الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

مقومات الحكم الرشيد في دولة سليمان (عليه السلام): المقومات الإدارية والاقتصادية

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)

بقلم: د. علي محمد الصلابي ...

الحلقة (92)

 

من المقومات الأساسية للحكم الرشيد الاهتمام بالأمور التنظيمية والإصلاحات الإدارية والمالية في المجتمع. والمتأمل لقضية سليمان (عليه السلام) يجد أنه قدّم درساً في القيادة الحكيمة وفق رؤية إدارية واقتصادية رشيدة؛ فحقق التنمية الشاملة في دولته. ويتضح ذلك من الآتي:

أ- نظام الموارد البشرية:

مراعاة التخصص، واختيار الأكفاء، والاهتمام بالتدريب، من مقومات الحكم الرشيد. وتوخي الدّقة في إدارة السلطة من خلال نظام للعمل يتم بموجبه توزيع المهام بين العاملين، وهذا ما سار عليه سليمان (عليه السلام) مع أفراد مملكته؛ فكان في مملكته وزراء ونقباء وقادة؛ قسَّمهم على مؤسسات الدولة على حسب الاختصاص، والاستعدادات الفكرية، والطاقات الوهبية والمكتسبة؛ فمثلاً: جنوده من الجن والإنس والطير يقودهم الوازعون، وهذا الحشد الكبير مكوَّن من فِرق متناسقة ، ورغم اختلاف أجناسهم إلا أنهم يسيرون بنظام دقيق محكم؛ ولذلك وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ يجمع آخره على أوله، وتضم صفوفه، وتتلاءم خطاه. (والوازع: الحابس، والنقيب).

كما كان يختار الأكفاء بتنفيذ المهام؛ فقد اختار الهدهد لإيصال الكتاب إلى ملكة سبأ؛ لما رأى فيه من مخايل الفهم والعلم، فقد أعطى الهدهد قوة بفهم ما يسمعه من كلام ملكة وأشراف سبأ، وقدّم لسليمان تقريراً متكاملاً شاملاً حصلت المعرفة لسليمان (عليه السلام) بأحوال مملكة سبأ، فأبرز الحالة الاجتماعية والاقتصادية، والقوة السياسية، ووصف الجغرافيا، والمسافة، وكشف عن الحياة الدينية.

ومُلك سليمان ممتد؛ له مقومات الدولة ومقدراتها المادية. اهتم فيها بعنصر التدريب لزيادة كفاءة مكونات جيشه، فكان يحرص على إعداد الخيل ولياقاتها البدنية، ويراقب تمارينها على الجري والعدو لتكون جاهزة للجهاد، باعتبارها من أسلحة الحرب المعروفة للجهاد، وكان في نهاية التدريبات يلاعبها ويمسح على سيقانها وأعناقها ويمرر أصابعه عليها برقة تكريماً لها، وإظهاراً لاهتمامه بها، ومحبته لها، فتزداد وفاءً له وتعلقاً به، كما تزداد إقداماً في الجهاد.

ب- الإصلاح المالي والإداري:

يحتاج إلى يقظة مستمرة ومتابعة مباشرة ومكافحة الفساد، ولقد كان سليمان (عليه السلام) يمثل الحاكم اليقظ في إدارة مملكته مع من سخرهم الله له، فعاملهم وفق قواعد الضبط الإداري، وتفقد أحوالهم وانضباطهم، وباشر بنفسه متابعة تنفيذ ما أوكل إليهم مع الاستفادة من أعوانه وجهاز المراقبة التابع له والتقارير المرفوعة إليه، فكان يتأكد قبل إصدار تعليماته، ولا يتساهل مع المخالفين والمفسدين منهم.

فقد سار بقوانين عادلة لضبط الأمور، بحيث يعاقب المسيء ويحسن للمحسن قال تعالى: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: 21].

كما أنه لم يسمح بالفساد في نظام حكمه ومثَّل قدوة في الثبات أمام المغريات الدنيوية، ورفض بشدة الرشوة، واحتقر المال الفاسد.

جـ- وضوح الرؤية في السياسة الاقتصادية:

من أهم مبادئ الحكم الرشيد الاستخدام الأمثل الفعال للموارد والمصادر الاقتصادية، وهذا ينعكس على فاعلية المجتمع ومشاركته في إحداث تنمية شاملة وحقيقية، والمتأمل لقصة سليمان (عليه السلام) يجد أن الله تعالى قد أعطاه ملكاً عظيماً لم يعطه أحد من بعده، وكانت حضارته امتدادا لحضارة أبيه داوود (عليه السلام) القائمة على التسخير الإلهي، واتسمت سياسته بوضوح الرؤية من خلال اهتمامه بأسباب التقدم والعناصر المكونة لتلك العملية، وهي تسخير الإمكانات المتاحة المتمثلة بالمواد الخام، ووسائل النقل، وكذلك بتوظيف الأيادي العاملة الماهرة.

- فأما المواد الخام: فقد أجرى الله لسليمان (عليه السلام) ﴿عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ وغيرها من المواد.

- وأما وسائل النقل: فقد سخر له الريح كوسيلة من وسائل المواصلات غير العادية.

- وأما توظيف الأيادي العاملة الماهرة: فقد سخر الله له طائفة من الشياطين والجن، يستخدمهم في الغوص في أعماق البحار، لاستخراج كنوزها وخيراتها من الجواهر النفيسة والمرجان وفي البناء وتشييد القصور والبيوت. كما شهد عصره نشاطاً تجارياً وتبادلاً للسلع بين مملكته ومملكة صور وفق عهد بينهما يقضي باستيراد الخشب من لبنان مقابل تصدير الحنطة والزيت. وكان يجعل بعض العربات الحربية -عندما لا تكون في خدمة الدفاع عن الدولة- في خدمة التجارة. ولتسهيل حركة التجارة قام بتعبيد الطرقات وتزويدها بمحطات لخدمة القوافل التجارية على الطرق التجارية في سوريا وفلسطين، وفرض رسوماً على تلك القوافل التجارية الآتية من الجزيرة العربية المحملة بالتوابل نظير تلك الخدمات.

وقد سجل القرآن الكريم اهتمامه بالصناعة والعمران قال تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13].

فكانت الجن تعمل لسليمان (عليه السلام) ما يخطر على باله من المباني والإنشاءات العبادية من محاريب وتماثيل، فيخرجون تلك المحاريب والتماثيل في أبدع صورة بما يزينونها من زخرفة لواجهاتها بالنحت والتصوير. وقدمت المحاريب على التماثيل؛ لأن الصور توضع في المحاريب أو تنقش على جدران تلك المعابد والقصور. كما يأمرهم بإقامة أضخم المشروعات الدنيوية، تلك التي كان البشر يعجزون عن صناعته من لوازم الصناعات المعدنية: ﴿وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾؛ فيصنعون له القِصاع الضخمة كحياض الإبل، يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها. وأما القدور فهي منحوتة من الجبال الصم ثابتات لضخامتها، وكانت أفراناً لصهر الحديد والنحاس، وهي المرحلة السابقة على صب الحديد والنحاس في الجفان، وكانت تتطلب أن تكون في غاية الصلابة والسماكة لتتحمل شدة حرارة الصهر المرتفعة. وذكر بعض المفسرين عند تفسيرهم لقول الله تعالى: ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الأنبياء: 82]؛ أنّ هؤلاء الشياطين يقومون بمهام صناعية أخرى بالإضافة إلى ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة، كصناعات الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون. كما اهتم سليمان (عليه السلام) بتطوير الآلات العسكرية، إذ أدخل سلاح العربات الحربية إلى جيشه، وجعل منها قوة مهمة، وخصص لها ثكنات عسكرية.

أما التنمية العمرانية في مملكة سليمان (عليه السلام) فقد كانت على درجة عالية من عظمة البناء وبديع الزخرف التي اختصت بها قصوره في ذلك الزمان، ومن تلك القصور الملكية ذلك الصرح الذي أُدخلت فيه ملكة سبأ، فقد شُيّد كله من بلور زجاجي مختلف الألوان على عين ماء أو بركة من ماء، مما دفع ملكة سبأ أن ترفع ثوبها وتكشف عن ساقيها ظناً منها أنه مجرى ماء. وبهذه الرؤية الواضحة حقق سليمان (عليه السلام)، تنمية شاملة بلغت مبلغاً من الاتقان والجودة والجلال.

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 438-444.

- مقومات الحكم الرشيد، سعيد محمد عبد السلام ناجي، ص 316-322.

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689

#عشر_ذي_الحجة


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022