الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

من الصفات القيادية لسليمان (عليه السلام) الفِهم والحكمة

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (89)

 

من صفات سليمان (عليه السلام) المتداخلة مع بعضها في شخصيته: الفهم والحكمة، والعلم. قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًاً﴾ [الأنبياء: 79]؛ فقد أعطاه الله فهماً عظيماً للأمور القضائية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والدعوية، وهذا الفهم مصحوب بالحكمة ووضع الأمور في محلها.

وتنبع حكمة سليمان وفهمه العميق للأمور من قيم سامية ذات أهمية بالغة ومكانة رفيعة، وهي تحرص على هداية الناس ودخولهم في دين الله سبحانه، ورفع الظلم عنهم وإقامة العدل بينهم وتفجير طاقاتهم المكنونة، لكي ينطلقوا في عمارة الأرض والشهود الحضاري لأهل الإيمان من الجن والإنس.

البناء والإبداع:

ومن صفات شخصية سليمان (عليه السلام): الإبداع والبناء في جوانب الحياة المتعدد المتعلقة بالملك. والناس سواء في الإدارة أو الاقتصاد أو الجندية والعلوم والمعرفة أو الاكتشافات للخام والصناعات كالحديد والنحاس وغير ذلك.

فقد أبدع سليمان (عليه السلام) في استخدام العلم لإحضار عرش بلقيس مع المحافظة عليه وتنكيره، وزاد الإبداع الحضاري في استخدام البناء والعمران والعلم والأدوات ووسائل الحياة بتقديم نموذجٍ من معالم التحضر الرفيع والآيات القرآنية، صوّر هذا قوله: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ ليريها ملكاً هو أعز من ملكها، وسلطاناً هو أعظم من سلطانها ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾؛ لا تشك أنه ماء تخوضه. قيل لها: ادخلي صرحا ممردا من قوارير، فلما وقفت على صرح سليمان دعاها إلى عبادة الله، ونعى عليها في عبادتها الشمس من دون الله. واستخدم معها عقل النبيّ ومنطقه الرشيد وحججه الوجدانية المستمدة من شرع الله وموكب الأنبياء والمرسلين، فكان سبباً في هدايتها.

في قوله تعالى: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44]؛ تظهر ملامح البيان والعمارة العالية والإبداع الرفيع والتطور الحضاري في استخدام العناصر الطبيعية واستثمار الغاز في الأرض على نحو يحقق للإنسان الحياة ونظام المعاش، والبحث في محتويات البيئة، والكشف عن ثرواتها بما يحقق النفع للإنسان والمجتمع، فالعلم هنا يستثمر في الإبداع المعماري، وتطوير المدينة على أسس من الحضارة الربانية الموصولة بالخالق العلمي.

فالحضارة التي قادها سليمان (عليه السلام)، ارتبطت بالقيم المعنوية والمادية، وحققت التوحيد وأفردت العبادة لله جل جلاله، وحاربت الشرك، وساهمت في البناء المعرفي والحضاري، والارتقاء الإنساني بمنظومة الأخلاق الإنسانية الفريدة المرتبطة بالنهج الرباني.

علو الهمة:

من صفات سليمان (عليه السلام) التي تميز بها، علو الهمة وقوة عزيمته. وتظهر هذه الصفة في دعائه لربه: ﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19]، ففي هذه الآية طلب سليمان (عليه السلام) من ربه ثلاثة أمور:

الأول: أن يلهمه الله تعالى ويوفقه لشكر النعم التي أنعم الله بها عليه وعلى والديه.

الثاني: أن يوفقه لكل عمل صالح يحبه ويرضاه.

الثالث: أن يدخله الجنة مع عباده الصالحين.

فهذه مطالب عالية وأهداف سامية؛ تدل بكل وضوح على علو همته وقوة عزيمته.

وفي دعاء سليمان (عليه السلام): ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾؛ يدل على دخول الجنة برحمته وفضله، لا باستحقاق العبد نفسِه. وسليمان (عليه السلام) في الآية الكريمة طلب ما يكون وسيلة إلى ثواب الآخرة أولاً، ثم طلب ثواب الآخرة ثانياً.

وتظهر صفة علو همته في عبوديته لله عز وجل والتزامه بمنهج الله في تحقيق مرجعية الفعل والحركة: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 30]. وعلو همته في تحقيق العبادة لله؛ جعلته بعيداً عن الأهواء الشخصية والنزعات البشرية المستبدة.

وإن علو همته جعلته يسير على نهج والده في الجهاد والدعوة، وتعظيم شرع الله عز وجل، وتحمل المسؤولية ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داوود وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ [النمل: 16].

الانفتاح على الآخرين:

من صفات سليمان (عليه السلام) الانفتاح على الآخرين، وهي صفة برزت في شخصيته بكل وضوح، وهي من معالم التحضر والرقي والتواصل الإنساني الرفيع، فكان انفتاحه على مملكة سبأ انفتاحا دعوياً فيه الحرص على هدايتهم، وكذلك انفتاحاً حضارياً لتجسيد التعاون الإنساني على مستوى العلاقات التجارية والاقتصادية، والتقدم والتحضر والمعرفة والعلوم والثقافة، بل إن سليمان (عليه السلام) كان منفتحاً على الهدهد، واستفاد من معلوماته وخبرته وتوصيله لرسالته. وكان منفتحاً على النمل، وعلى الجن، وعرف كيفية الاستفادة منهم في دولته، بل قدّم بعضهم، وأصبحوا من الملأ الذين يستشيرهم ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ [النمل: 39].

فقد كان انفتاح سليمان (عليه السلام) إيجابياً حقق به مكاسب لدولته ودعوته.

القدرة على التخطيط والتنفيذ:

إن من صفات سليمان (عليه السلام)، القدرة على التخطيط، وفي إدارة سليمان (عليه السلام) تخطيط دقيق لحشد هائل من الجند تم اجتماعهم في موكب عظيم يجمع أوله على آخره حتى لا يتفرقوا وتشيع بينهم الفوضى، فقد أطلق عليه اصطلاح الجنود إشارة إلى الحشد والتنظيم.

وإذا كان هذا التخطيط يمثل خطوة جزئية في التخطيط الشامل الذي هو تبليغ الرسالة والدعوة لعبادة الله وحده، فقد كان جميع عناصر جنده على علم بالخطة الشاملة وسعى الجميع لتحقيقها، ورفض كل ما يتعارض معها.

ومن الخطط الجزئية التي استخدمها سليمان، إرسال كتابه إلى الملكة بعد أن أخبره الهدهد بأنها وقومها ﴿يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.

ومن التخطيط الجزئي، خطة الإتيان بعرش الملكة قبل حضورها. ويبدو أن هدف سليمان من ذلك هو عرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله والاستجابة لدعوته.

وقد تلخصت تلك الخطة في قول سليمان لمستشاريه والملأ من علية العناصر في دولته: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 38] وفي قوله ﴿أَيُّكُمْ﴾ دليل على مراعاة الفروق الفردية؛ حيث تبدو قيمة تقسيم العمل على حسب قدرات المرؤوسين لضمان نجاحه، وعند ذلك وجد القائد الرد من أحدهم ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ [النمل: 39].

وكأنه قد بدا من سليمان ما يدل على أنه يريد فترة زمنية أقل في الإتيان بالعرش، فكانت الاستجابة من عنصر أعلى قدرة. فسرعة الإنجاز دليل على الكفاءة الأعلى، لكن من الذي يملك القدرة الأعلى؟

إنه الذي يملك العلم: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: 40].

ومع تلك اللفتة الإيمانية في تلك الخطة خاصة لدى هذا العنصر المتميز من المرؤوسين؛ يوجد جانب آخر مهم لنجاح التخطيط؛ وهو ما يعرف حديثاً بحسن توزيع المهام. لقد أحسن سليمان (عليه السلام) توزيع المهام حين عرض الأمر أولاً دون تحديد، حتى يسند المهمة إلى أعلاهم قدرة وأسرعهم على الإنجاز، كما أحسن حين أتاح الفرصة لمن لديه قدرة أعلى من الذي يأتي بالعرش قبل قيام الملك في المجلس، وأحسن توزيع المهام كذلك حين حدد المدة المطلوبة لإنجاز المهمة: ﴿قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾.

ومن التخطيط الذي اعتمد عليه سليمان -أيضاً- تخطيطه بأن ينكِّر عرشها: ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: 41].

ومهما كان التخطيط جيداً، فإنه يظل كلاماً نظرياً مالم ينفذ ويطبق. وكذلك، فإن التنفيذ، إذا لم يكن في التوقيت المناسب ربما فقد أهميته، ومن هنا كانت سرعة التنفيذ عملية مهمة من العمليات الإدارية، وقد بدت سرعة التنفيذ في كثير من المواقف في إدارة سليمان (عليه السلام)، فحين أمر سليمان الهدهد بأن يذهب ويلقي إليهم الكتاب ويعود بالجواب سريعاً، كل هذا تمّ تنفيذه بسرعة: ﴿إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾.

ومن سرعة التنفيذ أنه بمجرد انتهاء سليمان من وضع خطة إحضار عرشها ثم الإحضار بسرعة. ومن سرعة التنفيذ أن غيروا لها بعض معالم عرشها على وجه السرعة.

وعلى الجانب الآخر، اتّسمت إدارة الملكة كذلك بسرعة التنفيذ حين وصلت هديتها إلى سليمان وتابع سليمان (عليه السلام) الأحداث حتى حقق هدفه الكبير الذي سعى إلى بلوغه، وهو نشر دين الله ودخول الملكة وقومها في الإسلام، فقد نجح سليمان (عليه السلام) في تحقيق الهدف واستشار للوصول إليه، وخطط له ونفذه وتابعه؛ إنه الهدف الأسمى: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾.

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 423-431.

- القيم التربوية في قصة نبي الله سليمان، سمر محمد، ص 115-129.

- القصص القرآني، د. سليمان الدقور، ص 177.

- لمحات تربوية إدارية، د.فوقية محمد ياقوت، ص 8-11.

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022