السبت

1446-07-11

|

2025-1-11

التوراة ما بين وفاة سليمان (عليه السلام) وما قبل السبي البابلي

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (108)

 

ويجدر بالذكر أنّ أسفار اليهود المقدّسة لا تذكر شيئاً عن التوراة في عهد سليمان إلى ما يقرب من ثلاثة قرون ونصف القرن، وذلك بعد أن تولّى الملك في مملكة يهوذا الجنوبية الملك يوشيا، الذي يصفونه بالصلاح والاستقامة والتوجه إلى إقامة الشريعة. فيزعمون أنّ زعيم الكهنة في عهده -وهو- يدعى: حلقيا، وجد شريعة الرب في الهيكل (المزعوم) وذلك متى؟ في السنة الثامنة عشر من ملك الملك يوشيا، وفي أي مناسبة؟ حين أرسل إليه الملك يطالبه بحساب جميع الفضة المدخلة إلى هذا الهيكل. وهنا لدينا وقفات عدة منها:

- أنه طوال مدة مائتين وثلاث وتسعين عاماً لم توجد أدنى معلومة عن التوراة، ولم يسأل أحد من الشعب عنها، ثم بعد عمليات عديدة من الهدم والنهب والغزو يكتشف الكاهن حلقيا سفر الشريعة بالصدفة في الهيكل.

- أن هذا الهيكل الذي كان قد تعرّض للنهب والعدوان أكثر من مرة، ولم يكن طوال هذه المدة مغلقاً، فضلاً عن أنّ هذه الكهنة والسدنة يدخلون كل يوم، وليس فيه جانب أو حجرة يُصّور أن يكون قد وقعت عليها يد هؤلاء السدنة أو الكهنة.

- ثم لماذا بقي يوشيا في الملك سبع عشرة سنة لم يرسل فيها إلى حلقيا، ولم تكن عين حلقيا قد وقعت على سفر الشريعة طوال هذه المدة قبل إرسال الملك إليه للمحاسبة.

- ثم أيّ نسخة من التوراة عثر عليها حلقيا؟ حيث إنه لم يذكر بالتحديد في سفر الملوك الثاني. وأمّا النص في سفر أخبار الأيام الثاني، قد أضاف أن السفر المعثور عليه هو: سفر شريعة الرب الذي كان بيد موسى.

- وعلى هذا يرد سؤال آخر: ما الذي جعل حلقيا يوقن بأن ما وجده -لو فرضنا صحة دعواه- هو سفر شريعة الرب الذي كان بيد موسى (عليه السلام)؟

- خاصة وأن سفر أخبار الأيام الثاني نفسه يذكر أن الآباء –وطبعاً بما فيهم آباء حلقيا أيضاً- لم يعرفوا ولم يحفظوا كلام الرب.

يقول الشيخ رحمت الله الهندي (رحمه الله): فالعجب كل العجب أن تكون النسخة في البيت ولا يراها أحد، فهذه النسخة توجه السلطان والأراكين، إلى أتباع الملة الموسوية، جمعها من الروايات اللسانية. ومثل هذا الافتراء والكذب والترويج للملة وإشاعة الحق، كان من المستحبات الدينية عند متأخري اليهود وقدماء المسيحيين.

حتى عند المعاصرين منهم، ومن عايش القوم عرف صدق ما أقول، والله المستعان. إذن، خلاصة الكلام، أنّ حادث اكتشاف حلقيا لسفر الشريعة، لا يخرج عن كونه مسرحية مدبرة فيما بين الملك يوشيا وكاتبه: شافان، وكبير كهنته حلقيا، أو أكذوبة من تلقاء حلقيا وحده في إقناع الملك بها منتهزاً فرصة رغبة الملك في التديّن واستقامة الشعب. والله أعلم.

ولكن تنازلاً للقوم، أو من باب التسليم الجدلي، أقول: على فرض ثبوت اكتشاف التوراة في عهد الملك يوشيا، فإنها بإجماع المؤرخين قد فقدت بعد ذلك بأقل من ربع قرن؛ وذلك حين هجم "نبوخذ نصر" على دولة يهوذا ودمرها ودمر الهيكل المزعوم والمنسوب إلى سليمان (عليه السلام)، والذي سنتحدث عنه بالتفصيل بإذن الله تعالى، فقد دمره، ودمر كل ما فيه. وإليكم ما يقوله كتابهم في هذا: فأصعد عليهم ملك الكلدانيين فقتل مختاريهم بالسيف في بيت مقدسهم، ولم يشفق على فتى أو عذراء ولا على شيخ أو أشيب، بل دفع الجميع ليده، وجميع آنية بيت الله الكبيرة والصغيرة وخزائن بيت الرب وخزائن الملك، وأحرقوا بيت الله، وهدموا سور أورشليم، وأحرقوا جميع قصورها بالنار، وأهلكوا جميع آنيتها الثمينة وسبى الذين بقوا من السيف إلى بابل، فكانوا له ولبنيه عبيداً إلى أن ملكت مملكة فارس.

ومن المؤكد، أنّ اليهود إبّان مرحلة السبي هذه لم يكونوا يتداولون فيها بينهم ولو خفية شيئاً من التوراة أو سفر الشريعة، ولم يشر أنبياء هذه الفترة إلى شيء من ذلك، وقد فاضت أسفار العهد القديم بذكرهم وذكر أخبارهم.

فكان سفر الشريعة، أو التوراة طوال هذه المدة في غيبوبة متواصلة تامة، إلى أن جاء عزرا. يزعم اليهود أنه هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، فكتب لهم سفر الشريعة. وهنا وقفات جديدة لابد منها، وهي:

- كيف وصلت التوراة إلى عزرا وبينه وبين موسى (عليه السلام) أكثر من ثمانية قرون، ولا سيما أن نصوص ما يسمى بالعهد القديم نفسها تفيد أن بني إسرائيل قد أهملوا تعاليم التوراة أو سفر الشريعة منذ وقت لا يبعد بكثير عن وقت نزولها.

- على أحسن الفروض، فإن ما كتبه لهم عزرا -إن صح هذا الخبر- لا يعدو أن يكون معلومات متوارثة عن الأحكام الواجبة على بني إسرائيل جيلاً بعد جيل، إلى أن جاء زمن عزرا هذا فدوّنها، وضمنها بعض الاستنباطات والشروح، كما يشير إلى ذلك سفر عزرا نفسه، حيث يقول: لأنّ عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء.

وعلى هذا، فإن عمله هذا جهد بشري محض، ولا مفر له مما يعتري العمل البشري من قصور وخلل.

-كما أنه لا يستبعد أن يكون مكتوب عزرا هذا مجرد افتراء وكذب ودجل، من تلقاء نفسه لتلبية دواعٍ نفسية خاصة به، أو لترويح الملة كما نقلتُ عن الشيخ رحمت الله آنفاً. وقولي: إن هذا غير مستبعد يستند إلى حقيقتين أولاهما: ما ثبت أنّ اليهود السامريين يتهمون عزرا بأنه الذي قام بتحريف التوراة إبّان الأسر البابلي.

والثانية: أنّ عزرا هذا هو عُزير المذكور في القرآن الكريم في قوله عز وجل: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30].

ولم يأت في القرآن ولا في السنة الصحيحة ما يفيد صلاح الرجل فضلاً عن نبوته، فيترجح عندي -والله أعلم- أنّ اليهود المعاصرين له إنما عظموه ومجدوه حتى قالوا إنه ابن الله لما كتب لهم كتاباً يوافق هواهم وضلالهم الذي كانوا عليه. وهذا ما اختاره بعض من أسلم من اليهود؛ منهم السموأل بن يحيى.

- ثم إنّ نسبة هذا السفر الذي كتبه عزرا -على فرض وجوده- إنْ كان قد نسبه إلى الله عز وجل فكذبه ظاهر، إذ لم يدّع أحد لا من المسلمين، ولا من اليهود أو النصارى أنّ التوراة أنزلت مرتين؛ مرة على موسى ومرة على عزرا، وإن كان الذين كتبوا عنه بعد ذلك هم الذين زعموا أن كتابه هذا هو عين توراة موسى (عليه السلام)، فهم على حد سواء كذَّابون. إن عزرا لم يقل هذا عن نفسه.

-كل ما تقدم بالنسبة للتوراة التي كتبها موسى بيده كما يزعمون، فكيف بالتوراة التي زعموا أن حلقيا قد عثر عليها في الهيكل في عهد عبد يوشيا؟ نجد أن ما كتبه عزرا كذلك يختلف عما قدمه حلقيا للملك في زمانه، وذلك لأن سفر الشريعة الذي وجده حلقيا حسب كلامهم قد جاء بصريح العبارة في كتابهم أنه قرئ من أوله إلى آخره مرتين في اليوم كما يقول سفر الملوك الثانيذ، أو مرة فقط في اليوم، حسب رواية سفر أخبار الأيام الثاني.

بينما قراءة ما جاء به عزرا احتاج إلى أسبوع كامل، كما يذكر سفر نحميا من كتابهم أيضاً، حيث جاء فيه: وكان يقرأ في سفر شريعة الله يوماً فيوماً من اليوم الأول إلى اليوم الأخير وعملوا عيداً سبعة أيام، وفي اليوم الثامن اعتكاف حسب المرسوم.

فلهذا ذهب أحد المؤرخين الغربيين إلى ترجيح وجود كتاب ضخم جداً، كان يحتوي فقط على جزء مهم من أسفار موسى الخمسة.

حتى لو سلمنا جدلاً بوجود هذا السفر المزعوم في عهد عزرا، فلنسأل عما ذا كان مصيره بعد ذلك؟ فهذا سؤال لا يستطيع أيّ يهودي، أو نصراني إيجاد جواب مقنع عنه، ومن المرجح أن يكون قد دمّر في حادثة غزو الملك أنطونيوكس، لأورشليم قبل ميلاد المسيح بنحو مائة وإحدى وستين سنة، وقيل في سنة 198ق.م.

وفي هذا يقول سفر المكابين الأول -أحد الأسفار المتممة للستة والأربعين عند الكاثوليك والأرثوذوكس-: وكانوا يقتِّرون على أبواب البيوت والساحات، وما وجدوه في أسفار الشريعة مزقوه وأحرقوه بالنار. وكل من وجد عنده سفر من العهد أو اتبع الشريعة فإنه مقتول بأمر الملك.

هذا بالإضافة إلى ما نزل بالنصارى وبأسفارهم المقدسة من ألوان العذاب والتنكيل، وأضاف الإبادة والتشريد كما سبق الحديث عنها بالتفصيل في الباب التمهيدي.

فهذا كله يتضح أن لا سند متصل بين ما يسمى اليوم بالبنتاتوك، أو أسفار موسى الخمسة، ونص الوحي الإلهي الذي تلقاه موسى سواء مشافهة أو مكتوباً، وحتى النسخة التي نسخها يشوع (عليه السلام) فيما يزعمون.

وإن كان من غير المستبعد أن يوجد توافق في بعض القصص والأخبار، وحتى الأحكام، بين هذه الأسفار وبين التوراة المنزلة، إذ قد يكون ذلك من بقايا المعلومات المتوارثة جيلاً بعد جيل، فلم يشأ الله أن تُنسى، أو مما لم تصله أيدي التحريف والتبديل. والله تعالى أعلم.

يقول الفيلسوف اليهودي سبينوزا: لما لم يكن لدينا أي سفر يحتوي على عهد موسى وفي نفس الوقت على عهد يشوع، فيجب أن نعترف ضرورة بأن هذا السفر قد فقد... ونستنتج إذاً أن سفر توراة الله هذا الذي كتبه موسى لم يكن من الأسفار الخمسة الحالية، بل كان سفراً مختلفاً كلياً.

 

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 502- 510.

- 158-166-170-177.

- مصادر النصرانية دراسة ونقداً، مصادر النصرانية دراسة ونقداً، (1/340-347).

- الأسفار المقدسة قبل الإسلام، صابر طعمة، ص62 - 66.

- دراسات في الأديان، د. سعود الخلف، ص64.

- وشفاء العليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل، عبد الملك الجويني، ص58 - 60.

- نقد التوراة، أحمد حجازي السقا، ص94.

- قصة الحضارة، ول ديورانت، (2/367).

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022