السبت

1446-05-14

|

2024-11-16

التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (17)

"المسجد .. الدعامة الأولى للدولة والمجتمع الإسلامي في المدينة المنورة "

بقلم: د. علي محمد الصَّلابي

 

شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة في السعي لتثبيت دعائم الدَّولة الجديدة على قواعد متينةٍ وأسسٍ راسخةٍ، فكانت أولى خطواته المباركة الاهتمام ببناء دعائم الأمَّة؛ كبناء المسجد الأعظم بالمدينة، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على الحبِّ في الله، وإصدار الوثيقة أو الدُّستور الإسلاميِّ في المدينة، الَّذي ينظِّم العلاقات بين المسلمين واليهود ومشركي المدينة، وإعداد جيش لحماية الدولة، والسَّعي لتحقيق أهدافها، والعمل على حلِّ مشاكل المجتمع الجديد، وتربيته على المنهج الربَّانيِّ في شؤون الحياة كافَّةً، فقد استمرَّ البناء التَّربويُّ والتَّعليميُّ، واستمرَّ القرآن الكريم يتحدَّث في المدينة عن عظمة الله وحقيقة الكون والتَّرغيب في الجنَّة والتَّرهيب من النَّار، ويشرِّع الأحكام لتربية الأمَّة ودعم مقوِّمات الدَّولة، الَّتي ستحمل نشر دعوة الله بين النَّاس قاطبة، وتجاهد في سبيل الله.

وكان أوَّلَ ما قام به الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناءُ المسجد؛ وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام، الَّتي طالما حُوربت، ولتقام فيه الصَّلوات الَّتي تربط المرء بربِّ العالمين، وتنقِّي القلب من أدران الأرض وأدناس الحياة الدُّنيا (الغزالي، 1989، ص 191).

روى البخاريُّ بسنده: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة راكباً راحلتَهُ، فسار يمشي معه النَّاسُ؛ حتَّى بَرَكَتْ عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلِّي فيه يومئذٍ رجالٌ من المسلمين، وكان مِرْبَداً للتَّمر، لسهلٍ وسُهَيْلٍ غلامين يتيمين في حِجْر أسعد بن زُرَارَة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل»، ثمَّ دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمِرْبَد ليتَّخذَه مسجداً، فقالا: لا، بل نهبُهُ لك يا رسولَ الله! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هِبَةً؛ حتَّى ابتاعه منهما [البخاري (3906)].

وفي رواية أنس بن مالكٍ: فكان فيه ما أقول: كان فيه نَخْلٌ، وقُبورُ المشركين، وخربٌ، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالنَّخل فقُطع، وبقبور المشركين فنُبِشَتْ، وبالخربِ فسُوِّيَتْ. قال: فَصَفُّوا النَّخلَ قبلةً، وجعلوا عِضَادَتَيْهِ حجارةً. قال: فكانوا يرتجزون، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم معهم؛ وهم يقولون:

اللَّهُمَّ! لا خَيْرَ إلا خَيْرُ الآخرهْ

فَانْصُرِ الأنصـــــار والمُهَاجِــــــــــرَهْ

[البخاري (428) ومسلم (524)] .

وشرع الرَّسول صلى الله عليه وسلم في العمل مع أصحابه، وضرب أوَّل معولٍ في حفر الأساس؛ الَّذي كان عمقه ثلاثة أذرع، ثمَّ اندفع المسلمون في بناء هذا الأساس بالحجارة والجدران - الَّتي لم تزد عن قامة الرَّجل إلا قليلاً - باللَّبن؛ الَّذي يعجن بالتُّراب، ويسوَّى على شكل أحجارٍ صالحةٍ للبناء. وفي النَّاحية الشَّمالية منه، أقيمت ظلَّةٌ من الجريد على قوائم من جذوع النَّخل، كانت تسمَّى «الصُّفة»، أما باقي أجزاء المسجد فقد تُرِكت مكشوفةً بلا غطاءٍ (السَّمهودي، 1326ه، ص 1/321).

وأمَّا أبواب المسجد؛ فكانت ثلاثةٌ: باب في مؤخرته من الجهة الجنوبيَّة، وباب في الجهة الشَّرقيَّة، كان يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء باب بيت عائشة، وباب من الجهة الغربية يقال له: باب الرَّحمة، أو باب عاتكة (السِّيرة النَّبوية الصَّحيحة (1/258).

وإن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد كأول خطوة يقوم بها في المدينة بعد صوله إليها مباشرة، فيه دروس مهمة ودلالات عظيمة، ومنها أن إقامة المساجد من أهمِّ الرَّكائز في بناء المجتمع الإسلاميِّ؛ ذلك أنَّ المجتمع المسلم إنَّما يكتسب صفة الرُّسوخ والتَّماسك بالتزام نظام الإسلام، وعقيدته وآدابه، وإنَّما ينبع ذلك من رُوح المسجد ووحيه (البوطي، 1991، ص 203).

قال تعالى: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]، وقال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ۝ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ۝ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور: 36 - 38] .

والمسجد رمزٌ لشمولية الإسلام، حيث «أُنشئ ليكون متعبَّداً لصلاة المؤمنين، وذكرهم لله تعالى، وتسبيحهم له وتقديسهم إيَّاه بحمده، وشكره على نعمه عليهم، يدخله كلُّ مسلمٍ، ويقيم فيه صلاته وعبادته، ولا يضارُّه أحدٌ ما دام حافظاً لقداسته، ومؤدِّياً حقَّ حرمته». كما «أنشئ المسجد ليكون ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، والوافدين عليه؛ طلباً للهداية، ورغبةً في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته» (عرجون، 1995، ص 3/33).

وللمسجد وظائف كثيرة، فهو مؤسسة لخدمة مصالح المسلمين الدينية والدنيوية معاً، فقد يتم إنشاء المسجد ليكون جامعةً للعلوم، والمعارف الكونيَّة والعقليَّة والتَّنزليَّة، الَّتي حثَّ القرآن الكريم على النَّظر فيها، وليكون مدرسةً يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم وثمرات عقولهم، ومعهداً يَؤُمُّهُ طلاب العلم من كلِّ صوبٍ؛ ليتفقهوا في الدِّين، ويرجعوا إلى قومهم مبشِّرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلاً بعد جيلٍ» (عرجون، 1995، ص 3/33).

والمسجد مكانٌ يجد فيه الغريب مأوىً، وابن السَّبيل مستقراً، لا تكدِّره منَّةُ أحدٍ عليه، فينهل من رِفْدِه، ويعبُّ من هدايته ما أطاق استعداده النَّفسيُّ والعقليُّ، لا يصدُّه أحدٌ عن علمٍ أو معرفةٍ، أو لونٍ من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرَّج فيه، وبرزت بطولتُه بين جدرانه! وكم من عالمٍ استبحر علمُه في رحابه، ثمَّ خرج به على النَّاس يروي ظمأهم للمعرفة! وكم من داعٍ إلى الله تلقَّى في ساحاته دروس الدَّعوة إلى الله، فكان أسوة الدُّعاة وقدوة الهداة، وريحانةً جَذَبَ القلوبَ شَذَاها، فانجفلت إليها تأخذ عنها الهداية لتستضيء بأنوارها!

وكم من أعرابيٍّ جلفٍ لا يفرِّق بين الأحمر والأصفر وفد عليه، فدخله، ورأى أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله هالةً تحفُّ به، يسمعون منه؛ وكأنَّ على رؤوسهم الطَّير، فسمع معهم، وكانت عنده نعمة العقل مخبَّأةً تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقلَ وفَقِهَ واهتدى واستضاء، ثمَّ عاد إلى قومـه إماماً يدعوهم إلى الله، ويربِّيهم بعلمه الَّذي علم، وسلوكـه الَّذي سلك، فآمنوا بدعوته واهتدوا بهديـه، فكانوا سطراً منيراً في كتـاب التَّاريخ الإسلاميِّ!» (عرجون، 1995، ص 3/34-35).

والمسجد «قد أُنشئ ليكون قلعـةً لاجتماع المجاهدين إذا استُنفروا، تعقد فيـه ألويـة الجهاد، والدَّعوة إلى الله، وتخفق فيـه فوق رؤوس القادة الرَّآيات، للتوجُّـه إلى مواقع الأحداث، وفي ظلِّها يقف جند الله في نشوة ترقُّب النَّصر أو الشَّهادة». والمسجد مكانٌ يجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركناً في زواياه، ليكون مشفىً يستشفي فيه جرحى كتائب الجهاد؛ ليتمكن نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من عيادتهم، والنَّظر في أحوالهم، والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقَّةٍ ولا نَصَبٍ؛ تقديراً لفضلهم».

وقد يكون المسجد مركزاً لبريد الإسلام؛ منه تصدر الأخبار، ويُبْرَدُ البريد، وتصدر الرَّسائـل، وفيه تُتلقَّى الآنبـاء السِّياسيَّـة سلماً أو حربـاً، وفيه تُتلقى وتُقرأ رسائل البشائر بالنَّصر، ورسائل طلب المـدد، وفيـه يُنعى المستشهدون في معارك الجهاد؛ ليتأسَّى بهم المتأسُّون، وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون» (عرجون، 1995، ص 3/34 - 35).

والمسجد مرقبٌ للمجتمع المسلم؛ يتعرَّف منه على حركات العدو المريبةويراقبها، ولا سيَّما الأعداء الَّذين معه يساكنونه، ويخالطونه في بلده؛ من شراذم اليهود وزُمَر المنافقين ونفايات الوثنيَّة، الذين انغمسوا في الشِّرك فلم يتركوه، ليتجنَّب المجتمع المسلم عاقبة كيدهم، وسوء مكرهم وتدبيرهم، ويأمن مغَبَّةَ غدرهم وخياناتهم». فالمسجد النَّبويُّ الذي «بدأ بتأسيسه وبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل ما بدأ من عملٍ في مستقرِّه، ودار هجرته في مطلع مقدمه؛ ليكون نموذجاً يُحتذَى به في بساطة المظهر، وعمق المخبر؛ ليحقِّق به أعظم الأهداف، وأعمَّها بأقلِّ النفقات، وأيسر المشقَّات» (عرجون، 1995، ص 3/33-36).

ومنذ ذلك الحين كان المسجد ومازال الدعامة الأولى لقيام أي مجتمع إسلامي ومدينة إسلامية، فهو حجر الأساس الذي تتفتق منه شؤون المسلمين الدينية والدنيوية على حد سواء، وهو دار العبادة التي تعبّر بقبابها ومآذنها عن هوية المسلمين وحضارتهم، وهو رمزٌ لمحاربة الشرك ومعلمٌ للتوحيد وعبادة الله الواحد سبحانه لا شريك، وهو وقفٌ عام للمسلمين وليس لأحد بعينه، فالمساجد لله وحده، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [ الجن: 18].

المراجع:

1. البوطي، محمد سعيد، (1991)، فقه السيرة، الطَّبعة الحادية عشرة، 1991 م، دار الفكر، دمشق - سورية.

2. السّمهودي، أبو الحسن بن عبدالله، (1326ه)، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، دار المصطفى، طبعة القاهرة 1326 هـ.

3. عرجون، محمد الصادق، (1995)، محمَّد رسول الله، دار القلم، الطَّبعة الثانية، 1415 هـ 1995م.

4. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 415-434.

5. الغزالي، محمد، (1989)، فقه السِّيرة، الطَّبعة الرابعة، 1409 هـ 1989 م، دار القلم، دمشق - سورية.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022