الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

قيم قرآنية ..

(الابتلاء) … سنّة الله في تمحيص العباد

بقلم: د. علي محمد الصلابي

(الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) (خاص بالمنتدى)

إن من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتخلف أن الابتلاء سنة مقدرة على العباد إلى يوم الميعاد فلا مرد لها ولا سبيل إلى إيقافها، قال تعالى: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ** وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ))  العنكبوت: 2-3″، فالابتلاء من مقاصد الخلق، والبلاء في عصرنا أشدّ من ذي قبل، وما من إنسان إلا وقد ابتلي بنوع من أنواع البلايا ما بين معجّل ومؤجل. والابتلاء لا يكون إلا بتحمل المكاره والمشاق، فالاختبار يكون بذلك، وقد أخبر الله تعالى أنه لا بدّ أن يبتلي عباده بالمحن ليميز الصادق من الكاذب والجازع من الصابر، لأن السراء لو استمرت للناس ولم يحصل معها محنة لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر، فالمحن والفتن تمحّص ولا تهلك (الابتلاء السنة الباقية، الحاشدي، ص 5 ـ 9ـ 13 بتصرف).

ولا يقتصر البلاء على الكافر دون المسلم، ولا على المسلم دون الكافر، وإنما يشمل جنس الإنسان مسلماً كان أو كافراً مادام يعيش على ظهر الأرض التي خلقها الله لتكون داراً لاختبار الإنسان، لأنه المخلوق الذي قبل الأمانة وتحمل تبعاتها في الوقت التي أبت جميع المخلوقات أن يحملنها، والابتلاء يكون في الخير والشر، وبالسراء والضراء، وبالسعادة والشقاء، وبالراحة والرفاهية، والكد والتعب والهمّ والغمّ، فيبتلى الإنسان بما يسره ويسوؤه، حيث يجب عليه أن يكون شاكراً في السراء والعطاء صابراً عند الضراء والمنع والحرمان، وطالما أن الابتلاء أمر حتمي لا خلاص ولا فكاك منه، فإن من رحمة الله تبارك وتعالى أنّه نوّع قدر البلاء بحسب طاقة كل إنسان، فالناس متفاوتون فيما بينهم، يقول الحسن البصري رحمه الله: تساوى الناس في العافية فإذا نزل البلاء تباينوا، فلا يلبس الشيطان على أحد أن الله اختصه بالمصائب والبلايا، فالله تعالى لا يظلم أحداً، فاعلم أنه لا يخلو من البلاء أحد، وانظر حولك وتيقن من أن ما ابتلاك الله به لا يزيد على طاقتك بل تستطيع أن تسعه وتتحمله، فاستعن بالله ولا تعجز( الابتلاء، جبر، ص 2-6 بتصرف). 

إلا أن الناس في استقبال المصائب والبلايا يختلفون، فمنهم من يستقبلها بالسخط والجزع، قال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)) الحج: 11″، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا شرّ المنازل وأدناها، ومنهم من يصبر ويصابر ويرضى بقضاء الله، والمراد بالرضا أن يرضى الإنسان بالمصيبة، وهي مرتبة أعلى من الصبر بحيث يكون وجودها وعدمها سواء بالنسبة للمؤمن، ومنهم من يشكر الله ويحمده فهذا أكمل الأحوال وأعلاها، وذلك أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة أو محنة، ليكون في عباد الله الشاكرين، فيستشعر أن هناك مصائب أعظم منها، وأن مصائب الدنيا أهون من مصائب الدين، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وأن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته، لقوله صلى الله عليه وسلم: مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه (متفقٌ عَلَيهِ)، ومن الحكم الظاهرة للابتلاء هي أن تتحقق العبودية لله رب العالمين، وليمحص المؤمنين عن المنافقين ويميز الخبيث من الطيب، ويعدّ المؤمنين للتمكين في الأرض، وللتخلص من آفات النفوس كالكبر والعجب بالنفس (الضوابط الإيمانية والعملية لمواجهة الابتلاء ، الصيني، ص108، بتصرف).

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:” فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه: أهَّله لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه (زاد المعاد، ابن القيم، (م4 / ص195).

وهنا تأتي أهمية الإيمان بالقضاء والقدر، والتي تتجلى ثمارها العظيمة في التحمل والصبر والاحتساب عند نزول البلايا والمصائب، فالمؤمن بالقضاء والقدر لا يسيطر عليه الجزع والفزع، ولا يستبد به السخط والهلع، بل يستقبل مصائب الدهر بثبات كثبات الجبال، فقد استقر في أعماقه قول الله تعالى :”مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ (الحديد: 22 ـ 23)، فالإيمان بالقضاء والقدر من أعظم الأدوية التي تعين المؤمن على الشدائد والمصائب والبلايا، فهذه ثمرة من أعظم ثمرات الإيمان بالقدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس أفراد الأمة الإسلامية هذا الإيمان، ويرشدهم ويعلمهم كيف يتعاملوا مع المصائب والشدائد، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:  كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فأرْسَلَتْ إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ، وَتُخْبِرُهُ أنَّ صَبِيًّا لَهَا، أَوِ ابْنًا لَهَا في المَوْتِ، فَقالَ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إلَيْهَا، فأخْبِرْهَا: أنَّ لِلَّهِ ما أَخَذَ وَلَهُ ما أَعْطَى، وَكُلُّ شيءٍ عِنْدَهُ بأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ (مسلم: 923)، ففي قوله صلى الله عليه وسلم: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى“: معناه الحثّ على الصبر والتسليم لقضاء الله تعالى وتقديره أن هذا الذي أخذ منكم كان له لا لكم، فلم يأخذ إلا ما هو له، فينبغي أن لا تجزعوا كما لا يجزع من استردت منه وديعة، وقوله صلى الله عليه وسلم :”وله ما أعطى معناه أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه، بل هو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، وقوله صلى الله عليه وسلم: وكل شيء عنده بأجل مسمى معناه: اصبروا ولا تجزعوا، فإن كل من قد انقضى أجله المسمى فمحال تقدمه أو تأخره عنه، فإذا علمتم هذا كله فأصبروا واحتسبوا ما نزل بكم (الإيمان بالقدر، الصلابي، ص283).

المراجع:

  • ـ الابتلاء السنة الباقية، الشيخ فيصل الحاشدي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2021م.
  • الإيمان بالقدر، علي الصلابي، دار الأصالة، ط1، 2023م.
  • ـ الابتلاء، محمد سلامة جبر، موقع شبكة الألوكة.
  • ـ الضوابط الإيمانية والعملية لمواجهة الابتلاء على ضوء سيرة النبي، د. أمل الصيني، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، المجلد السابع والثلاثون، 2019م
  • زاد المعاد، ابن القيم، ( 4/ 195 ).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022