الخميس

1447-06-06

|

2025-11-27

حوار إبراهيم عليه السّلام مع أبيه: حكمة الدعوة وبلاغة الخطاب

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

نتابع التأمل والتفكر في الآيات المباركات من قصة نبيِّ الله إبراهيم عليه السّلام وحوراه مع أبيه، كما وردت في سورة مريم، لنستكشف ما فيها من روائع البيان وجمال الخطاب، ولطف الدعوة، ورقة النصيحة. فالآيات تكشف جانباً عظيماً من أسلوب الداعية الحكيم الذي يجمع بين العلم وحسن الأدب ورفق الأسلوب وقوّة الحجة. وقد وردت الدلالات البلاغية والمعاني التفسيرية التي أبرزها أهل العلم في هذه الآيات الكريمة، ومنها:

قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} ]مريم:43[:

يواصل إبراهيم - عليه السّلام - نصائحه لأبيه فيقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}، وبعد أن بيّن لأبيه بطلان عبادة ما يعبده، لنقصه وعجزه، فالمعبود يستحيل أن يكون دون العابد، شرع إبراهيم - عليه السّلام - في بيان مصدر دعوته لأبيه، فهو لم يدعُهُ بناءً على هوى نفسه، ولكن دعوته قائمة على العلم الذي وهبه الله إياه، لذا فهو ينصح أباه بأن يتّبعه لينجو من الهلاك، وليسير في طريق الهدى والرشاد. (تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص186)

ويكرّر نبي الله إبراهيم - عليه السّلام - هذا النداء اللطيف {يَا أَبَتِ} مرة أخرى، وكأنه يريد أن يثير في أبيه غريزة الحنان، ويوقظ عنده أواصر الرحم، وكأنه يقول له: إن كلامي معك كلام الابن لأبيه، حيث نادى أباه بهذا النداء أربع مرات متتالية في هذه الآيات، وما ذاك إلا لحرصه على هدايته والأخذ بيده إلى الطريق القويم المستقيم. (تفسير الشعراوي، (15/9098))

وتدبّر نصيحة إبراهيم - عليه السّلام - الثانية لأبيه، فقد حرص على جلب استعطافه، وأكدَّ الكلام بـ (إن وقد)؛ لأنه - عليه السّلام - يُبطل عبادة أبيه ويدعوه لاتباعه؛ وهو قد وُهب علماً من الله لم ينله أبوه، وهذا بالطبع أمر يبعث على إنكار الأب؛ لذا قام بالتأكيد بأكثر من مؤكد.

وتأمل أدب الابن الداعية الرفيق، فهو لم يرمِ أباه بالجهل، وإن كان متردياً في مهاويه، فهو لم يقل له مثلاً: إنني عالم وأنت جاهل فاتبعني، ولم يقل ذلك، كما أن إبراهيم لم يدّع أنه بلغ أقصى درجات العلم وإن كان كذلك؛ لأن علمه موصول بالله تعالى عن طريق الوحي والهداية، ولم يقل ذلك، بل قال: {قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} أي: معي طائفة وجزء يسير من العلم ليس معك، وهو علم الدلالة إلى درب الهداية. (روح المعاني، الآلوسي، (8/415)) ونلحظه فيما يأتي:

1. تصدير الحجّة بعد النداء بالخبر بضربه الإنكاري {إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ}؛ لأنه يخاطب منكراً يستنكف أن يكون الله أعلم منه في شيء، فجعل الخبر تمهيداً إلى الإنشاء الطلبي بصيغة الأمر لغرض النصح {فَاتَّبِعْنِي}. (بلاغة الاحتجاج، زينب عبد اللطيف الكردي، ص204)

2. مما يلاحظ في لغة القرآن: أنه حين يُعبر عن مجيء العلم لا يستخدم معه إلا الفعل {جَاءَنِي}؛ لأنه من المجيء الذي له شأن وأهمية، فهو يزيل الجهل ويرفع الضلال، ويكشف الغشاوة عن الأبصار والقلوب، لما فيه من الظهور وقوة البرهان والحجة، والمنع من الهوى والزيغ والانحراف، لذا قيل على لسان إبراهيم - عليه السّلام - {إِنِّي قَدْ جَاءَنِي} ولم يقل: إني قد آتاني. (الإتيان والمجيء فقه دلالتهما، محمود حمدان، ص74)

3. إطلاق "العلم" دون تقييد لمجيئه بالمعبود الحقّ، نحو أن يقول: "جاءني من العلم من الله"؛ وذلك لئلّا يفاجئ والده بنبوّته قبل أن يستكمل معه الاستدراج؛ لتتحقق بالإطلاق دلالة اشتراك الطرفين في العلم، ذلك أن أباه كان يرى نفسه على علم عظيم؛ لأنّه كان كبير ديانة قومه، وأراد إبراهيم- عليه السّلام - علم الوحيّ والنبوءة. (أساليب المحاورة في القرآن الكريم، طالب إسماعيل، ص 156)

4. إيثار تعليق العلم العظيم الذي جاء بــ "من" بما تحمله من دلالة التبعيض، ولا يخفى ما في ذلك من خصلة التواضع، والعلم بحر خضمّ متجددّ لا يمكن لأحد من البشر الإحاطة به.

5. تقييد العلم الذي جاءه بالموصول {مَا لَمْ يَأْتِكَ} المتعلّق بصلة تنفي عنه الاشتراك التامّ (قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) من الجملة السابقة، وتثبت للخليل - عليه السّلام - شيئاً من التميز تمهيداً لإلقاء النصح: {فَاتَّبِعْنِي}، إنَّ وجود كلمة العلم هنا فيها إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يعبد الله على علم، ويدعو الناس لله سبحانه وتعالى على علم، ويتابع الأنبياء على علم، ويمارس كل شؤون حياته على علم، وإنَّ الله حين أوصى خيرة خلقه محمداً صلّى الله عليه وسلّم بكلمة التوحيد وهي أشرف ما يمكن أن ينجزه الإنسان من عمل في حياته، وهي الحسنة التي تنجيه من عذاب النار وتضمن له الجنة في الآخرة، وأمره أن يأخذها على علم، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} ]محمد:19[. (ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص66)

6. تقييد طلب الاتّباع بجواب هو: {أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}، فيه للجزاء والعاقبة وإغراء بالاتّباع، بطريق الاستعارة في الفعل {أَهْدِكَ} إذ شبه فعل الخليل - عليه السّلام - بفعل هادٍ بصير بالمهاد والثنايا، وكُني عن المتشبَّه به بقرينة {صِرَاطًا سَوِيًّا}، ويمكن إجراؤها على التصريحية بتشبيه الاعتقاد الحقّ الموصل إلى النجاة بطريق مستقيم يبلغ المقصود، وفي قوله {صِرَاطًا} دلالة التشبيه، إذ لو كان المقصود به طريق التوحيد حقيقة لجاء معرفاً بأل العهدة العمرية نحو قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ]الفاتحة:6[. (بلاغة الاحتجاج، زينب الكردي، مرجع سابق، ص 206)

يقول السعدي في قوله تعالى: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} أي: مستقيماً معتدلاً، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعته في جميع الأحوال، وفي هذا من لطف الخطاب ولينه ما لا يخفى، فإنه لم يقل: يا أبتِ أنا عالم وأنت جاهل، أو ليس عندك من العلم شيء، وإنما أتى بصيغة "تقتضي" أنّ عندي وعندك علماً، وأن الذي وصل إليّ لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها.

وفي قوله تعالى: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}، وهذا يدل على استحسان اتباع أهل الصلاح من العلماء، وأن الواجب على ما لم ينل حظاً من العلم أن يتّبع من جاءه بالعلم وأرشده؛ لأنَّ ذلك سيكون له حجة له أو عليه يوم القيامة.

وإنَّ التنكير في {صِرَاطًا} ووصفه بــــ {سَوِيًّا} للتعظيم والتفخيم بالتنوين -التنكير- والوصف معاً، والأمر في قوله: {فَاتَّبِعْنِي} ليس للإيجاب بل للإرشاد.

وفي قوله تعالى: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} أي أدلّك على الطريق المستقيم والدين القويم وهذا من أدبه - عليه السّلام - مع أبيه، جعل نفسه معه كدليل ورفيق في الطريق، ثم بيّن إبراهيم - عليه السّلام - لأبيه أنَّ عبادة الأصنام ليست إلا طاعةً للشيطان؛ لأنَّه مؤسسها الأول وراعيها، والداعي لها. (إبراهيم خليل الله، د. علي الصلابي، ص213)

 

المراجع:

• إبراهيم خليل الله (عليه السلام) داعية التوحيد والأسو الحسنة، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الأصالة – إسطنبول، ط1، 1444هـ - 2022م.

• بلاغة الاحتجاج العقلي في القرآن الكريم، زينب عبد اللطيف كامل الكردي، مكتبة الرشد ناشرون، الرياض، ط1، 2014م، ١٤٣٥ه، ص202.

• تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، دار النوادر، دمشق، سوريا، 2011م

• الإتيان والمجيء فقه دلالتهما، واستعمالهما في القرآن الكريم، محمود موسى حمدان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1998م، ص74.

• أساليب المحاورة في القرآن الكريم، طالب محمد إسماعيل، دار زهران للنشر، عمّان، ط1، 2013م، ص 156.

• تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، 2013م.

• ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، دار المعراج للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2021م.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022