التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (11)
"بيعة العقبة الأولى"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يسمع بقادمٍ يقدم مكَّة من العرب، له اسمٌ وشرفٌ، إلا تصدَّى له ودعاه إلى الله، وعرض عليه ما جاء به من الهدى والحقِّ، ورغم الرفض الرفض والإعراض الذي لاقاه من معظم وفود القبائل العربية، إلا أن هذه الجهود النبوية انتهت بنهاية سعيدة ومبشرة، فجاء القدر بموعدٍ سيغير مسار الدعوة الإسلامية ومجرى التاريخ كله. وهو الموعد مع وفدٍ من الخزرج القادمين من يثرب، كانت البداية المثمرة مع هذا الوفد في موسم الحجِّ عند عقبة منى، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنتم؟ قالوا: نفرٌ من الخزرج، قال: أَمِنْ موالي يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلِّمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله - عزَّ وجلَّ - وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
فلـمَّا كلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أولئك النَّفر، ودعاهم إلى الله؛ قال بعضهم لبعض: يا قوم! تعلمون والله أنَّـه للنَّبيُّ الَّذي توعَّدكم بـه يهود، فلا تسبقنَّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدَّقوه، وقَبِلُوا منـه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنَّا قد تركنا قومنـا، ولا قوم بينهم من العداوة والشرِّ ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الَّـذي أجبناك إليه من هذا الدِّيـن، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعزُّ منك. ثمَّ انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدَّقوا، وكانوا ستَّة نفرٍ، وهم: أبو أمامة أسعد بن زُرارةَ، وعوف بن الحارث من بني النَّجار، ورافع بـن مالك، وقُطْبـة بـن عامرٍ، وعُقْبـة بـن عامرٍ، وجابر بـن عبد الله بـن رئاب (ابن كثير، 1988، ص 3/148 - 149). فلـمَّا قدموا المدينـة إلى قومهم ؛ ذكروا لهـم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ودعَوهـم إلى الإسـلام حتَّى فشا بينهم، فلم تبـقَ دارٌ من دُور الأنصار إلا وفيها ذِكْـرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم (الزرقاني، د.ت، ص 1/361)..
فهذا أوَّل موكبٍ من مواكب الخير، لم يكتفِ بالإيمان وإنَّما أخذ العهد على نفسه أن يدعوَ إليه قومه، وقد وفَّى كلٌّ منهم لدينه ورسوله، فإنَّهم حين رجعوا؛ نشطوا في الدَّعوة إلى الله، وعرضوا كلمة الهدى على أهلهم وذويهم، فلم تبقَ دارٌ من دور المدينة إلا وفيها ذكرٌ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم (سبع، 1973، ص 273 ، 274)، قال جابر بن عبد الله الأنصاريُّ: «مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّـة عشر سنين، يَـتَّـبَّعُ النَّاس في منازلهم، بعُكاظ، ومجَنَّة، وفي المواسم بمنى، يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتَّى أبلِّغ رسالة ربي وله الجنة؟ حتَّى إنَّ الرجل ليخرج من اليمن، أو مُضَر، فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش؛ لا يفتننَّك! ويمشي بين رجالهم؛ وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتَّى بعَثَنا اللهُ إليه من يثرب، فآويناه، وصدَّقناه، فيخرج الرَّجل منا، فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتَّى لم يبقَ دارٌ من دور الأنصار، إلا وفيها رهطٌ من المسلمين، يُظهرون الإسلام»
ومن الجدير بالتَّنبيه: أنَّ هذه المقابلة الَّتي حدثت عند العقبة، وتلاقى فيها فريقٌ من الخزرج بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأسلموا على يديه، لم تكن فيها بيعةٌ؛ لأنَّها كانت من نفر صغيرٍ، لم يروا لأنفسهم الحقَّ في أن يلتزموا بمعاهدة دون الرُّجوع إلى قبائلهم في المدينة، ولكنَّهم أخلصوا في تبليغ رسالة الإسلام (الصلابي، 2021، ص 335-341).
بعد عامٍ من المقابلة الأولى؛ الَّتي تمَّت بين الرَّسول صلى الله عليه وسلم وأهل يثرب عند العقبة، وَافَى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وبايعوه العقبة الأولى، عشرةٌ من الخزرج، واثنان من الأوس، ممَّا يشير إلى أنَّ نشاط وفد الخزرج الَّذين أسلموا في العام الماضي تركَّز على وسطهم القبلي بالدَّرجة الأولى؛ لكنَّهم تمكنوا في الوقت نفسه من اجتذاب رجال الأوس، وكان ذلك بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام (العمري، 1992، ص 1/197).
وقد تحدَّث عبادةُ بن الصَّامت الخزرجيُّ عن البيعة في العقبة الأولى، فقال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنيْ عَشَرَ رجلاً، فبايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض علينا الحرب، على ألاَّ نشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفَّيتم فلكم الجنَّة، وإن غَشِيتم من ذلك شيئاً، فأمركم إلى الله - عزَّ وجلَّ - إن شاء غفر، وإن شاء عذَّب».
وبنود هذه البيعة، هي الَّتي بايع الرَّسول صلى الله عليه وسلم عليها النِّساء فيما بعد، ولذلك عرفت باسم بيعة النِّساء، وقد بعث الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع المبايعين مصعب بن عمير يعلِّمهم الدِّين ويقرئهم القرآن، فكان يُسمَّى بالمدينة (المقرئ)، وكان يؤمُّهم في الصَّلاة، وقد اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علمٍ بشخصيَّته من جهةٍ، وعلمٍ بالوضع القائم في المدينة من جهةٍ أخرى، حيث كان بجانب حفظه لما نزل من القرآن يملك من اللَّباقة والهدوء وحسن الخُلُق والحكمة قدراً كبيراً، فضلاً عن قوَّة إيمانه، وشدَّة حماسه للدِّين، ولذلك تمكَّن خلال أشهرٍ أن ينشر الإسلام في معظم بيوتات المدينة، وأن يكسب للإسلام أنصاراً من كبار زعمائها، كسعد بن معاذ، وأُسَيْد بن حُضَيْر، وقد أسلم بإسلامهما خلقٌ كثير من قومهم (العودة، 1991، ص 185-187).
لقد نجحت سفارة مصعب بن عمير رضي الله عنه في شرح تعاليم الدِّين الجديد، وتعليم القرآن الكريم، وتفسيره، وتقوية الرَّوابط الأخويَّة بين أفراد القبائل المؤمنة من ناحيةٍ، وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحبه بمكَّة المكرمة، لإيجاد القاعدة الأمينة لانطلاق الدَّعوة. ووصل مصعب رضي الله عنه إلى مكَّة قبيل موسم الحجِّ، من العام الثَّالث عشر للبعثة، ونقل الصُّورة الكاملة الَّتي انتهت إليها أوضاع المسلمين هناك، والقدرات، والإمكانات المتاحة، وكيف تغلغل الإسلام في جميع قطاعات الأوس، والخزرج، وأنَّ القوم جاهزون لبيعةٍ جديدة، قادرةٍ على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنعته.
وكان اللِّقاء الثاني الَّذي غيَّر مجرى التَّاريخ، وهو بيعة العقبة الثانية، في موسم الحجِّ في السَّنة الثَّالثة عشرة من البعثة؛ حيث حضر لأداء مناسك الحجِّ بضعٌ وسبعون نفساً من المسلمين، من أهل يثرب، فلـمَّا قدموا مكَّة؛ جرت بينهم وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم اتصالاتٌ سرِّيَّة، أدَّت إلى اتِّفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيَّام التَّشريق في الشِّعْب الَّذي عند العقبة، حيث الجمرة الأولى من مِنًى، وأن يتمَّ هذا الاجتماع في سرِّيَّةٍ تامَّةٍ في ظلام اللَّيل.
وقد بذل الرَّسول صلى الله عليه وسلم كلَّ ما يملك من جهدٍ لتعبئة الطَّاقات الإسلاميَّة في المدينة، ولم يكن هناك أدنى تقصيرٍ للجهد البشريِّ الممكن في بناء القاعدة الصُّلبة، الَّتي تقوم على أكتافها الدَّولة الجديدة، واحتلَّ هذا الجهد سنتين كاملتين من الدَّعوة، والتَّنظيم. ونجحت التعبئة الإيمانيَّة في نفوس مَنْ أسلم من الأنصار، ولذلك فقد شعرت الأنصار بأنَّه قد آن الأوان لقيام الدَّولة الجديدة، وكما يقول جابرٌ رضي الله عنه، وهو يمثِّل هذه الصُّورة الرَّفيعة الرَّائعة: «حتَّى متى نترك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يطوف، ويُطرَد في جبال مكَّة، ويُخاف؟!» (الصلابي، 2021، ص 335-341).
وهكذا عندما يأذن الله تأتي ساعة الحسم الفاصلة، فقد كان لقاء هؤلاء مع الرَّسول صلى الله عليه وسلم على غير موعـدٍ، لكنَّه لقاء هيَّأه الله؛ ليكون نبع الخير المتجِّدد الموصول، ونقطة التَّحوُّل الحاسم في التَّاريخ، وساعة الخلاص المحقَّق من عبادة الأحجار؛ بل إنَّها على التَّحقيق ساعة الحسم في مصير العالم كلِّه، ونقل الحياة من الظُّلمات إلى النُّور، أكان معقولاً في لحظةٍ يسيرةٍ أن يتحوَّل هؤلاء من وثنيِّين متعصِّبين إلى أنصارٍ للدَّعوة متفتِّحين وجنودٍ للحقِّ مخلصين ودعاةٍ إلى الله متجرِّدين، يذهبون إلى أقوامهم وبين جوانحهم نورٌ وعلى وجوههم نورٌ، وإنَّهم لعلى نورٍ؟! تلك مشيئة القدر العالي، هيَّأت للدَّعوة مجالها الخصب وحماها الأمين، والسَّنوات العِجاف الَّتي قضاها الرَّسول صلى الله عليه وسلم نضالاً مستمرّاً، وكفاحاً دائماً وتطوافاً على القبائل والتماساً للحليف، قد ولَّت إلى غير رجعةٍ؛ سيكون بعد اليوم للإسلام قوَّته الرَّادعة وجيشه الباسل، وسيلتقي الحقُّ بالباطل؛ ليصفِّي معه حساب الأيام الخوالي والعاقبة للمتقين، وستتوالى على مكَّة منذ اليوم مواكب الخير وطلائع النُّور الَّتي هيَّأها الله للخير؛ لتتصل بالهداية وتسبح في النُّور، وتغترف من الخير وترجع إلى يثرب بما وَعَتْ من خير وبما حملت من نورٍ (سبع، 1973، ص 273 ، 274).
المراجع:
1. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 335-341.
2. ابن كثير، (1988)، البداية والنِّهاية، الطَّبعة الأولى - 1408 هـ 1988 م، دار الرَّيان للتُّراث.
3. العمري، أكرم، (1992)، السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، الطَّبعة الأولى 1412هـ 1992م مكتبة المعارف والحِكَم بالمدينة المنوَّرة.
4. الزرقاني، محمد بن عبدالباقي، شرح المواهب اللَّدنية للقسطلانيِّ، دار المعرفة، بيروت.
5. سبع، توفيق محمد، (1973)، أضواء على الهجرة، مطبعة الهيئة العامَّة لشؤون المطابع الأميرية، 1393 هـ 1973 م.
6. العودة، سلمان، (1991)، الغرباء الأوَّلون، الطَّبعة الثَّالثة، عام 1412هـ 1991م، دار ابن الجوزي، الدَّمام السُّعودية.