولة المعاصرة التي تملك خام الحديد تستطيع أن ترهب أعداءها بما ينتجه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل، وتستطيع -أيضاً- أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعاتها وغناها.

إن الله سبحانه وتعالى منح الحديد لداوود (عليه السلام) وعلّمه كيف يُلينه؛ لأن الفائدة تتحقق بوجود الخام والقدرة على تشكيله، ولا شك أن ذلك ساعد على بناء حضارة عظيمة جمعت بين المنهج الرباني، والتطور العمراني والصناعي ...إلخ

وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخلاً عميقاً وارتباطاً صميماً بين آية الحديد، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب معهم، وإقامة الموازين الدقيقة لنشر العدل بين الناس، وبين إنزال الحديد الذي يحمل في طياته (البأس). ثم التأكيد على أن هذا كله إنما يجيء لكي يعلم الله: ﴿مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ و ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.

إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة الله إلا يده المؤمنة التي تعرف كيف تبحث عن الحديد، وتشكله، وتستخدمه من أجل حماية العقيدة والتقدم بهذا الدين، وتحقيق النصر للمؤمنين، وإقامة دولة تحكمها شريعة رب العالمين. وإن قول الله تعالى: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ فيه إشارة إلى أهمية هذا الخام، وتوظيفه في عمارة الأرض، وخدمة الإنسانية، والدفاع عن المقدسات.

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 342-350.

- التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، (7/128).

- تفسير الشعراوي (20/12270-12271).

- تفسير السعدي، ص903.

- البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، دار الفكر، ط1، 1430ه، (7/12270).

- في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2897).

- داود وسليمان من وحي القرآن، د. عقيل حسين، ص 78.

- تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، د. محمد راتب النابلسي، مؤسسة الفرسان، عمان، الأردن، ط1، 2017م – 1438ه، (10/163).

- تفسير النابلسي (10/163).

- التفسير الإسلامي للتاريخ، د. عماد الدين خليل، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1986م، ص221 – 222.

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022