التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (50)
"إسلام عديِّ بن حاتم"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
عندما وقعت أخت عديِّ بن حاتم في أسر المسلمين؛ عاملها رسول الله (ﷺ) معاملةً كريمة، وبقيت معزَّزة مكرَّمةً، ثمَّ كساها النَّبيُّ (ﷺ)، وأعطاها ما تتبلَّغ به في سفرها، وعندما وصلت إلى أخيها في الشَّام شجَّعته على الذَّهاب لرسول الله (ﷺ)، فتأثَّر بنصيحتها، وقدم على المدينة (الحميدي، 1997، ص 8/81)، ونترك أبا عبيدة بن حذيفة يحدِّثنا عن قصَّة إسلام عديٍّ، قال أبو عبيدة بن حذيفة: كنت أُحَدَّثُ عن عديِّ بن حاتمٍ، فقلت: هذا عديٌّ في ناحية الكوفة، فلو أتيتُه، فكنت أنا الذي أسمع منه، فأتيتُه فقلت: إنِّي كنت أُحدَّث عنك حديثاً، فأردت أن أكون أنا الَّذي أسمعـه منك. قال: لـمَّا بعث الله - عزَّ وجلَّ – النَّبيَّ (ﷺ) فررت منه حتَّى كنت في أقصى أرض المسلمين ممَّا يلي الرُّوم.
قال: فكرهت مكاني الَّذي أنا فيه حتَّى كنت له أشدَّ كراهيةً له منِّي من حيث جئت، قال: قلت: لاتينَّ هذا الرَّجل، فوالله! إن كان صادقاً، فلأسمعنَّ منه، وإن كان كاذباً ما هو بضائري.
قال: فأتيتُه، واستشرفني النَّاس، وقالوا: عديُّ بن حاتمٍ، عديُّ بن حاتمٍ، قال: أظنُّه قال ثلاث مرارٍ، قال: فقال لي: «يا عديُّ بن حاتمٍ! أسلم؛ تسلم». قال: قلت: إنِّي من أهل دينٍ، قال: «يا عديُّ بن حاتمٍ! أسلم؛ تسلم» قال: قلت: إنِّي من أهل دينٍ، قالها ثلاثاً، قال: «أنا أعلم بدينك منك» قال: قلت: أنت أعلم بديني منِّي؟! قال: «نعم» قال: «أليس ترأس قومك؟» قال: قلت: بلى! قال: فذكر محمَّدٌ الرَّكوسِيَّة (ابن كثير، 1988، ص 2/259) قال: كلمة التمسها يقيمها، فتركها، قال: «فإنَّه لا يحلُّ في دينك المرباع» - أي: ربع الغنيمة يأخذه سيِّد القوم قبل القسمة- .
قال: فلـمَّا قالها؛ تواضعتُ لها، قال: «وإنِّي قد أرى أنَّ ممَّا يمنعك خصاصةً تراها ممَّن حولي، وأن النَّاس علينا إلباً واحداً، هل تعرف مكان الحِيرة؟» قال: قلت: قد سمعت بها، ولم اتها. قال: «لتوشكنَّ الظَّعينة أن تخرج منها بغير جوارٍ حتَّى تطوف بالكعبة، ولتوشكنَّ كنوز كسرى بن هرمز تُفتح» قال: قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «كسرى بـن هرمز - ثلاث مرات -، وليوشكنَّ أن يبتغي مَنْ يقبل ماله منه صدقةً فلا يجد» قال: فلقـد رأيت اثنتين: قد رأيت الظَّعينـة تخرج من الحيرة بغير جوارٍ حتَّى تطوف بالكعبة، وكنت في الخيل الَّتي أغارت على المدائن، وايم الله! لتكونن الثَّالثة إنَّه لحديث رسول الله(ﷺ) حدَّثنيه. [البخاري (3595)، وأحمد (4/257)] (العلي، 1998، ص 580).
وفي هذه القصَّة دروس، وعبرٌ كثيرةٌ منها:
1 - كان عديُّ وهو مقبلٌ على رسول الله (ﷺ) يحمل في تصوُّره أنَّه أحد رجلين: إمَّا نبيُّ أو مَلِكٌ، فلـمَّا رأى وقوف رسول الله (ﷺ) مع المرأة الضَّعيفة الكبيرة مدَّةً طويلةً شعر بِخُلُق التَّواضع، وانسلخ مِنْ ذهنه عامل المَلِكِ، واستقرَّ في تصوُّره عامل النُّبوَّة.
2 - كان النَّبيُّ (ﷺ) موفقاً حينما انتقد عَدِيّاً في مخالفته للدِّين الَّذي يعتنقُه، حين حصل لعدي اليقين بنبوَّة رسول الله (ﷺ)، الَّذي يعلم من دينه ما لا يعلمه النَّاس مِنْ حوله.
3 - لـمَّا ظهر للنَّبيِّ (ﷺ) أنَّ عديّاً قد أيقن بنبوَّته؛ تحدَّث عن العوائق الَّتي تحول بين بعض الناس واتِّباع الحقِّ حتَّى مع معرفتهم بأنَّه حقٌّ، ومنها: ضعف المسلمين وعدم اتساع دولتهم، وما هم فيه من الفقر، فأبان له النَّبيُّ (ﷺ) بأنَّ الأمن سيشمل البلاد حتَّى تخرج المرأة من العراق إلى مكَّة من غير أن تحتاج إلى حماية أحدٍ، وأنَّ دولة الفرس ستقع تحت سلطان المسلمين، وأنَّ المال سيفيض حتَّى لا يقبله أحدٌ، فلـمَّا زالت عن عديٍّ هذه المعوِّقات؛ أسلم.
4 - كان النَّبيُّ (ﷺ) موفقاً في دعوته، حيث كان خبيراً بأدواء النُّفوس، ودوائها، ومواطن الضَّعف فيها وأزمَّة قيادها، فكان يلائم كلَّ إنسانٍ بما يلائم علمه وفكره، وما ينسجم مع مشاعره وأحاسيسه، ولذلك أثَّر في زعماء القبائل، ودخل النَّاس في دين الله أفواجاً (الحميدي، 1997، ص 8/58-86).
5 - وجد عديُّ سماتِ النُّبوَّة الصَّادقة في مظهر معيشته (ﷺ) وحياته، ووجد هذه السِّمات أيضاً في لون حديثه وكلامه، ووجد مصداق ذلك فيما بعد، في وقائع الزَّمن والتَّاريخ، فكان ذلك سبباً في إسلامه وزيادة يقينه، وانخلاعه عن زخارف الحياة الدُّنيا ومظاهر الأبَّهة، والتَّرف الَّتي كان قد أسبغها عليه قومُه (البوطي، 1991، ص 321).
المراجع:
1. ابن كثير، (1988)، البداية والنِّهاية، الطَّبعة الأولى - 1408 هـ 1988 م، دار الرَّيان للتُّراث.
1. البوطي، محمد سعيد، فقه السيرة، الطَّبعة الحادية عشرة، 1991 م، دار الفكر، دمشق - سورية.
2. الحميدي، عبدالعزيز، (1997)، التَّاريخ الإسلاميُّ - مواقف وعبرٌ، دار الدَّعوة - الإسكندريَّة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1997 م.
3. العلي، إبراهيم، (1998)، صحيح السِّيرة النَّبويَّة، دار النفائس، الطَّبعة الثَّالثة، 1408هـ 1998م.
4. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 457-459.