الحكم الفارسي لبني إسرائيل
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (106)
أغارت إمبراطورية الفرس على مملكة بابل وأسقطتها في سنة (539 ق.م) وسمح (قورُش) إمبراطور الفرس لبني إسرائيل بالعودة إلى مدينتهم، وقد كان اليهود بعد مضي عشرات السنين على إقامتهم في بابل قد تكاثروا وازدادوا أضعاف عددهم، فلم يعد منهم إلى فلسطين إلا العدد القليل، وكانوا بحدود اثنين وأربعين ألفاً، أما الغالبية العظمى فلم تهاجر، لأنّ بابل وقتها كانت عاصمة الثروة الرفاهية الاقتصادية، وكانت مكاناً للحضارة والترف؛ ولذلك آثر اليهود البقاء فيها لرعاية مصالحهم وثرواتهم،
وهنا تجدر بنا وقفة لملاحظة هذه الظاهرة المثيرة للانتباه في شأن اليهود، فهم يدّعون أنّهم شعب الله المختار، ويزعمون أنّ أرض الله المباركة (فلسطين) أرضهم، ولكنهم عندما تتاح لهم الفرصة بالعودة إليها فهم لا يعودون، وفي وقتنا الحالي ورغم كل الذي يصنعه الكيان الصهيوني من تهيئة السبل، وبناء المستوطنات، وكل ما يقدم من مغريات وتسهيلات لليهود اليوم، فإنهم لا يعيشون في فلسطين؛ فهناك أعداد ضخمة منهم يعيشون في أمريكا، وآخرون كثر أيضاً في روسيا، وأعدادهم تفوق أعداد اليهود في فلسطين. رجع بعض اليهود المحافظين الذين كانت تشدهم إلى القدس أيام عهدهم القديم زمن سليمان (عليه السلام)، وعمل هؤلاء فوراً على مسألة مهمة بالنسبة لهم؛ وهي بناء الهيكل (المزعوم) الذي دمره (نبوخذ نصر) فبنوا المعبد مرة أخرى كما يدّعون، ويسمى هذا المعبد الثاني وهو مشهور في التاريخ وموجود في الكتب المقدسة عندهم، وكذلك هو مدوّن في التاريخ الغربي.
وفي ظلّ تسامح الفرس مع اليهود سمحوا لهم ببناء الهيكل مرة أخرى، فجعلوا بناء المعبد بناءً كبيراً ووسّعوه توسعة عظيمة، وأرجعوا قدس الأقداس (المحراب)، وأعادوا المقدّسات التي استطاعوا أن يحافظوا عليها مرة أخرى.
وعاش اليهود جماعة دينية لا أمة لها مُلكاً ونظاماً، لقد انتهى الملوك في أسباط بني إسرائيل، واستمروا في أورشليم وما حولها، يعيشون في ظل الأمم القوية من البابليين إلى الفرس إلى اليونان إلى الرومان.
وبعد عودة القوم إلى أورشليم غلب عليهم الاسم الجديد (اليهود) لأنّ العائدين كانوا من ذرية يهوذا السبط الذي ملك في أورشليم، فصار الناس يدعونهم بهذا الاسم.
إن كلمة يهود و(يهودية) في الإشارة إلى ديانة معيّنة لم تظهر إلى الوجود إلا بعد الاحتلال الفارسي لبابل، وحتى الأسفار التوراتية الأولى لم تتضمن هذه الكلمة، وفي هذا الصدد يقول المرحوم عبد الحميد همو: إن الأسفار خلت من ذكر اليهودية حتى إذا خلت الدولة الفارسية الأخمينية نلاحظ أنه في عهدها صار ذكر اليهودية في سفري عزرا ونحميا، وفي سفر أستير، وفيما عدا ذلك فلا ذكر لليهودية في أسفار التوراة الخمسة، ولا في أسفار: أشعيا ولا إرميا ومراثي إرميا وباروخ وحزقيال، وهوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا، ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصيفنيا وحجي؛ وزكريا وملاخي ودانيال، مع العلم بأن السفر الأخير كتب في القرن الثاني قبل الميلاد.
وجمع لهم (عزرا) من محفوظاته أسفاراً خمسة أطلقوا عليها اسم (التوراة)، أو (توراة موسى) وفّت به اليهود على الرغم مما أدخله على الكتب من تحريفات، وأضاف إليها من إضافات، وما أضاع منها من نصوص ذات أهمية، وقالوا عنه: إنه الله. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
لقد أعرض اليهود بعد العودة من السبي عن عبادة الأوثان، واعتقدوا بالله وحده، لكن اعتقادهم بالله كان ولا يزال تشوبه الشوائب، فصفات الله عز وجل – الذي ليس كمثله شيء- هي عندهم أقرب ما تكون إلى صفات البشر، و(التوراة) التي وضعها لهم (عزرا)، والتي ما تزال بين أيديهم قد أجرت على الله ما يجري على الإنسان من أعضاء ظاهرة وباطنة وانفعالات نفسية، وجعلته يتصل باليهود مباشرة، فرأوه وسمعوا كلامه وسار أمامهم، ونصوص التوراة المحرفة تسيء الأدب مع الله، ولا تقدره حق قدره.
لقد احتوت التوراة التي كتبها بعض اليهود بعد عهد النبي موسى، وعهد يوشع بن نون، وطالوت، وداوود، وسليمان (عليهم السلام) على الكثير من المفاهيم الخاطئة، التي شاعت بمرور الزمن إلى أن نزل القرآن الكريم؛ فنبهنا إليها بدون لبس وغموض.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 496-499.
- فلسطين التاريخ المصور، ص 52.
- كلام في اليهود، محمد علي دولة، ص 55-56-56..
- بنو إسرائيل منذ وفاة سليمان، عبد الرحمن الخطيب، ص 155.
- ما بين موسى وعزرا، ص185 - 186.
- دراسات في التوراة، عطية الشوادفي، ص97.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: