السبت

1446-05-14

|

2024-11-16

التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (18)

"سنَّة التَّدافع وبدايات الجهاد في العهد النبوي"

بقلم: د. علي محمد الصَّلابي

 

إنَّ من السُّنن الَّتي تعامل معها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، سنَّةَ التَّدافع، وتظهر جليّاً في الفترة المدنيَّة مع حركة السَّرايا والبُعوث والغزوات الَّتي خاضها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ضدَّ المشركين، وهذه السنَّة متعلقةٌ تعلُّقاً وطيداً بالتَّمكين لهذا الدِّين، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز، وجاء التَّنصيص عليها في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]، وفي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].

ونلاحظ في آية البقرة: أنَّها جاءت بعد ذكر نموذج من نماذج الصِّراع بين الحقِّ والباطل، المتمثِّل هنا في طالوتَ وجنوده المؤمنين، وجالوتَ وأتباعه، ويذيِّل الله تعالى الآية بقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] ؛ وقد علّق الرازي على هذه الآية في تفسيره (مفاتيح الغيب) فقال: «ممَّا يفيد: أنَّ دفع الفساد بهذا الطَّريق، إنعامٌ يعمُّ النَّاسَ كلَّهم».

وتأتي آية الحج بعد إعلان الله تعالى: أنَّه يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم - سبحانه - بقتال عدوِّهم، ويختتم الآية بتقريرٍ لقاعدةٍ أساسيَّةٍ: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾.

لقد أدرك الصَّحابة هذه السُّنَّة، وعلموا: أنَّ القضاء على الباطل وتدميره، لابدَّ له من أمَّةٍ لها قيادةٌ ومنهجٌ، وقوَّةٌ تدمغ الباطل وتزهقه، وأيقنوا أنَّ الحقَّ يحتاج إلى عزائمَ تنهض به، وسواعدَ تمضي به، وقلوب تحنو عليه، وأعصاب ترتبط به. لقد علَّمهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كيف يتعاملون مع هذه السُّنَّة، فاستجابوا لأمر الله تعالى عندما أمرهم بالجهاد في سبيله، فقد شرع الله - عزَّ وجلَّ - الجهاد لهذه الأمَّة، وجعله فريضةً ماضيةً إلى يوم القيامة، لا يبطله جورُ جائرٍ، ولا عدلُ عادل، وما تركه قومٌ إلا أذلَّهم الله، وسلَّط عليهم عدوَّهم. وقد شرع الله - عزَّ وجلَّ - الجهاد على مراحل؛ ليكون أروضَ للنَّفس، وأكثر ملاءمةً للطَّبع البشري، وأحسن موافقةً لِسَيْرِ الدَّعوة، وطريقة تخطيطها (جزولي، 1996، ص 438)؛ فكان تشريع القتال على مراحل:

المرحلة الأولى: الحظر، وذلك عندما كان المسلمون في مكَّة، وكانوا يطالبون النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالإذن لهم في القتال، فيجيبهم صلى الله عليه وسلم : «اصبروا؛ فإنِّي لم أُؤمر بالقتال» [الكشاف (4/199)] (الألوسي، 1402ه، ص 6/108).

المرحلة الثانية: الإذن به من غير إيجابٍ. قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39] .

المرحلة الثالثة: وجوب قتال من قاتل المسلمين. قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190] .

المرحلة الرابعة: فرض قتال عموم الكفَّار على المسلمين. قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 36] .

إنَّ هذا التدرُّج في حكم القتال، كان يقتضيه وضعُ الدَّولة الإسلاميَّة الناشئة، وحالة الجيش الإسلاميِّ الَّذي كان اخذاً في التَّكوين، من حيث العَدد والعُدد والتَّدريب، وما إلى ذلك، فكان لابُدَّ من مُضيِّ فترةٍ من الوقت، يكون التعرُّضُ فيها لأعداء الدَّعوة الإسلاميَّة من كفَّار قريش - الَّذين اذوا المسلمين، واضطروهم إلى الخروج من ديارهم .. يكون فيها ذلك التعرُّض لأعداء الدَّعوة، إنَّما هو على سبيل الاختيار، لا على سبيل الإجبار، وذلك إلى أن يَصْلُب عودُ الدَّولة الإسلاميَّة، ويشتدَّ بأسُها، بحيث تستطيع الصُّمود أمام قوى الكفر في الجزيرة العربيَّة، حتَّى لو عملت قريش على تأليبها ضدَّ المسلمين، كما وقع فيما بعد! وحينئذٍ يأتي وجوب القتال، في حالةٍ تكون فيها أوضاع الدَّولة الإسلاميَّة، والجيش الإسلامي، على أُهْبَةِ الاستعداد لمواجهة الاحتمالات كافَّةً، هذا فيما يتَّصل بالقتال الَّذي يتعرَّض فيه المسلمون لكفَّار قريش، جاء النَّصُّ بالإذن، أي بالإباحة، لا بالوجوب، أمَّا في حالة ما لو تعرَّض المسلمون - وهم في دولتهم في المدينة - لهجوم الأعداء عليهم؛ فالقتال هنا فرضٌ، لا مجال فيه للخيار، وليس مجرَّد أمرٍ مأذون فيه، وذلك تطبيقاً لبيعة الحرب، بيعة العقبة الثَّانية، الَّتي أوجبت على الأنصار حرب الأحمر، والأسود من النَّاس، في سبيل الذَّود عن الدَّعوة الإسلاميَّة، وصاحبها صلى الله عليه وسلم ، وأتباعها (هيكل، 1993، ص 1/463-464).

ومع نزول الإذن بالقتال شرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في تدريب أصحابه على فنون القتال، والحروب، واشترك معهم في التَّمارين، والمناورات، والمعارك، وعَدَّ السَّعي في هذه الميادين من أجلِّ القربات، وأقدس العبادات؛ التي يُتَقَرَّب بها إلى الله - سبحانه وتعالى - وقد قام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بتطبيق قول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخرين مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [الآنفال: 60]، وكان منهجه صلى الله عليه وسلم في تكوين المجاهد المسلم، يعتمد على نهجين متوازنين: التَّوجيه المعنويِّ والتَّدريب العمليِّ.

إنَّ القرآن الكريم، والسُّنَّة النَّبويَّة المطهَّرة يعلمان المسلمين الإعداد على الأصعدة المعنويَّة، والمادِّيَّة كافَّةً، وأن يأخذوا حذرهم. قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴾ [النساء : 71] وهذا يدلُّ على وجوب العناية بالأسباب، والحذر من مكائد الأعداء، ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد؛ المتعلِّقة بالأسلحة، والأبدان، وتدريب المجاهدين على أنواع الأسلحة وكيفيَّة استعمالها، وتوجيههم إلى ما يعينهم على جهاد عدوهم، والسَّلامة من مكائده، والله - عزَّ وجلَّ - أطلق الأمر بالإعداد وأخْذِ الحذر، ولم يذكر نوعاً دون نوعٍ، ولا حالاً دون حالٍ، وما ذلك إلا لأنَّ الأوقات تختلف والأسلحة تتنوَّع، والعدوَّ يقلُّ ويكثر ويضعف ويقوى.

كان الجهاد في فهم الصَّحابة مدرسةً عظيمةً في تزكية النَّفس، وأيقنوا: أنَّه لكي يثمر الجهاد ثمراته المرجوَّة، فعليهم أن يخلصوا لله سبحانه في جهادهم، وأن يعملوا بما آمنوا به، ودعوة النَّاس إليه، فقد بيَّن لهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم خطورة الرِّياء في الأعمال. فقد قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ أوَّل النَّاس يُقْضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهدَ، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمَهُ، فعَرَفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتَّى استُشْهِدتُ، قال: كَذبت! ولكنَّك قاتلت؛ لأن يُقال: جَرِيءٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه؛ حتَّى أُلقي في النَّار، ورجلٌ تعَلَّمَ العلمَ، وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمَهُ، فَعَرَفها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلمَ، وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ! ولكنَّك تعلَّمت العلمَ؛ ليقال: عالمٌ، وقرأتَ القرآن؛ ليقال: هو قارىءٌ، فقد قيل، ثمَّ أُمر به، فسُحب على وجهه، حتَّى أُلقي في النَّار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمَهُ، فَعَرَفَها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن يُنْفَقَ فيه إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبتَ! ولكنَّك فعلت؛ ليقال: هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثمَّ أُمر به، فسُحب على وجهه، ثمَّ أُلقي في النَّار» [مسلم (1905) وأحمد (2/322) والنسائي (6/23)] .

ولذلك أخلص الصَّحابة في جهادهم لله تعالى؛ طمعاً في ثوابه، وخوفاً من عقابه، فكان كلامهم لله، وأنفقوا أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وقدَّموا أنفسهم دفاعاً عن دين الله، ومن أجل إعلاء كلمة الله تعالى.

المراجع:

1. الألوسي، محمود البغدادي، (1402ه)، روح المعاني (تفسير الألوسي)، دار الفكر، طبعة 1402هـ.

2. جزولي، أحزمي سامعون، (1996)، الهجرة في القرآن الكريم، مكتبة الرُّشد - الرِّياض، الطَّبعة الأولى 1417 هـ 1996 م.

3. هيكل، محمد خير، (1993)، الجهاد والقتال في السِّياسة الشَّرعية، الطَّبعة الأولى، 1414هـ 1993م، دار البيارق - عمَّان - بيروت.

4. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 491-520.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022