الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (10)

"الإسراء والمعراج.. ذروة المواساة والتَّكريم الرباني"

بقلم: د. علي محمد الصَّلابي

 

كانت حادثة الإسراء والمعراج بمثابة الدعم النفسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي أطالب ووفاة زوجته خديجة رضي الله عنها، وتثبيتاً من الله تعالى لنبيه بعد ما لاقاه من أذى المشركين، وتكريماً لمحمد صلى الله عليه وسلم باطلاعه على بعض معالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

لقد كان وجود أبي طالبٍ بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سياجاً واقياً له يمنع عنه أذى قريش؛ لأنَّ قريشاً ما كانت تريد أن تخسر أبا طالبٍ، ولـمَّا تُوفي أبو طالب؛ انهار هذا الحاجزُ، ونال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من الضَّرر الجسديِّ الشيءُ الكثير.

وكانت خديجة رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم البلسم الشَّافي لما يصيب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الجراح النَّفسيَّة الَّتي يُلحقها به المشركون، ولـمَّا توفيت فَقَدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا البلسمَ.

وخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الطَّائف بعدما اشتدَّ عليه أذى قريش، وأمعنوا في التَّضييق عليه، يطلب من زعمائها نصرة الحقِّ الذي يدعو إليه، وحمايته، حتى يبلِّغ دين الله، فما كان جوابهم إلا أن ردُّوه أقبح ردٍّ، ولم يكتفوا بذلك؛ بل أرسلوا إلى قريش رسولاً يخبرهم بما جاء به محمَّد صلى الله عليه وسلم، فتجهَّمت له قريش وأضمرت له الشَّرَّ، فلم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول مكَّة إلا في جوار رجلٍ كافر. وإن تجهم قريش له زاد من حزنَه وهمَّه صلى الله عليه وسلم، حتَّى سُمِّي ذلك العام بـ(عام الحزن) (قلعجي، 1988، ص 128).

بعد هذا كلِّه حصلتْ معجزةُ اللهِ لرسوله، ألاَ وهي: الإسراء والمعراج.

أمَّا هدف هذه المعجزة، فيتمثل في أمورٍ؛ من أهمِّها:

أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أراد أن يتيح لرسوله صلى الله عليه وسلم فرصة الاطّلاع على المظاهر الكبرى لقدرته؛ حتَّى يملأ قلبه ثقةً فيه، واستناداً إليه؛ حتَّى يزداد قوَّةً في مهاجمة سلطان الكفَّار القائم في الأرض. كان حديث القرآن الكريم عن الإسراء في سورة الإسراء، وعن المعراج في سورة النَّجم، وذكر حكمة الإسراء في سورة الإسراء بقوله: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آياتنَا﴾ [الإسراء: 1] وفي سورة النجم بقوله: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيات رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم: 18].

ففي رحلة الإسراء والمعراج أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الآيات الكبرى، توطئةً للهجرة ولأعظم مواجهةٍ على مدى التَّاريخ للكفر والضَّلال والفسوق. والآيات التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ؛ منها: الذَّهاب إلى بيت المقدس، والعروج إلى السَّماء، ورؤية الأنبياء والمرسلين والملائكة والسَّموات والجنَّة والنار، ونماذج من النعيم والعذاب.

وفي الإسراء والمعراج علومٌ وأسرارٌ، ودقائق، ودروسٌ وَعِبَرٌ.

يقول الأستاذ أبو الحسن النَّدوي: «لم يكن الإسراء مجرَّد حادثٍ فرديٍّ بسيطٍ رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى، وتجلَّى له ملكوت السَّموات والأرض مشاهدةً عياناً؛ بل - زيادةً إلى ذلك - اشتملت هذه الرِّحلة النَّبوية الغيبية على معانٍ دقيقةٍ كثيرةٍ وشاراتٍ حكيمةٍ بعيدة المدى، فقد ضمَّت قصَّةُ الإسراء، وأعلنت السُّورتان الكريمتان اللَّتان نزلتا في شأنه «الإسراء» و«النَّجم»: أنَّ محمّداً صلى الله عليه وسلم هو نبيُّ القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه، وفي إسرائه مكةُ بالقدس، والبيتُ الحرام بالمسجد الأقصى، وصلَّى بالأنبياء خلفه، فكان هذا إيذاناً بعموم رسالته، وخلود إمامته، وإنسانيَّة تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزَّمان، وأفادت سورة الإسراء تعيين شخصية النَّبي صلى الله عليه وسلم، ووصف إمامته وقيادته، وتحديد مكانة الأمَّة التي بعث فيها وآمنت به، وبيان رسالتها ودورها الَّذي ستمثِّله في العالم وبين الشُّعوب والأمم» (حوى، 1989، ص 1/291 - 292).

جاء وصف حادثة الإسراء والمعراج بتفاصيلها الكاملة في الحديث المشهور لأنس بن مالكٍ رضي الله عنه. وقد كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرته - عليه السَّلام – بسنةٍ.

ولـمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحلته الميمونة؛ أخبر قومه بذلك، فقال لهم في مجلسٍ حضره المطعم بن عديٍّ، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة: إنِّي صليت اللَّيلة العشاء في هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيتُ فيما دون ذلك بيت المقدس، فَنُشِر لي رهطٌ من الأنبياء؛ منهم: إبراهيم، وموسى وعيسى، وصلَّيت بهم، وكلَّمتهم، فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صِفْهم لي، فقال: أمَّا عيسى: ففوق الرَّبعة، ودون الطول، عريض الصَّدر، ظاهر الدَّم، جعدٌ، أشعرٌ، تعلوه صُهْبَةٌ، كأنَّه عروة بن مسعود الثَّقفي. وأمَّا موسى: فضخمٌ آدم، طوالٌ، كأنَّه من رجال شَنُوءَةَ، متراكب الأسنان، مقلَّص الشَّفة، خارج اللَّثة، عابسٌ، وأمَّا إبراهيم: فوالله إنه لأشبه النَّاس بي، خَلْقاً، وخُلُقاً (الصلابي، 2021، ص 312-325).

فقالوا: يا محمد! فصف لنا بيت المقدس، قال: «دخلت ليلاً، وخرجت منه ليلاً»، فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول: «بابٌ منه كذا، في موضع كذا، وبابٌ منه كذا، في موضع كذا». ثمَّ سألوه عن عيرهم، فقال لهم: «أتيت على عير بني فلان بالرَّوحاء، قد ضَلَّتْ ناقةٌ لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم، ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء، فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك» - قالوا: هذه والإله ايةٌ! - «ثمَّ انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت منِّي الإبل، وبرك منها جملٌ أحمر، عليه جُوالِق مخطَّطٌ ببياض، لا أدري أكسر البعير، أم لا؟ فاسألوهم عن ذلك» - قالوا: هذه والإله ايةٌ! - «ثمَّ انتهيت إلى عير بني فلانٍ في التَّنعيم، يقدمها جملٌ أورق، وها هي تطلع عليكم من الثَّنِيَّة» فقال الوليد بن المغيرة: ساحرٌ، فانطلقوا، فنظروا، فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسِّحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال.

كانت هذه الحادثة فتنةً لبعض النَّاس، مِمَّن كانوا امنوا، وصدَّقوا بالدَّعوة، فارتدُّوا، وذهب بعض النَّاس إلى أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم: أنَّه أسري به اللَّيلة إلى بيت المقدس! قال: أَوَ قَال ذلك؟! قالوا: نعم! قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق! قالوا: أو تصدِّقه: أنَّه ذهب اللَّيلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم، إنِّي لأصدِّقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدِّقه بخبر السَّماء، في غدوةٍ أو روحة، فلذلك سُمِّي أبو بكر الصِّدِّيق (الصلابي، 2021، ص 312-325).

إنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان مُقْدِماً على مرحلةٍ جديدةٍ، مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدَّولة، يريد اللهُ تعالى لِلَّبِنَات الأولى في البناء أن تكون سليمةً قويَّةً، متراصَّةً متماسكةً، فجعل الله هذا الاختبار والتَّمحيص؛ ليُخلِّص الصَّفَّ من الضِّعاف المتردِّدين، والَّذين في قلوبهم مرضٌ، ويُثبِّت المؤمنين الأقوياء والخلَّص؛ الذين لمسوا عياناً صدق نبيِّهم بعد أن لمسوه تصديقاً، وشهدوا مدى كرامته على ربِّه، فأيُّ حظٍّ يحوطهم، وأيُّ سعدٍ يغمرهم، وهم حول هذا النَّبيِّ المصطفى، وقد امنوا به، وقدَّموا حياتهم فداءً له، ولدينهم؟! كم يترسَّخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الَّذي تمَّ بعد وعثاء الطَّائف؟! وبعد دخول مكَّة في جوارٍ، وبعد أذى الصِّبيان، والسُّفهاء؟! (الغضبان، 1989، ص 1/447-451).

وإنَّ شجاعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم العالية، تتجسَّد في مواجهته للمشركين بأمرٍ تنكره عقولهم، ولا تدركه في أوَّل الأمر تصوُّراتهم، ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم، وتلقِّي نكيرهم، واستهزائهم، فضرب بذلك صلى الله عليه وسلم لأمَّته أروع الأمثلة في الجهر بالحقِّ أمام أهل الباطل، وإن تحزَّبوا ضدَّ الحقِّ، وجنَّدوا لحربه كلَّ ما في وسعهم، وكان من حكمة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجَّة على المشركين أنْ حدَّثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس، وأظهر الله له علاماتٍ تُلزِم الكفَّار بالتَّصديق (الحميدي، 1997، ص 3/41 - 42).

كان من أعظم دروس حادثة الإسراء والمعراج، أن بعد كلِّ محنةٍ منحة، فقد تعرَّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحنٍ عظيمةٍ، فهذه قريش قد سدَّت الطَّريق في وجه الدَّعوة في مكَّة، وفي ثقيفٍ، وفي قبائل العرب، وأحكمتْ الحصار ضدَّ الدعوة ورجالاتها من كلِّ جانبٍ، وأصبح النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في خطرٍ بعد وفاة عمِّه أبي طالبٍ أكبر حُماته، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ماضٍ في طريقه، صابرٍ لأمر ربِّه، لا تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، ولا حربُ محاربٍ، ولا كيدُ مستهزىءٍ، فقد آن الأوان للمحنة العظيمة، فجاءت حادثة الإسراء والمعراج على قَدَرٍ من ربِّ العالمين، فيعرج به من دون الخلائق جميعاً، ويكرمه على صبره، وجهاده، ويلتقي به مباشرة دون رسولٍ، ولا حجابٍ، ويطلعه على عوالم الغيب دون الخلق كافَّةً، ويجمعه مع إخوانه من الرُّسل في صعيدٍ واحدٍ، فيكون الإمام، والقدوة لهم، وهو خاتمهم، وآخرهم صلى الله عليه وسلم (الصلابي، 2021، ص 312-325).

المراجع:

1. الحميدي، عبدالعزيز، (1997)، التَّاريخ الإسلاميُّ - مواقف وعبرٌ، دار الدَّعوة - الإسكندريَّة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1997 م.

2. حوى، سعيد، (1989)، الأساس في السُّنَّة وفقهها، دار السَّلام بمصر، الطَّبعة الأولى، 1409 هـ 1989 م.

3. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 312-325.

4. قلعجي، محمد، (1988)، دراسةٌ تحليليَّةٌ لشخصية الرَّسول (ﷺ) ، الطَّبعة الأولى، سنة 1408هـ 1988م، دار النَّفائس.

5. الغضبان، منير، (1998)، التَّربية القياديَّة، دار الوفاء - المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022