مقومات الحكم الرشيد في دولة سليمان (عليه السلام): المقومات التشريعية والسياسية ....
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (93)
معلوم أن المقومات الإدارية والاقتصادية للحكم الرشيد لا يمكن تحقيقها إلا من خلال نظام سياسي يقوم على مبادئ الشفافية، والعدالة وتطبيق النظام والقانون والمشاركة الحقيقية في اختبار حكامه وفق رؤية استراتيجية تراعي الأعراف الدبلوماسية في العلاقات بين الدول وسنوضح ذلك على النحو الآتي:
أ- الشفافية وسيادة الحقوق والقانون (العدالة):
تعتبر الشفافية وسيادة الحقوق والقانون من أهم مبادئ ومقوّمات الحكم الرشيد، ولا يكون ذلك إلا من خلال تطبيق قيم العدالة. وحضارات الأمم تقاس بنظامها القضائي؛ لأن العلاقة بين عدالة القضاء وتحقيق التنمية شرط لتطور المجتمعات، ولا يكون ذلك إلا بتطور الأمن والاستقرار.
وقد سجل القرآن الكريم ملازمة سليمان لوالده نبي الله داوود (عليهما السلام) في مجلس القضاء والحكم، فقامت بينهما علاقة متميزة ساهمت في بناء الشخصية القوية من خلال إشراكه في إبداء رأيه وتدريبه على فصل النزاعات، وإكسابه القدرة على اتخاذ القرارات. لقد عاش سليمان في بيت الحكم واطّلع على المشاكل السياسية والاقتصادية، والعسكرية والاجتماعية، وملفات القضاء، وتَعلَّم من والده كيفية التعامل معها، وقد شجَّعه والدُه على إبداء رأيه والمشاركة معه في الوصول إلى الحكم الصحيح في القضايا. وقد حفظ القرآن الكريم لنا استدراك سليمان على أبيه في قضية الغنم والحرث، بإرشاد من الله تعالى إلى فهم حقيقة الخلاف المعروض عليه.
وقد بيّنتُ تفسير الآيات في تلك القضية بالتفصيل، وكانت صفات سليمان بعد اختبار الله له للنبوة والملك مساهمة في وصوله لسدّة الحكم بعد وفاة داوود (عليه السلام)، فقد استحق أن يرث أبيه عليهما السلام في الملك والنبوة؛ قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: 16].
ولهذا عقب الله بقوله: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: 79]؛ فقدم الحكم، مع أن العلم لا بدّ من سبقه للحكم، ولكن لما كان السياق في الحكم قدمه.
ومن هاتين الآيتين اللتين تحدثتا عن النزاع بين صاحب الغنم وصاحب الحرث، استدل الإمام مالك على فضل علم القضاء فقال: فأثنى الله سبحانه وتعالى على داوود واجتهاده في الحكم، وأثنى على سليمان باجتهاده وفهّمه وجه الصواب.
ب- المشاركة في اتخاذ القرار وحرية التعبير:
من مبادئ ومقومات الحكم الرشيد ضرورة إشراك المواطن في وضع القرارات واتخاذها. وقد جسد سليمان (عليه السلام) هذه المشاركة عندما استشار بطانته الصالحة المؤمنة القوية من ذوي الخيرات والكفاءات العالية في نقل عرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام، كما سجّل القرآن الكريم، ضمن قصة سليمان (عليه السلام)، أن ملكة سبأ كانت تحكم شعبها وفق تجربة سياسية تحترم إرادة مواطنيها، بالرغم من عظمة ملكها ووفرة مالها وكثرة سلاحها، فقد كان حكمها يقوم على مشاركة الملأ ووجوه القوم وزعمائهم في الحكم والقيادة، تعرض عليهم القضايا، وتستشيرهم في المشكلات وتحرص على سماع آرائهم، وتعتمد المناسب منها، وهو أشبه بنظام الحكم الديمقراطي في العصر الحاضر.
ويتضح ذلك من خلال ما دار بين ملكة سبأ وأشراف قومها، فقد طلبت منهم إبداء رأيهم لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضاءهم على الطاعة لها، ثم عبرت عن المشورة بالفتوى، ورفعاً لمحلهم بالإشعار بأنهم قادرون على حل المشكلات الملمة. ثم زادت في التأدب واستجلاب خواطرهم ليشيروا عليها بالصواب، ولئلا يخالفوها في الرأي والتدبير، وهذا الأمر ليس عارضاً في منهج حكمها وسياستها، بل كان دأبها وعادتها معهم، فهي عاقلة حكيمة مستشيرة لا تخاطر بالاستبداد على مصالح قومها، ولا تعرّض ملكها لمهاوي أخطاء المستبدين، فأبدت لهم رأيها مفضّلة جانب السلم على الحرب.
وأما حريّة التعبير -باعتبارها ركيزة أساسية في منظومة الحكم الرشيد- فتتجلى في إتاحة سليمان (عليه السلام) الفرصة للهدهد أن يقدّم العذر والدليل المقنع الواضح البين على براءته، وإشعاره بأنه يعيش في أمة يحكمها العدل والحرية والأمان، فهو يقبل العذر المشروع والمقنع. ولم يتسرع في تصديقه أو تكذيبه وعمل على التأكد من المعلومات الجديدة، وهذا شأن القائم بالحكم الرشيد الذي لم يتعجل في إصدار الأحكام إلا بعد استقصاء المعلومات حول القضية المنظورة.
كما أن النملة -التي تعتبر مخلوقاً ضعيفاً بجانب ذلك الحشر المهيب لجنود سليمان- تُعبر عن تخوّفها وتوجّه أمة النمل وتأمرهم بدخول حجورهم ومساكنهم حتى لا تحطمهم أقدام سليمان وجنوده، ثم تعتذر لهذا الجيش الذي على رأسه نبي كريم، فتقول (وهم لا يشعرون) ولذا تبسّم سليمان (عليه السلام) ضاحكاً من قولها، فقد شهدت له ولجيشه، وهذا يدلّ على عظيم حرصهم على إقامة العدل والبعد عن الظلم.
جـ- الرؤية الاستراتيجية السياسية، ومراعاة الأعراف الدبلوماسية:
إنّ الدول الناجحة لا تدار السياسة فيها بعشوائية، وإنما تتخذ قراراتها وفق رؤية إستراتيجية واضحة، وهذا ما أدركه سليمان (عليه السلام) في ضرورة أن يمتلك قوة عسكرية تدافع عن سيادة البلد من العدوان الخارجي، وتُسهم في حفظ الأمن والاستقرار الداخلي، وتمكن من تطبيق القوانين القائمة على روح العدل البعيدة عن الجور والظلم والتي تعد من أتمّ عوامل تحقيق التنمية الشاملة، فقد اهتمّ سليمان (عليه السلام) بالجانب العسكري، ومن ذلك اهتمامه بالحرب النفسية باعتبارها ركناً من أركان السياسة الحربية الجهادية، بالتلويح باستخدام القوة العظيمة التي لا يستطيع أحد الوقوف أمامها، واستعرض مظاهر القوّة الخارقة التي ساهمت في بيان قوته العسكرية والحضارية التي لا مثيل لها في ذلك العصر.
كما تتضح الرؤية الاستراتيجية كذلك في نظرة ملكة سبأ وتفضيلها السلم على الحرب للمحافظة على ما حققته من منجزات لشعبها، وقد نقلت هذا الأثر إلى نفوس الملأ من قومها وهي تصف الكتاب بأنه (كريم). فواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، وإنما تمهد له بذلك الوصف، ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة، وهنا تظهر شخيصة المرأة العاقلة التي تكره الحروب والتدمير وتعرف نتائجها؛ ولذا أشارت عليهم بأن نسلك مع هذا الملك مسلكاً سليماً بإرسال هدية فخمة إليه، تترضّاه وتختبره.
وقد اهتمّ سليمان بالعلاقات الدبلوماسية لإيصال دعوة التوحيد وتوطيد مملكته ونجح في ذلك نجاحاً عظيماً، فقد كان (عليه السلام) حصيفاً في معاملته للملوك ومراعياً للأعراف الدبلوماسية كما رأينا في تواصله مع مملكة سبأ.
وكانت سياسته الداخلية قائمة على العدل ورفع الظلم، ومساعدة المحتاجين والفقراء والارتقاء بالشعب والدولة في القيم الروحية والمادية والالتزام بشرع الله عز وجل.
وأمّا علاقته الخارجية، فالأصل فيها السلم ودعوة الناس للخير مع الاستعداد لأي تجاوز قد تقوم به أي دولة في ذلك العصر.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 444-450.
- مقومات الحكم الرشيد، سعيد محمد عبد السلام ناجي، ص 327.
- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، ابن فرحون المالكي، دار مكتبة الكليات الأزهرية، ط1، 1986م، ص3.
- النُّكت والعيون (تفسير الماوردي) لأبي الحسن علي بن حبيب الماورديِّ، تحقيق خضر محمَّد خضر - نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة، والتُّراث الإسلاميِّ – بالكويت، (3/457).
- قيم حضارية في القرآن الكريم، توفيق سبع، مكتبة القاهرة، 1972م، ص (3/197).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: