التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (15)
"معالم المجتمع الإسلامي الجديد في المدينة المنورة"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
كانت هجرة النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه من البلد الأمين تضحيةً عظيمةً، عبَّر عنها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله! إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرِجت منك ما خرجتُ» [أحمد (4/305) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108)].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لـمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمَّى، وكان واديها يجري نجلاً - يعني ماءً آجناً - فأصاب أصحابَه منها بلاءٌ وسقمٌ، وصرف الله ذلك عن نبيِّه، قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة، وبلال، في بيتٍ واحدٍ، فأصابتهم الحمَّى، فاستأذنتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدَّة الوعك، فدنوت من أبي بكرٍ، فقلت: يا أبتِ كيف تجدُك؟ فقال:
كلُّ امْرِئ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ
والمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
قالت: فقلت: والله! ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدُك يا عامر؟! فقال:
لَقَدْ وَجَدْتُ المَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ
إنَّ الجَبَانَ حَتْفُهُ منْ فَوْقِهِ
كُلُّ امْرِئ مُجَاهِدٌ بِطَوْقِهِ
كالثَّوْرِ يَحْمِي جِلْدَهُ بِرَوْقِهِ
قالت: فقلت: والله! ما يدري عامر ما يقول. قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمَّى، اضطجع بفناء البيت، ثمَّ يرفع عقيرته، ويقول:
ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيْتَنَّ لَيْلَةً
بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وجَلِيْلُ
وهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مَجَنَّةٍ
وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شامَةٌ وَطَفِيْلُ
قالت: فأخبرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اللهمَّ! حبِّبْ إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكَّة أو أشدَّ، وانقل حُمَّاها إلى الجُحْفَةِ. اللَّهمَّ! باركْ لنا في مُدِّنا، وصاعنا» [البخاري (1889) ومسلم (1376)].
وقد استجاب الله دعاء نبيِّه صلى الله عليه وسلم وعُوفي المسلمون بعدها من هذه الحمَّى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكلِّ الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوُّع بيئاتهم ومواطنهم.
أما عن أهل المدينة فقد كان أهلها من الأوس والخزرج، وهم أصحاب نخوةٍ وإباءٍ وفروسيَّةٍ وقوَّةٍ وشكيمةٍ، ألفوا الحرِّيَّة ولم يخضعوا لأحدٍ، ولم يدفعوا إلى قبيلةٍ أو حكومةٍ إتاوةً أو جبايةً. يقول ابن خلدون: ولم يزل هذان الحيَّان قد غلبوا على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملَّتهم مَنْ جاورهم من قبائل مُضَر.
وكان بنو عديِّ بن النَّجار أخواله صلى الله عليه وسلم، فأمُّ عبد المطلب بن هاشم بن عديِّ بن النَّجار إحدى نسائهم، فقد تزوَّج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عديِّ بن النَّجار، وولدت لهاشم عبد المطلب، وتركه هاشم عندها، حتَّى صار غلاماً دون المراهقة، ثمَّ احتمله عمُّه المطَّلب فجاء به إلى مكَّة، وكانت الأرحام يحسبُ لها حسابٌ كبيرٌ في حياة العرب الاجتماعيَّة، ومنهم أبو أيوبٍ الأنصاريُّ؛ الَّذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره في المدينة.
وكان الأوس والخزرج من قحطان، والمهاجرون وَمَنْ سبق إلى الإسلام في مكَّة وما حولها من عدنان، ولـمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقام الأنصار بنصره؛ اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام، وكانوا كجسدٍ واحدٍ، وكانت بينهما مفاضلةٌ ومسابقةٌ في الجاهليَّة، وبذلك لم يجد الشَّيطان سبيلاً إلى قلوبهم لإثارة الفتنة والتَّعزِّي بعزاء الجاهليَّة، باسم الحميَّة القحطانيَّة أو العدنانيَّة، فكانت لكلِّ ذلك مدينةُ يثرب أصلحَ مكانٍ لهجرة الرَّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واتِّخاذهم لها داراً وقراراً، حتَّى يقوى الإسلام ويشقَّ طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثمَّ يفتح العالم المتمدِّن (حوى، 1989، ص 1/333).
وإنَّ جانب البذل والعطاء الذي تجلى في استقبال الأنصار للمهاجرين واستضافتهم، ظاهرةٌ نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كلِّ وقتٍ؛ فهذا مجتمعٌ يبنى؛ ولـمَّا يصلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، ومع ذلـك تفتح البيوت للوافديـن الجُدُد، ليس على مستوى فـردٍ فقط؛ بل على مستوى جماعيٍّ كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار شهوراً عدَّةً، والمعايشة اليوميَّة مستمرةٌ، والأنصار يبذلون المال والحبَّ والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم، نحن أمام مجتمعٍ إسلاميٍّ بلغ الذِّروة في لُحْمَتِهِ وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلاً فقراء؛ بل كانوا يملكون المال ويملكون الدَّار، وتركوا ذلك كلَّه ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كلَّه لطاعته جلَّ وعلا، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 8 - 9] .كان هذا المجتمع المدنيُّ الجديد يتربَّى على معاني الإيمان والتَّقوى، ولم يصل النَّبيُّ (ﷺ) بعد، ولكن تحت إشراف النُّقباء الاثنى عشر الَّذين كانوا في كفالتهم لقومهم، ككفالة الحواريِّين لعيسى ابن مريم، وبإشراف قيادات المهاجرين الكبرى، الَّتي وصلت المدينة، والذين استقوا جميعاً من النَّبع النَّبويِّ الثَّرِّ واقتبسوا من هديه (الغضبان، 1998، ص 2/171 ، 172).
ومن معالم هذا المجتمع الجديد ذوبان العصبية؛ فقد كان إمامُ المسلمين، سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً، فهذا المجتمع الَّذي يوجد فيه عِلْيَةُ أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ من المهاجرين والأنصار، وسادة العرب من قريش، والأوس والخزرج، يقوده ويؤمُّه حامل القرآن، فالكرامة العليا فيه لقارئ كتاب الله وحامله، وحامل القرآن في المجتمع الإسلاميِّ هو نفسه حامل اللِّواء في الحرب، فليس بينهما ذلك الانفصام الَّذي نشهده اليوم بين حملـة القرآن من الحفَّـاظ وبين المجاهدين في سبيل الله، فقد كان حامل لواء المهاجرين في معركة اليمامة سالم مولى أبي حذيفة، وكان شعاره: (بئس حامل القرآن) - يعني: إن فررت -، فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره، فقطعت، فاعتنقه إلى أن صُرع، واستُشهد في سبيل الله (الغضبان، 1998، ص 2/174 ، 175).
ومن معالم المجتمع الإسلاميِّ الجديد حرِّيَّة الدَّعوة إلى الله علانيةً، فقد أصبح واضحاً عند الجميع أنَّ معظم قيادات يثرب دخلت في هذا الدِّين، ونشط الشَّباب والنِّساء والرِّجال في الدَّعوة إلى الله، والتبشير بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدمٍ وساقٍ. ولابدَّ من المقارنة بين المجتمع الَّذي قام بالحبشة من المسلمين، وبين المجتمع الإسلاميِّ في يثرب؛ فلقد كانت الحبشة تحمل طابع اللُّجوء السِّياسيِّ، والجالية الأجنبيَّة أكثر ممَّا كانت تحمل طابع المجتمع الإسلاميِّ الكامل؛ صحيحٌ أن المسلمين ملكوا حرِّيَّة العبادة هناك؛ لكنَّهم معزولون عن المجتمع النَّصرانيِّ، لم يستطيعوا أن يؤثِّروا فيه التَّأثير المنشود، وإن كانت هجرة الحبشة خطوةً متقدِّمةً على جو مكَّة؛ حيث لا تتوفر حرِّيَّة الدَّعوة وحرِّيَّة العبادة، ولكنَّه دون المجتمع الإسلاميِّ في المدينة بكثير، ولذلك شرع مهاجرو الحبشة بمجرَّد سماع خبر هجرة المدينة، بالتوجُّـه نحوها مباشرة أو عن طريق مكَّة؛ إلا من طلبت منه القيادة العليا البقاء هناك، لقد أصبحت المدينة مسلمةً بعد أن عاشت قروناً وثنيَّـةً مشركةً.
لقد أصبح المجتمع المدنيُّ مسلماً، وبدأ نموُّه وتكوينه الفعليُّ بعد عودة الاثني عشر صحابيّاً من البيعة الأولى، والَّتي كان على رأسها الصحابيُّ الجليل أسعد بن زُرَارةَ، والَّتي حملت المسؤوليَّة الدَّعويَّة فقط دون الوجود السِّياسيِّ، وبلغ هذا المجتمع أوج توسُّعه وبنائه بعد عودة السَّبعين، الَّذين ملكوا الشَّارع السِّياسيَّ والاجتماعيَّ، وقرَّروا أن تكون بلدهم عاصمة المسلمين الأولى في الأرض، وهم على استعدادٍ أن يواجهوا كلَّ عدوٍّ خارجيٍّ يمكن أن ينال من هذه السِّيادة، حتَّى قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في المدينة.
إنَّ القاعدة الصُّلبة، الَّتي بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً وجهداً في تربيتها، بدأت تعطي ثمارها أكثر، بعد أن التحمت بالمجتمع المدنيِّ الجديد، وانصهر كلاهما في معاني العقيدة وأخوَّة الدين.
لقد أعدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأفراد، وصقلهم في بوتقة الجماعة، وكوَّن بهم القاعدة الصُّلبة، ولم يقم المجتمع الإسلاميُّ الَّذي تقوم عليه الدَّولة إلا بعد بيعة الحرب وبذلك نقول: إنَّ المجتمع الإسلاميَّ قام بعدما تهيَّأت القوَّة المناسبة لحمايته في الأرض (الغضبان، 1998، ص 1/146 ، 147).
وهكذا انتقلت الجماعة المسلمة المنظَّمة القويَّة إلى المدينة، والتحمت مع إخوانها الأنصار، وتشكَّل المجتمع المسلم؛ الَّذي أصبح ينتظر قائده الأعلى صلى الله عليه وسلم ؛ ليعلن ولادة دولة الإسلام، الَّتي صنعت - فيما بعد - حضارةً؛ لم يعرفِ التَّاريخ مثلها حتَّى يومنا هذا.
المراجع:
1. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 360-370.
2. الغضبان، منير، (1998)، التَّربية القياديَّة، دار الوفاء - المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.
3. حوى، سعيد، (1989)، الأساس في السُّنَّة وفقهها، دار السَّلام بمصر، الطَّبعة الأولى، 1409 هـ 1989 م.