الحكم الرشيد في عهد سليمان (عليه السلام)
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (94)
بسبب التوفيق الرباني، والمنهج الرشيد الذي سار عليه سليمان (عليه السلام)، ظهرت في عهده ثمرات نهضوية، وتفوّق حضاري في مجالات إنسانية كثيرة، ومن أهمها:
1- النهضة العلمية:
وهي كالأساس بالنسبة لكل ما ترى من أنواع النهضة؛ يقول سليمان (عليه السلام) واصفاً نفسه وجنده ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)﴾ [النمل: 42].
وانظر إلى التفوق العلمي: فقد كان متقدماً، أشارت إليه هذه الآية الكريمة: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ﴾ [النمل: 40]. فكم من قدرات وطاقات هائلة وصل إليها ذلك المشروع بنهضته العلمية.
2- النهضة الإعلامية:
لا أحد يغفل قيمة الإعلام ودوره في أي نهضة، ومن أهم وسائلها الإعلام، وقد جاءت الإشارة في قوله تعالى: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل: 28]، إلى أهمية استثمار العمل الإعلامي والتواصل الإعلامي، فقد حقق نجاحات باهرة وأهداف خالدة.
3- النهضة العمرانية:
وهذا من قوله تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]، وقوله سبحانه: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ [ص: 37]؛ وهي عنوان تقدّم أيّ حضارة ونجاحها.
4- نهضة المواصلات والاتصالات:
تظهر في سرعة نقل المعلومات كما في قصة الهدهد، وفي سرعة نقل الأشياء كما في قصة نقل عرش ملكة سبأ، وفي استخدام الريح كذلك في التنقل والنقل، وكل ذلك يدل على تطوّر ونهضة في مجالي التواصل؛ والاتصالات والمواصلات، وهو فن هذا العصر.
5- النهضة العسكرية:
هي واضحة بيّنة لا تحتاج دليلاً، ولا توضيحا، ويكفي فيها وصف سليمان لجنده وثقته بقوته العسكرية: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [النمل: 37]. وكذلك تظهر في إعداده وتجهيزه لجيشه واستعراضه له واعتنائه بخيله: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ﴾ [ص: 31].
6- النهضة الصناعية:
تبدو النهضة الصناعية واضحة من كثرة صناعات جند سليمان (عليه السلام) يقوله سبحانه: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ: 13].
هذه أنواع وأشكال أشرتُ إليها، وشرحتها عند حديثي عن الآيات في سورة سبأ، وهي تَنِمّ عن نهضة صناعية حقيقة متطورة وراسخة: فبناء المحاريب (أماكن العبادة) التي تمثّل الهندسة المعمارية، وإقامة التماثيل التي تشكل الصناعات الزخرفية، وصناعة الجفان (آنية الطبخ) التي مثلت صناعة أدوات المعيشة، وصناعة القدور الراسيات التي تشير إلى الصناعات المعدنية الثقيلة، واستخدامه للنحاس في الصناعة: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ [سبأ: 12]، وكل ذلك يدل على مقدار التطور الصناعي، والنهضة الصناعية في مشروع سليمان (عليه السلام).
7- النهضة البحرية:
وذلك باستثمارهم للبحر، وغوصهم فيها، واستخراجهم من كنوزه، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ﴾ [الأنبياء: 82] ويقول أيضاً سبحانه: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ [ص: 37].
8- النهضة التجارية:
فكانت ممتدة في البحار بالأساطيل البحرية، وكذلك مع بلاد الشام والعراق ومصر واليمن والعالم القديم، الذي وصلت إليها تجارة دولة سليمان (عليه السلام)، فقد كان مشروع النهضة الحضاري الذي قاده سليمان من خلال مملكته قائماً على:
- توحيد الله عز وجل: وهو المنهج الذي صحب البشرية منذ نشأتها، وعليه قامت الحياة وعمرتْ الأرض، ومن أجله خلق الله الجن والإنس: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وكانت محاربة الشرك والكفر، والتصدي لأفكاره بالعقل والمنطق وخطاب الأنبياء والمرسلين، وتوظيف موكب الرسالات والنبوات في ذلك.
- اعتبر سليمان (عليه السلام) العبودية لله تعالى أساس القيم كلها، فهي قيمة كليّة شاملة مهيمنة على القيم الأخرى، بل على الوجود الإنساني كله؛ وذلك لأنها تبدأ بالإيمان رباً وإلهاً مشرّعاً.
- نجح سليمان (عليه السلام) في تحقيق العبودية لله وعمارة الأرض والعمل بمقومات الاستخلاف فيها، واستعمل سنة الله في عمارتها مستخدماً العقل، والفطرة، والحواس، والمنهج الرباني. وحقق مفهوم الاستخلاف في الأرض.
- قاد حضارة ربانية تحترم وتسعى إلى تحصيل العلوم والمعارف. ونظر إلى العلم باعتباره يشمل جميع المعارف الإنسانية سواء كان مصدرها العقل، واكتشاف قوانين الكون والتعرف على المعادن وخواصها؛ أو الحس والتجربة، أو كانت بتعليم الوحي والشرع الإلهي. فعمل على تنفيذ أحكام الله بين الناس وفي مملكته المتعددة الأجناس والمخلوقات، وتعامل بنجاح مع سنن الله، مثل سنة الأخذ بالأسباب، والابتلاء والتمكين والتدافع.. إلخ.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 450-454.
- القصص القرآني أهدافه وخصائصه ومنهج الكتابة فيه، سليمان الدقور، عَمان، دار النّفائس، 2018/ ص 193-194.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: