التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (13)
"الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
لـمَّا بايعتْ طلائعُ الخير ومواكبُ النُّور من أهل يثرب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على الإسلام والدِّفاع عنه؛ ثارت ثائرة المشركين، فازدادوا إيذاءً للمسلمين، فأذن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، وكان المقصود من الهجرة إلى المدينة، إقامة الدَّولة الإسلاميَّة؛ الَّتي تحمل الدَّعوة وتجاهد في سبيلها؛ حتَّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدِّين كلُّه لله (البر، 1997، ص 33 - 34).
إنَّ الهجرة إلى المدينة سبقها تمهيدٌ وإعدادٌ، وتخطيط من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بتقدير الله تعالى وتدبيره، وكان هذا الإعداد في اتِّجاهين: إعداد في شخصية المهاجرين، وإعدادٌ في المكان المهاجَرِ إليه. ولم تكن الهجرة نزهةً أو رحلةً يروِّح فيها الإنسان عن نفسه؛ ولكنَّها مغادرةُ الأرض والأهل ووشائج القربى، وصلات الصَّداقة والمودَّة، وأسباب الرِّزق، والتَّخلِّي عن كلِّ ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهدٍ كبيرٍ، حتَّى وصل المهاجرون إلى قناعةٍ كاملةٍ بهذه الهجرة، ومن تلك الوسائل والدوافع: التَّربية الإيمانيَّة العميقة، والاضطهاد الَّذي أصاب المؤمنين، حتَّى وصلوا إلى قناعةٍ كاملةٍ بعدم إمكانية المعايشة مع الكفر.
لقد تناول القرآن المكِّيِّ التَّنويه بالهجرة، ولفت النَّظر إلى أنَّ أرض الله واسعةٌ. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10] .
ثمَّ تلا ذلك نزولُ سورة الكهف، والَّتي تحدَّثت عن الفتية الذين آمنوا بربهم، وعن هجرتهم من بلدهم إلى الكهف، وهكذا استقرَّت صورةٌ من صور الإيمان في نفوس الصَّحابة، وهي ترك الأهل والوطن من أجل العقيدة.
ثم تلا ذلك آيات صريحةٌ تتحدَّث عن الهجرة في سورة النَّحل، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخرةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: 41 - 42] . وفي أواخر السُّورة يؤكِّد المعنى مرَّةً أخرى بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: 110] . وكانت الهجرة السابقة إلى الحبشة تدريباً عمليّاً للصحابة الكرام على ترك الأهل والوطن (الشامي، 1992، ص 118).
بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام يعدون للهجرة على يثرب، ونلاحظ أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، لم يسارع بالانتقال إلى الأنصار من الأيام الأولى؛ وإنَّما أخَّر ذلك لأكثر من عامين؛ حتَّى تأكَّد من وجود القاعدة الواسعة نسبيّاً، كما كان في الوقت نفسه يتمُّ إعدادها في أجواء القرآن الكريم، وخاصَّةً بعد انتقال مصعب رضي الله عنه إلى المدينة. وقد تأكَّد أنَّ الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كماله، وذلك بطلبهم هجرة الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم إليهم، كما كانت المناقشات الَّتي جرت في بيعة العقبة الثَّانية، تؤكِّد الحرص الشَّديد من الأنصار على تأكيد البيعة، والاستيثاق للنَّبي صلى الله عليه وسلم بأقوى المواثيق على أنفسهم، وكان في رغبتهم أن يميلوا على أهل مِنًى ممَّن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسيافهم؛ لو أذن الرَّسول الكريم بذلك، ولكنَّه قال لهم: «لم نؤمر بذلك» (الشامي، 1992، ص 120 - 121).
وهكذا تمَّ الإعداد لأهل يثرب؛ ليكونوا قادرين على استقبال المهاجرين، وما يترتَّب على ذلك من تَبِعَات. وكان التَّوجيه إلى المدينة من الله تعالى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لـمَّا صدر السَّبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طابت نفسه، وقد جعل الله له منعةً وقوماً أهل حربٍ وعدَّةٍ ونجدةٍ، وجعل البلاء يشتدَّ على المسلمين من المشركين؛ لما يعلمون من الخروج، فضيَّقوا على أصحابه وتعبَّثوا بهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشَّتم والأذى، فشكا ذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنـوه في الهجرة، فقال: « قـد أُريت دار هجرتكم، أريت سبخةً ذات نخلٍ بين لابتين - وهما الحرَّتان - ولو كانت السَّراة أرض نخلٍ وسباخٍ؛ لقلت: هي، هي» [البخاري (2297) والبيهقي في الدلائل (2/459)]. ثمَّ مكث أياماً، ثمَّ خرج إلى أصحابه مسروراً فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها» فجعل القوم يتَّجهون ويتوافقون، ويتواسون ويخرجون، ويخفون ذلك، فكان أوَّلَ من قدم المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو سلمة بن عبد الأسد، ثمَّ قدم بعده عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمَة، فهي أوَّل ظعينةٍ قدمت المدينة، ثمَّ قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً، فنزلوا على الأنصار في دورهم، فآووهم ونصروهم وآسوهم.
وكان سالم مولى أبي حُذيفة، يؤمُّ المهاجرين بقباء، قبل أن يقدم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلـمَّا خرج المسلمون في هجرتهم إلى المدينة، كَلِبَتْ قريشٌ عليهم، وحربوا واغتاظوا على مَنْ خرج من فتيانهم، وكان نفرٌ من الأنصار بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة الآخرة، ثمَّ رجعوا إلى المدينة، فلـمَّا قدم أوَّل مَنْ هاجر إلى قُباء؛ خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة، حتَّى قدموا مع أصحابه في الهجرة، فهم مهاجرون أنصاريُّون، وهم: ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب بن كلدة، والعباس بن عبادة بن نضلة، وزياد بن لبيد، وخرج المسلمون جميعاً إلى المدينة، فلم يبقَ بمكَّة فيهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعليٌّ، أو مفتونٌ أو مريضٌ أو ضعيفٌ عن الخروج [ابن سعد (1/325)].
لقد كان من نتائج إيمان الأنصار ومبايعتهم وتعهُّدهم بالنُّصرة أن دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الهجرة إلى المدينة، كما كان من نتائج ذلك أن ظهرت ظاهرةٌ عظيمةٌ من التَّكافل بين المسلمين، ففتحت بيوت الأنصار أبوابها وقلوب أصحابها لوفود المهاجرين، واستعدَّت لاحتضانهم رجالاً ونساءً؛ إذ أصبح المسكن الواحد يضمُّ المهاجر والأنصاريَّ، والمهاجرة والأنصاريَّة، يتقاسمون المال والمكان، والطَّعام والمسؤوليَّة الإسلاميَّة. فهذه المقاسمة، وهذا التَّكافل الاجتماعيُّ كان من أهمِّ العناصر الَّتي مهَّدت لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين معه وبعده، إقامةً طيِّبةً تنبض بالإيثار على النَّفس، وبودِّ الأخوَّة الصَّادقة المؤمنة (البر، 1997، ص 119).
بهذه الروح العالية، والإيمان الوثيق، والصِّدق في المعاملة تمَّت المؤاخاة، وتمَّ الوفاق بين المهاجرين والأنصار، وقد يحدث تساؤلٌ، فيقال: لماذا لم نسمع، ولم تسجِّل المصادر، ولم تكتب المراجع أنَّ خلافاتٍ وقعت في هذه البيوت؟ وأين النِّساءُ وما اشتهرن به من مشاكسات؟
إنَّه الدِّين الحقُّ؛ الَّذي جعل تقوى الله أساساً لتصرُّف كلِّ نفسٍ، والأخلاق السَّامية الَّتي فرضت الأخوة بين المسلمين ونصرة الدَّعوة، إنَّها المبايعة وأثرها في النُّفوس، إنَّه الصِّدق والعمل من أجل الجماعة، خوفاً من العقاب ورهبةً من اليوم الآخر، ورغبةً في الثواب وطمعاً في الجنة، إنَّه دفء حضانة الإيمان، واستقامة النَّفس والسُّلوك وصدق الطَّويَّة، فكلُّ مَنْ أسلم وكلُّ من بايع، وكلُّ من أسلمت وبايعت، يعملون جميعهم ما يؤمرون به، ويخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السِّر والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت المناصرةُ المهاجرةَ، فالكلُّ يعمل من أجل مصلحة الكلِّ، فهذا هو التَّكافل الاجتماعيُّ في أجلى صورةٍ وأقدس واقعةٍ، رغب الكلُّ في الثَّواب؛ حتَّى إنَّ الواحد منهم يخاف ذهاب المناصر بالأجر كلِّه (كركر، 1993، ص 118).
وإن كثيراً من المسلمين اليوم مهاجرون ومهجّرون من ديارهم إلى بلاد غيرهم في أرض الله الواسعة، وبعضهم نزح وهاجر ضمن بلاد المسلمين من بلدٍ إلى آخر، أو من مدينة إلى أخرى، فما أحرى المسلمين اليوم أن يقتدوا بما كان عليه الأنصار في المدينة المنورة من العمل بمقتضى الأخوة في الله والدين، وبما تقتضيه الأخلاق الإسلامية كالمروءة والكرم وحسن المواساة لإخوانهم المهجرين المستضعفين.
المراجع:
1. البر، عبدالرحمن، (1997)، الهجرة النَّبويَّة المباركة، دار الكلمة، المنصورة - مصر، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1997 م.
2. كركر، عصمة الدين، (1993)، المرأة في العهد النَّبويِّ، دار الغرب الإسلاميِّ، الطَّبعة الأولى، 1993م بيروت.
3. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 349-364.
4. الشامي، صالح أحمد، (1992)، السِّيرة النَّبويَّة تربية أمَّةٍ وبناء دولةٍ، المكتب الإسلامي، الطَّبعة الأولى، 1412هـ 1992م.