التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (16)
"الحرِّيَّات وحقوق الإنسان في صحيفة المدينة "
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
دلّت صحيفة المدينة التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوحٍ وجلاءٍ على عبقريته صلى الله عليه وسلم في صياغة موادِّها، وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعضٍ؛ فقد كانت موادُّها مترابطةً وشاملةً، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقِّق العدالة المطلقة والمساواة التَّامَّة بين البشر، وأن يتمتَّع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم، بالحقوق والحرِّيَّات بأنواعها (الدقس، 1994، ص 421). فقد أعلنت الصَّحيفة: أنَّ الحرِّيات مصونةٌ؛ كحرية العقيدة والعبادة، وحقِّ الأمن... إلخ، فحرية الدِّين مكفولةٌ: «للمسلمين دينهم ولليهود دينهم». قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرآه فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256] وقد أنذرت الصَّحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصَّت الوثيقة على تحقيق العدالة بين النَّاس وعلى تحقيق مبدأ المساواة.
إنَّ الدَّولة الإسلاميَّة واجبٌ عليها أن تقيم العدل بين الناس، وتفسح المجال وتيسِّر السُّبل أمام كلِّ إنسانٍ - يطلب حقَّه - أن يصل إلى حقِّه بأيسر السُّبل وأسرعها، دون أن يكلِّفه ذلك جهداً أو مالاً، وعليها أن تمنع أيَّ وسيلةٍ من الوسائل، التي من شأنها أن تعوق صاحب الحقِّ من الوصول إلى حقِّه (أبو فارس، 1986، ص 58).
لقد أوجب الإسلام على الحكَّام أن يقيموا العدلَ بين النَّاس دون النّظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الاجتماعيَّة، فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحقِّ، ولا يهمُّه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8] والمعنى أنه: لا يحملنَّكم بُغض قومٍ على ظلمهم، ومقتضى هذا أنَّه لا يحملنَّكم حبُّ قوم على محاباتهم والميل إليهم (أبو فارس، 1986، ص 52).
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي - رحمه الله - معقِّباً على قوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأِعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [الشورى: 15] ما نصُّه: «يعني أنَّني مأمور بالإنصاف دون عداوةٍ، فليس من شأني أن أتعصَّب لأحدٍ أو ضدَّ أحدٍ، وعلاقتي بالنَّاس كلِّهم سواءٌ، وهي علاقة العدل والإنصاف، فأنا نصيرُ مَنْ كان الحقُّ في جانبه، وخصيم من كان الحق ضدَّه، وليس في ديني أيُّ امتيازات لأيِّ فردٍ كائناً مَنْ كان، وليس لأقاربي حقوقٌ، وللغرباء حقوقٌ أخرى، ولا للأكابر عندي مميِّزاتٌ لا يحصل عليها الأصاغر، والشُّرفاء والوضعاء عندي سواءٌ، فالحقُّ حقٌّ للجميع، والذَّنب والجُرْم ذنبٌ للجميع، والحرام حرامٌ على الكلِّ، والحلال حلالٌ للكُلِّ، والفرض فرض على الكلِّ، حتَّى أنا نفسي لست مستثنىً من سلطة القانون الإلهيِّ" (المودودي، 1977، ص 202).
إنَّ تربية المجتمع المسلم وإعداده لقيادة الإنسانيَّة بخصائصه؛ التي احتواها منهجه التربويُّ حفيَّةٌ أشدَّ الحفاوة بِشِرْعَةِ العدل، وإقامته بين الأفراد والجماعات والأمم والشُّعوب؛ لأنَّ العدل في شمول مواطنه هو دعامةُ القيادة الموفَّقة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135] .
وهذا نصٌّ قرآنيٌّ صريحٌ في تكليف المجتمع القياديِّ المسلم بتحقيق العدل على أتمِّ صوره وأكمل أحواله، فالعدل على النفس، وعلى أقرب ذوي القربى كالعدل مع غير النفس، وأبعد البُعَدَاء، وفي قوله تعالى﴿كُونُوا﴾: أمرٌ للمجتمع المسلم في جميع أفراده وجماعاته، أينما حلُّوا من أرض الله، وحيثما كانوا في أوطانهم المتقاربة أو المتباعدة، وهو أمر كينونة يُشْعر بمادَّته بالإلزام والالتزام، والتَّهيُّؤ والانبعاث للقيام بإقامة منهج العدل في الحياة، وفي قوله تعالى﴿قَوَّامِينَ﴾: إيماءٌ إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع المسلم من النهوض بإقامة معالم العدل بكلِّ ما أوتي من قوة مادِّية ورُوحية، مشمِّراً على ساق العزم في بذل الجهد والتحفُّز للعمل في سبيل توطيد دعائم العدل الاجتماعيِّ.
أمَّا مبدأ المساواة؛ فقد جاءت نصوصٌ صريحةٌ في الصَّحيفة حولها، منها: «أن ذمَّة الله واحدة»، وأن المسلمين «يجير عليهم أدناهم»، وأنَّ «المؤمنين بعضهم موالي بعضٍ دون النَّاس»، ومعنى الفقرة الأخيرة: أنَّهم يتناصرون في السَّراء والضَّرَّاء. ويعدُّ مبدأ المساواة أحد المبادئ العامَّة الَّتي أقرَّها الإسلام، وهو من المبادئ الَّتي تساهم في بناء المجتمع المسلم، ولقد أقرَّ هذا المبدأ، وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحديث، وممَّا ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أيها النَّاس! ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لأعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ، إلا بالتَّقوى. أَبَلَّغْتُ؟». إنَّ هـذا المبدأ كان من أهم المبادئ الَّتي جذبت الكثيـر من الشُّعـوب قديماً نحو الإسلام، فكان هذا المبدأ مصدراً من مصادر القوَّة للمسلمين الأوَّلين (متولّي، د.ت، ص 385).
وليس المقصود بالمساواة هنا، (المساواة العامَّة) بين النَّاس جميعاً في أمور الحياة كافَّةً، كما ينادي بعض المخدوعين، ويرون ذلك عدلاً؛ فالاختلاف في المواهب والقدرات، والتَّفاوت في الدَّرجات غايةٌ من غايات الخلق؛ ولكنَّ المقصود بالمساواةُ الَّتي دعت إليها الشَّريعة الإسلاميَّة، مساواةٌ مقيَّدةٌ بأحوالٍ فيها التَّساوي، وليست مطلقةً في جميع الأحوال، فالمساواة تأتي في معاملة النَّاس أمام الشَّرع والقضاء، والأحكام الإسلاميَّة كافَّةً، والحقوق العامَّة دون تفريق بسبب الأصل أو الجنس أو اللَّون أو الثروة أو الجاه أو غير ذلك.
إنَّ النَّاس جميعاً في نظر الإسلام سواسيةٌ، الحاكم والمحكوم، الرِّجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين النَّاس بسبب الجنس واللون أو النَّسب أو الطَّبقة، والحكَّام والمحكومون كلُّهم في نظر الشَّرع سواء؛ ولذلك كانت الدَّولة الإسلاميَّة الأولى، تعمل على تطبيق هذا المبدأ بين النَّاس وكانت تراعي أن مبدأ المساواة أمرٌ تعبُّديٌّ، تؤجر عليه من خالق الخلق سبحانه وتعالى، فتطبق هذا المبدأ من خلال:
ـ إسقاط الاعتبارات الطَّبقية والعُرْفية والقبليَّة والعنصريَّة والقوميَّة والوطنية والإقليمية، وغير ذلك من الشِّعارات الماحقة لمبدأ المساواة الإنسانيَّة، وإحلال المعيار الإلهيِّ بدلاً عنها للتَّفاضل، ألا وهو التَّقوى.
1. - ضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع، وأن لا يُراعى أحدٌ لجاهه أو سلطانه أو حسبه ونسبه؛ وإنَّما الفرص للجميع، وكلٌّ على حسب قدراته وكفاءاته ومواهبه وطاقته وإنتاجه (الصلابي، 2021، ص 458-468).
لقد اشتملت وثيقة المدينة على أتمِّ ما قد تحتاجه الدَّولة من مقوِّماتها الدُّستوريَّة والإداريَّة، وعلاقة الأفراد بالدَّولة، وظَلَّ القرآن يتنزَّل في المدينة عشر سنين، يرسم للمسلمين خلالها مناهج الحياة، ويرسي مبادئ الحكم وأصول السِّياسة، وشؤون المجتمع وأحكام الحرام والحلال، وأسس التَّقاضي وقواعد العدل، وقوانين الدَّولة المسلمة في الدَّاخل والخارج، والسُّنَّة الشريفة تدعم هذا وتشيده، وتفصِّلـه في تنوير وتبصرةٍ، فالوثيقة خطَّت خطوطاً عريضة في التَّرتيبات الدُّستورية، وتُعَدُّ في قمَّة المعاهدات الَّتي تحدِّد صلة المسلمين بالأجانب الكفَّار المقيمين معهم، في شيءٍ كثيرٍ من التَّسامح والعدل والمساواة، وعلى التَّخصيص إذ لُوحِظَ أنَّها أوَّل وثيقةٍ إسلاميَّة تُسَجَّل وتنفَّذ في أقوامٍ كانوا - منذ عهدٍ قريب وقبل الإسلام - أسرى العصبية القَبَلِيَّة، ولا يشعرون بوجودهم إلا من وراء الغلبة والتسلُّط، وبالتَّخوض في حقوق الآخرين وأشيائهم. لقد احتوت هذه الوثيقة، على المعاني الحضاريَّة في أسمى صورها، وما توافق النَّاس على تسميته اليوم بحقوق الإنسان (فيض الله ، 1996، ص 29-30).
المراجع:
2. أبو فارس، محمد عبدالقادر، (1986)، النِّظام السِّياسيُّ في الإسلام، دار الفرقان، الطَّبعة الثانية 1407هـ 1986 م.
3. الدقس، كامل سلامة، (1994)، دولة الرَّسول (ﷺ) من التَّكوين إلى التَّمكين، دار عمَّار - عمَّان، الطَّبعة الأولى، 1415هـ 1994م.
4. متولّي، عبد الحميد، (د.ت)، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، الطَّبعة الأولى، دار المعارف.
5. المودودي، أبو الأعلى، (1977)، الحكومة الإسلاميَّة، ترجمة أحمد إدريس، المختار الإسلامي للطِّباعة والنَّشر - القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1397هـ 1977م.
6. فيض الله، محمد فوزي، (1996)، صورٌ وعبرٌ من الجهاد النَّبويِّ في المدينة، دار القلم - دمشق، الدَّار الشَّاميَّة - بيروت، الطَّبعة الأولى، 1416هـ 1996م.
7. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 458-468.