الأحد

1446-12-19

|

2025-6-15

الحكمة من خلق إبليس

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

إن النظر في قصة إبليس كما جاءت في خبر الوحي مخبرٌ بأن الله سبحانه لم يخلق إبليس ليضلّ الناس، وإنما خلق إبليس كما خلق البشر؛ للعبادة، غير أن إبليس اختار أن يتكبر على أمر الله بالسجود "لآدم"، ورضي لنفسه طريق الضلالة والإضلال. لقد اختار إبليس -وهو من الجن- أن ينحرف عما خُلق له إلى غير ما خُلق له، عاصياً أمر الله ومتكبراً على طلب السجود. (مشكلة الشر ووجود الله، سامي عامري، ص 106).

كما أن في وجود إبليس على ضلاله حِكَماً جليلة يصعب استقصاؤها، وقد ذكر علماء الإسلام -كابن القيم- طرفاً منها يدفع القولَ المتوهَّم بأن وجود إبليس شرٌّ محضٌ لا خير معه، ومن ذلك:

أ- أن وجود إبليس يكمل لرسل الله وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله، وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به منه، والالتجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده، فيترتّب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه، ومعلوم أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه.

ب- خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعدما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه، وسقوطه من المرتبة التكريمية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتمّ.

ج- جعل سبحانه إبليس عبرةً لمن خالف أمره وتكبّر عن طاعته، وأصرّ على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر عبرةً لمن تجاوز نهيه، أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصرّ وأقام على ذنبه، وهذا الأب عبرةً لمن تاب ورجع إلى ربه.

د- حال إبليس محكٌّ امتحن الله به خلقه ليتبيّن به خبيثهم من طيبهم، كما جعل أنبياءه ورسله محكّاً لذلك التمييز، قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [سورة آل عمران: 179].

هـ- ليُظهر كمال قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين، وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه، فهو خالق الأضداد؛ كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحر والبرد، والطيب والخبيث.

و- خلقُ أحد الضدّين من كمال حسن ضده؛ فإن الضد إنما يظهر حسنه بضده، فلولا القبيح لم تُعرف فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم يُعرف قدر الغنى.

ز- من أسمائه سبحانه الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل المنتقم، وهذه الأسماء تستدعي متعلقات تظهر فيها أحكامها، كأسماء الإحسان والرزق والرحمة ونحوها، ولا بد من ظهور متعلقات هذه وهذه. (شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل، ابن قيم الجوزية، مرجع سابق، ص 469).

ح- الله سبحانه هو الملك التام الملك، ومن تمام ملكه عموم تصريفه وتنوعه بالثواب والعقاب، والإكرام والإهانة، والعدل والفضل، والإعزاز والإذلال، فلا بد من وجود ما يتعلق به أحد النوعين كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر (مشكلة الشر ووجود الله، سامي عامري، مرجع سابق، ص 107).

ط- إن الله تعالى شاء وقضى أن النعيم والسعادة لا يوصل إليهما ولا ينتهى عندهما إلا على جسر من التعب والمشقة والمحفوف بالأشواك والمنغصات، ولا تُنال لذّتهما إلا من باب المكاره والصبر والمجاهدة في سبيل الله جل وعلا، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (حفَّت الجنة بالمكاره وحفَّت النار بالشهوات) [صحيح مسلم، رقم: 2822]، فوجود عدو الله إبليس وتسليطه على الإنسان وتمكينه من وسائل الغواية والإضلال من أسباب ظهور تلك الإرادة والمشيئة، وهذا من السنن المتفق عليها عند العقلاء، حيث إن من أراد بلوغ المقاصد الحسنة، والغايات الجميلة والفضائل الكريمة، فلا بد من مجاهدة نفسه في تحصيلها، والجد والتعب من أجل تحقيقها، وكل من كان أكثر مجاهدة وأطول مصابرة كان أسعد حالاً وأحسن عاقبة ممن هو دونه، وسائر العقلاء يعدّون ذلك التعب والجهد والمشقّة لتحقيق تلك الغايات من الأمور المحبّبة إلى نفوسهم، بل يجدون في القيام بها من اللذة والسعادة ما لا يجدون في غيرها؛ لعلمهم أنها الطريق الموصل إلى تلك الفضائل والكمالات (عداوة الشيطان للإنسان، عبد المنعم الحواس، ص 158).

ي- إن الاستعاذة بالله تعالى، واللوذ به جل وعلا، مما يحبّه تعالى من عباده، ولذا حث نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ به من شر الشيطان وحزبه، قال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ [سورة المؤمنون: 97-98]. وقال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ ۝ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ [سورة الناس: 1-6]. وحثّ الله تعالى نبيه أن يستعيذ به سبحانه عند قراءة القرآن: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [سورة النحل: 98].

وقد كان إبراهيم عليه السلام يعوّذ إسماعيل وإسحاق من الشيطان. قال ابن عباس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين، ويقول: (إن أباكما كان يعوّذ بهما إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة).

ك- تحقيق الحمد المطلق لله تعالى من جميع الوجوه، فهو تعالى محمود على خفضه وعدله ومنعه وإهانته وانتقامه، كما هو محمود جل وعلا على عطائه ورفعه وتفضيله وإحسانه، وقد حمد نفسه تبارك وتعالى على ذلك كله؛ فحمد نفسه على ربوبيته الشاملة للخلائق، فقال سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الفاتحة: 2].

وحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [سورة الأنعام: 1].

وحمد نفسه على وحدانيته سبحانه وتعالى في الألوهية والملك، فقال جل وعلا: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ [سورة الإسراء: 111].

كما حمد نفسه تعالى في كل زمان ومكان: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [سورة الروم: 17]. وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ﴾ [سورة القصص: 70].

وقد وصف نفسه جل ثناؤه بالحمد في كتابه الكريم في آيات كثيرة جداً، ووصفه به ملائكته في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [سورة الزمر: 75].

بل إن جميع خلقه جل وعلا يلهجون بحمده، ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [سورة الإسراء: 44].

وحين يدخل أهل الجنة جنةَ ربهم فإنهم يمجّدونه على هذه النعمة العظيمة: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [سورة الزمر: 74].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون، قالوا فما بال الطعام؟ قال: جُشاء ورشح كرشح المسك، يُلهمون التسبيح كما يلهمون النَّفَس) [صحيح مسلم، رقم: 2835].

فبخلق عدو الله إبليس ووجوده في الدنيا يحصل هذا الحمد المطلق من جميع وجوهه، فكل ما كان من لوازم حمده تعالى فله في خلقه ووجوده الحكمة التامة، وله في ذلك الحمد المطلق، إذ كلما كان الفاعل أعظم حكمة كان أعظم استحقاقاً للحمد، والله جل وعلا له الحكمة البالغة في كل شيء، وله الحمد كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، والله تعالى أعلم. (قصة بدء الخلق، د. علي الصلابي، ص386 - 387).

 

 

المراجع:

  • قصة بدء الخلق وخلق آدم (عليه السلام)، د. علي محمد الصلابي، دار الأصالة – إسطنبول، ط1، 1444ه – 2022م.
  • مشكلة الشر ووجود الله، سامي عامري، اصدار المؤسسة العلمية للدعوة العالمية، رعاية مركز تكوين للأبحاث والدراسات، ط2، 1439ه-2018م.
  • شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، محمد بن أبي بكر ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، 1978، ص 78.
  • صحيح مسلم، كتاب الإيمان، شرح النووي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
  • عداوة الشيطان للإنسان، عبد المنعم الحواس، دار ابن الجوزي، الدمام، السعودية، ط1، 1425ه-2004م.

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022