الأحد

1446-07-19

|

2025-1-19

التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (34)

"التضحيات شرطٌ لنجاح الدعوة وتحقيق النصر"

بقلم: د. علي محمد الصَّلابي

 

كان في فاجعة الرجيع دروس عظيمة، فالحادثة رغم مشهدها المأساوي والمؤلم إلا أنها تحمل في طياتها الدروس والعبر التي لا بدّ لكل مسلم أن يستفيد منها، فقد رأينا كيف غَدَرَ حلفاء هُذَيْل بأصحاب الرَّجِيع من القُـرَّاء، الَّذين أرسلهم النَّبيُّ (ﷺ) معلِّمين، ومفقِّهين في غزوة الرَّجيع، وتكرر ذلك المشهد المؤلم حين غدر عامر بن الطُّفيل بالسَّبعين القرَّاء، الَّذين استنفروا للدَّعوة إلى الله، والتَّفقيه في دين الله، في مجزرة رهيبةٍ دنيئةٍ، وذلك في يوم بئر معونة.

وقد تركتْ هذه المصائب في نفس رسول الله (ﷺ) آثاراً غائرةً بعيدة الأعماق، حتَّى إنَّه لبث شهراً يَقْنُت في صلاة الفجر داعياً على قبائل سُلَيْم؛ الَّتي عَصَتِ اللهَ ورسولَه (ﷺ) (فيض الله، 1996، ص 151)؛ فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قنت رسول الله (ﷺ) شهراً متتابعاً في الظُّهر والعصر، والمغرب والعشاء، وصلاة الصُّبح، في دبر كلِّ صلاة، إذا قال: «سمع اللهُ لمن حمده» من الرَّكعة الأخيرة، يدعو على أحياءٍ من بني سُلَيم؛ على رِعْلٍ وذَكْوَانَ وعُصَيَّةَ ويؤمِّنُ مَنْ خلفه. [أحمد (1/301 - 302)، وأبو داود (443)، وابن خزيمة (618)].

لكن ذلك لم يفتَّ في عَضُدِ المسلمين، ولا فتَّر من حميَّتهم في الدَّعوة إلى الله، ولا كسر من عزمهم في مواصلة الدَّعوة وخدمة دين الله، لأنَّ مصلحة الدَّعوة فوق الأنفس والدِّماء؛ بل إنَّ الدعوة لا يكتب لها النَّصر؛ إذا لم تُبْذَلْ في سبيلها الأرواحُ، ولا شيء يمكِّن للدَّعوة في الأرض مثل الصَّلابة في مواجهة الأحداث والأزمات، واسترخاص التَّضحيات من أجلها.

إنَّ الدَّعوات بدون قوى أو تضحيات، يوشك أن تكون بمثابة فلسفات وأخيلةٍ، تلفُّها الكتب، وترويها الأساطير، ثمَّ تُطْوَى مع الزَّمن.

إن حادثتي الرَّجيع وبئر مَعُونة، تُبَصِّراننا بالمسؤولية الضَّخمة عن دين الله والدَّعوة إليه، فقد وضعت نُصْبَ أعيننا نماذج من التَّضحيات العظيمة الَّتي قدَّمها الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم، من أجل عقيدتهم ودينهم، ومرضاة ربِّهم.

إنَّ للسَّعادة ثمناً، وإنَّ للرَّاحة ثمناً، وإنَّ للمجد والسُّلطان ثمناً، وثمن هذه الدَّعوة دمٌ زكيٌّ يُراق في سبيل الله، من أجل تحقيق شرع الله ونظامه، وتثبيت معالم دينه على وجه البسيطة (فيض الله، 1996، ص 152).

فزت وربِّ الكعبة:

فها هو صاحب الكلمة حرام بن مِلْحانَ رضي الله عنه، عندما اخترق الرُّمْحُ ظهرَه حتَّى خرج من صدره، وأصبح يتلقَّى الدَّم بيديه، ويمسح به وجهه، ورأسه، وقال: فزت وربِّ الكعبة. [البخاري (4092)]. إنَّ هذا المشهد يجعل أقسى القلوب، وأعظمها تحجُّراً يتأثَّر، ويستصغر نفسه أمام هؤلاء العظماء الَّذين لا تَصْفَرُّ وجوههم فزعاً من الموت، وإنما يعلوها البِشْرُ والسُّرور، وتغشاها السَّكينة والطُّمأْنينة (الحميدي، 1997، ص 6/50).

وهذا المنظر البديع الرَّائع الَّذي لا يتصوَّره العقل البشريُّ المجرَّد عن الإيمان جعل جَبَّار بن سلمى، وهو الَّذي طعن حرام بن ملحان يتساءل عن قول حرام: «فزت وربِّ الكعبة» وهذا جبَّار يحدِّثنا بنفسه، فيقول: إنَّ ممَّا دعاني إلى الإسلام: أنِّي طعنت رجلاً منهم يومئذٍ برمح بين كتفيه، فنظرت إلى سِنَان الرُّمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول: «فزت وربِّ الكعبة!» فقلت في نفسي: ما فاز، ألست قد قتلت الرَّجل؟! حتَّى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: للشَّهادة. فقلت: فاز لَعَمْرُ الله! فكان سبباً لإسلامه. [البيهقي في الدلائل (3/353)].

 

المراجع:

1. ابن هشام، أبو محمد بن عبدالملك، (د.ت)، السِّيرة النَّبويَّة، دار الفكر.

2. الحميدي، عبد العزيز، (1997)، التَّاريخ الإسلاميُّ - مواقف وعبرٌ، دار الدَّعوة - الإسكندريَّة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1997 م.

3. فيض الله، محمد فوزي، (1996)، صورٌ وعبرٌ من الجهاد النَّبويِّ في المدينة، دار القلم - دمشق، الدَّار الشَّاميَّة - بيروت، الطَّبعة الأولى، 1416هـ 1996م.

4. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 124-127.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022