الثلاثاء

1446-05-10

|

2024-11-12

التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (9)

"رحلة الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلى الطَّائف"

بقلم: د. علي محمد الصَّلابي

 

كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقتدي بالأنبياء والمرسلين الَّذين سبقوه في الدَّعوة إلى الله، فهذا نوح لبث في قومه داعياً ﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت: 14]، فكانت هذه الأعوام الطَّويلة عملاً دائباً، وتنويعاً متكرِّراً: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 1 - 9]، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع امتداد الزَّمن الطَّويل، فما توقف عن الدَّعوة، ولا ضَعُفَتْ همَّته في تبليغها، ولا ضَعُفَتْ بصيرته وحيلته في تنويع أوقاتها وأساليبها.

فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينوِّع ويبتكر في أساليب الدَّعوة، فدعا سرّاً وجهراً، وسلماً وحرباً، وجمعاً وفرداً، وسفراً وحضراً، كما أنَّه صلى الله عليه وسلم قصَّ القصص وضرب الأمثال، واستخدم وسائل الإيضاح بالخطِّ على الأرض وغيره، كما رغَّب وبشَّر، ورهَّب وأنذر، ودعا في كلِّ آنٍ، وعلى كلِّ حالٍ، وبكلِّ أسلوبٍ موثِّرٍ فعَّالٍ (بادحدح، 1996، ص 123)، فها هو صلى الله عليه وسلم ينتقل إلى الطَّائف، ثمَّ يتردَّد على القبائل ثمَّ يهاجر، ويستمرُّ في دعوة الخلق إلى الله تعالى.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى لإيجاد مركزٍ جديدٍ للدَّعوة، وطلبَ النُّصْرة من ثقيفٍ، لكنَّها لم تستجب له، وأغرت به صبيانها، فرشقوه بالحجارة، وفي طريق عودته من الطَّائف التقى بعَدَّاس الَّذي كان نصرانيّاً، فأسلم، وأرَّخ الواقديُّ الرِّحلة في شوَّال سنة عشر من المبعث بعد موت أبي طالب وخديجة، وذكر: أنَّ مدَّة إقامته بالطَّائف، كانت عشرة أيام.

كانت الطَّائف تمثل العمق الاستراتيجيَّ لملأ قريش؛ بل كانت لقريش أطماعٌ في الطَّائف، ولقد حاولت في الماضي أن تضمَّ الطَّائف إليها، ووثبت على وادي وَجٍّ؛ وذلك لما فيه من الشَّجر والزَّرع؛ حتَّى خافتهم ثقيفٌ وحالفتهم، وأدخلت معهم بني دَوْسٍ. وقد كان كثيرٌ من أغنياء مكَّة يملكون الأملاك في الطَّائف، ويقضون فيها فصل الصَّيف، وكانت قبيلة بني هاشمٍ، وعبد شمسٍ على اتِّصال مستمرٍ مع الطَّائف، كما كانت تربط مخزوماً مصالحُ ماليَّةٌ مشتركة بثقيفٍ، فإذا اتَّجه الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلى الطَّائف، فذلك توجُّهٌ مدروسٌ، وإذا استطاع أن يجد له فيها موضع قدمٍ، وعصبةً تناصره، فإنَّ ذلك سيفزع قريشاً ويهدِّد أمنها ومصالحها الاقتصاديَّة تهديداً مباشراً، بل قد يؤدِّي لتطويقها وعزلها عن الخارج. وهذا التَّحرك الدَّعويُّ السِّياسيُّ الاستراتيجيُّ، الَّذي قام به الرَّسول صلى الله عليه وسلم يدلُّ على حرصه في الأخذ بالأسباب، لإيجاد دولةٍ مسلمةٍ أو قوَّةٍ جديدةٍ، تطرح نفسها داخل حلبة الصِّراع؛ لأنَّ الدَّولة أو إيجاد القوَّة من الوسائل المهمَّة في تبليغ دعوة الله إلى النَّاس.

عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، اتجه مباشرة إلى مركز السلطة، وموضع القرار السياسي في الطائف (التجاني، 1995 ، ص 173). قال ابن هشام في السِّيرة: لـمَّا انتهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الطَّائف؛ عَمَدَ إلى نفرٍ من ثقيفٍ، هم يومئذٍ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوةٌ ثلاثةٌ: عبد يا لَيْل بن عمرو ابن عُميرٍ، ومسعود بن عمرو بن عُميرٍ، وحَبيب بن عمرو بن عُمَير بن عُقْدة بن غِيرَة بن عَوْف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأةٌ من قريش من بني جُمح؛ غير أنَّ بني عمرٍو كانوا شديدي الحذر وكثيري التَّخوُّف، فلم يستجيبوا لدعوة الرَّسول صلى الله عليه وسلم بل بالغوا في السَّفه وسوء الأدب معه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيفٍ، وقال لهم: «إذا فعلتم ما فعلتم؛ فاكتموا عنِّي»، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيُذْئرهم ذلك عليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يود أن يتمَّ اتصالاته تلك في جوٍّ من السِّرِّيَّة، وألا تنكشف تحرُّكاته لقريشٍ.

كان بنو عمرو لئاماً، فلم يكتموا خبر الرَّسول صلى الله عليه وسلم؛ بل أَغْرَوْا به سفهاءهم وعبيدهم يسبُّونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتَّى دميت عقباه وتلطَّخت نعلاه، وسال دمه الزَّكي على أرض الطَّائف، وما زالوا به وبزيد بن حارثة حتَّى ألجؤوهما إلى حائطٍ (أي: بستان) لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد صلى الله عليه وسلم إلى ظلِّ شجرةٍ من عنبٍ، فجلس فيه هو وصاحبه زيد، ريثما يستريحان من عنائهما وما أصابهما، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويَرَيَان ما لقي من سفهاء أهل الطَّائف، ولم يحرِّكا ساكناً، وفي هذه الغمرة من الأسى والحزن والآلام النفسيَّة والجسمانية توجه الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه بهذا الدُّعاء؛ الَّذي يفيض إيماناً ويقيناً ورضاً بما ناله في الله واسترضاء الله: «اللَّهمَّ! إليك أشكو ضعف قوَّتي، وقِلَّة حيلتي، وهواني على النَّاس، يا أرحم الرَّاحمين! أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربِّي، إلى مَنْ تكِلني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملَّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك؛ الذي أشرقت له الظلمات، وصَلُح عليه أمر الدُّنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضَبك، أو يحلَّ عليَّ سخطُك، لك العُتْبى حتَّى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك!»

وإنَّا لنلمح في هذا الدُّعاء عمق توحيد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومبلغ تجرُّده لله - جلَّ وعلا - فهو لم يشعر بهذا الحزن المُفضي والهمِّ المتواصل؛ ليدرأ عن نفسه الأذى، أو ليجلب لنفسه شيئاً من حياة الهدوء والنَّعيم؛ بل هو يستعذب كلَّ هذا الأذى من أجل الله تعالى، غير أنَّه مشفقٌ من غضب ربِّه سبحانه أن يكون قصَّر في أمرٍ من أمور الدَّعوة، من غير أن يشعر، فيتعرَّض لشيءٍ من غضب مولاه - جلَّ وعلا - فرضوان الله تعالى إذاً هو الهدف الأعلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المطلب الأعظم الَّذي تُسَخَّر له كلُّ المطالب، وإذا كان البلاء من الله تعالى من أجل أن يحلَّ رضاه، وينجلي سخطه؛ فأهلاً بالبلاء، فهو ساعتئذٍ نعمةٌ ورخاء.

لقد كانت رحلة الرسول صلى الله علي وسلم على الطائف دلالةً واضحة على تفانيه في تبليغ الدعوة وإخلاصه للمتابعة في ذلك مهما تعثرت أمامه الطرق وسدت الأبواب، فكان صلى الله عليه وسلم دائماً ما يبحث عن سبل وأماكن جديدة يبلغ فيها دعوته للناس، ويوصل لهم الرسالة الربانية العظيمة التي حملها، وفي ذلك أداءٌ عظيم للأمانة التي كلفه بها ربه سبحانه، ومن أليق من رسول الله صلى الله عليه بأداء الأمانة وتأدية الواجب!؟

وفي هذا درسٌ لنا جميعاً، نحن من رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبرسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنة، أن الدعوة إلى الله تعالى قضية مركزية في حياة كل مسلم، وواجبٌ يتطلب المتابعة والقيام به بشتى الوسائل، كلٌ من مكانه وعلى قدر استطاعته، حتى وإن كان ثمن ذلك بعض أنواع المحن والصعوبات التي تصيب الداعية المسلم وتعترضه، فلا ينبغي أبداً إهمال هذا الواجب العظيم والوظيفة السامية، حتى يتحقق فينا قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33].

 

المراجع:

1. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 298-312.

2. التجاني، عبدالقادر حامد، (1995)، أصول الفكر السِّياسيِّ في القرآن المكِّي، الطَّبعة الأولى، 1416 هـ 1995 م، عمَّان - الأردن، دار البشير.

3. بادحدح، علي، (1996)، مقومات الدَّاعية النَّاجح، دار الأندلس الخضراء - جدَّة الطَّبعة الأولى 1417 هـ 1996 م.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022