التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (12)
" بيعة العقبة الثَّانية "
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
بعد وصول مصعب رضي الله عنه إلى مكَّة قبيل موسم الحجِّ، من العام الثَّالث عشر للبعثة، ونقله للصُّورة الكاملة الَّتي انتهت إليها أوضاع المسلمين هناك، والقدرات والإمكانات المتاحة، وكيف تغلغل الإسلام في جميع قطاعات الأوس والخزرج، وأنَّ القوم جاهزون لبيعةٍ جديدة قادرةٍ على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعته. كان اللِّقاء الثاني الَّذي غيَّر مجرى التَّاريخ، وهو بيعة العقبة الثانية، في موسم الحجِّ في السَّنة الثَّالثة عشرة من البعثة؛ حيث حضر لأداء مناسك الحجِّ بضعٌ وسبعون نفساً من المسلمين، من أهل يثرب، فلـمَّا قدموا مكَّة؛ جرت بينهم وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم اتصالاتٌ سرِّيَّة، أدَّت إلى اتِّفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيَّام التَّشريق في الشِّعْب الَّذي عند العقبة، حيث الجمرة الأولى من مِنًى، وأن يتمَّ هذا الاجتماع في سرِّيَّةٍ تامَّةٍ في ظلام اللَّيل.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «... فقلنا: حتَّى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يُطْرَد في جبال مكَّة ويُخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتَّى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شِعْب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجلٍ ورجلين؛ حتَّى توافينا فقلنا: يا رسول الله! علام نُبايعك؟
قال: «تبايعوني على السَّمع والطَّاعة في النَّشاط والكسل، والنَّفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدمت عليكم ممَّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنَّة».
قال: فقمنا إليه، فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - فقال: رويداً يا أهل يثرب! فإنَّا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم: أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ إخراجه اليوم مفارقةُ العرب كافَّةً، وقتلُ خياركم، وأن تعضَّكم السُّيوف، فإمَّا أنتم قومٌ تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإمَّا أنتم تخافون من أنفسكم جُبَيْنَةً؛ فبينوا ذلك، فهو أعذر لكم عند الله! قالوا: أمط عنَّا يا أسعد! فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً! ولا نَسْلِيها (أي: نتركها)! قال: فقمنا إليه، فبايعناه، فأخذ علينا وشَرَطَ، ويعطينا على ذلك الجنَّة» (العمري، 1992، ص 1/199).
وهكذا بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطَّاعة، والنُّصرة والحرب؛ لذلك سمَّاها عبادة بن الصَّامت بيعة الحرب، أمَّا رواية الصَّحابي كعب بن مالك الأنصاريِّ - وهو أحد المبايعين في العقبة الثَّانية - ففيها تفصيلاتٌ مهمَّةٌ، قال: «خرجنا في حجَّاج قومنا من المشركين وقد صلَّينا وفقهنا، ثمَّ خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التَّشريق، وكنَّا نكتم مَنْ معنا من المشركين أمرنا، فَنِمْنَا تلك اللَّيلة مع قومنا في رحالنا، حتَّى إذا مضى ثلثُ اللَّيل؛ خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نتسَّلل تسلُّلَ القَطَا مستخفين، حتَّى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثةٌ وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا: نُسَيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرٍو، فاجتمعنا في الشِّعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى جاءنا، ومعه العبَّاس بن عبد المطلب، وهو يومئذٍ على دين قومه، إلا أنَّه أحبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثَّق له، فلـمَّا جلس؛ كان أول متكلِّم العبَّاس بن عبد المطلب؛ فبيَّن أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم في منعةٍ من قومه بني هاشم، ولكنَّه يريد الهجرة إلى المدينة، ولذلك فإنَّ العباس يريد التأكُّد من حماية الأنصار له، وإلا؛ فَلْيَدَعُوه، فطلب الأنصار أن يتكلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ لنفسه، ولربِّه ما يحبُّ من الشُّروط.
قال: «أبايعكم على أن تمنعوني ممَّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فأخذ البراء بن مَعْرور بيده، ثمَّ قال: نعم والَّذي بعثك بالحق! لنمنعنَّك ممَّا نمنع منه أُزُرَنا، فبايِعْنا يا رسولَ الله! فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحَلقة – أي السِّلاح-، ورثناها كابراً عن كابر. فقاطعه أبو الهيثم بن التَّـيِّهان متسائلاً: يا رسول الله! إنَّ بيننا وبين القوم -يعني: اليهود- حبالاً، وإنَّا قاطعوها، فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك، ثمَّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعَنا؟ فتبسَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال: «بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الهَدْمُ، أنا منكم، وأنتم منِّي، أحارب مَنْ حاربتم، وأسالم مَنْ سالمتم». ثمَّ قال: «أخْرِجُوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً؛ ليكونوا على قومهم بما فيهم». فأخْرَجوا منهم اثني عشر نقيباً: تسعةً من الخزرج، وثلاثةً من الأوس.
وقد طلب الرَّسول صلى الله عليه وسلم منهم الانصراف إلى رحالهم، وقد سمعوا الشَّيطان يصرخ منذراً قريشاً، فقال العبَّاس بن عُبادة بن نَضْلة: والله الَّذي بعثك بالحق! إن شئتَ؛ لنميلنَّ على أهل مِنًى غداً بأسيافنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لم نُؤْمَر بذلك؛ ولكن ارجعوا إلى رحالكم». فرجعوا إلى رحالهم، وفي الصَّباح جاءهم جمعٌ من كبار قريش، يسألونهم عمَّا بلغهم من بيعتهم للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ودعوتهم له للهجرة، فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنَّهم لم يفعلوا، والمسلمون ينظرون إلى بعضهم (ابن هشام، د.ت، ص1/61، العمري، 1992، ص 1/201).
لقد كانت هذه البيعة العظمى بملابساتها، وبواعثها، وآثارها، وواقعها التَّاريخي، (فتحَ الفتوح)؛ لأنَّها كانت الحلقة الأولى في سلسلة الفتوحات الإسلاميَّة، الَّتي تتابعت حلقاتها في صورٍ متدرِّجة، مشدودةٍ بهذه البيعة؛ منذ اكتمل عقدها، بما أخذ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عهودٍ ومواثيق على أقوى طليعةٍ من طلائع أنصار الله؛ الَّذين كانوا أعرف النَّاس بقدر مواثيقهم وعهودهم، وكانوا أسمح النَّاس بالوفاء بما عاهدوا الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه؛ من التَّضحية، مهما بلغت متطلبَّاتها من الأرواح والدِّماء والأموال، فهذه البيعة في بواعثها هي بيعة الإيمان بالحقِّ ونصرته، وهي في ملابساتها قوَّةٌ تناضل قوًى هائلةً تقف متألِّبةً عليها، ولم يَغِبْ عن أنصار الله قدرها ووزنها، في ميادين الحروب والقتال، وهي في آثارها تشميرٌ ناهضٌ بكلِّ ما يملك أصحابها من وسائل الجهاد القتاليِّ في سبيل إعلاء كلمة الله، على كلِّ عالٍ مستكبرٍ في الأرض؛ حتَّى يكون الدِّين كلُّه لله، وهي في واقعها التَّاريخيِّ صدقٌ، وعدلٌ، ونصرٌ، واستشهاد، وتبليغٌ لرسالة الإسلام» (عرجون، 1995، ص 2/400).
إنَّ حقيقة الإيمان، وأثره في تربية النفوس، تظهر آثارها في استعداد هذه القيادات الكبرى لأن تبذل أرواحها ودماءها في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون لها الجزاء في هذه الأرض كسباً ولا منصباً، ولا قيادةً ولا زعامةً، وهم الَّذين أفنوا عشرات السِّنين من أعمارهم، يتصارعون على الزَّعامة والقيادة، إنَّه أثر الإيمان بالله، وبحقيقة هذا الدِّين، عندما يتغلغل في النُّفوس. فنسأله تعالى أن يثبّت إيماننا ويزيد يقيننا حتى نكون أهلاً لخدمة هذا الدين العظيم والاستعداد للتضحية في سبيل الله تعالى وفي سبيل الدعوة (الغضبان، 1998، ص2/103).
المراجع:
1. ابن هشام، أبو محمد بن عبدالملك، (د.ت)، السِّيرة النَّبويَّة، دار الفكر، بدون تاريخ.
2. عرجون، محمد الصادق، (1995)، محمَّد رسول الله، دار القلم، الطَّبعة الثانية، 1415 هـ 1995م.
3. العمري، أكرم، (1992)، السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، الطَّبعة الأولى 1412هـ 1992م مكتبة المعارف والحِكَم بالمدينة المنوَّرة.
4. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 335-341.
5. الغضبان، منير، (1998)، التَّربية القياديَّة، دار الوفاء - المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.