السبت

1447-05-24

|

2025-11-15

من أسباب هلاك الحضارة الإنسانية الأولى .. الترف والبطر

بقلم: د. علي محمد الصلابي

إنّ سنن الله في الأمم لا تتبدل ولا تتحول، وقد قصَّ علينا القرآن الكريم أخبار الحضارات السابقة لنتدبّر أسباب ازدهارها وزوالها، ونعلم أن الهلاك لا يصيب أمة إلا بعد أن تستكمل أسباب سقوطها. ومن أبرز تلك الأسباب التي تتكرر في تاريخ البشر: الترف الذي يورث الغفلة والإعراض، والبطر الذي يمثّل ذروة كفر النعمة والطغيان. وحين يسيطر المترفون على المجتمعات، تضعف القيم، وتفسد الأخلاق، ويعمّ الظلم، فتأتي السنّة الإلهية بالعقاب الذي لا يُردّ. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما وقع لقوم نوح عليه السلام، حين جمعوا بين الكفر والفساد والبطر فكان الطوفان نهاية تكبّرهم، فمن أسباب العقاب الإلهي الذي حلّ بهم هو الترف الذي اتصفوا به، قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود 116 – 117] (1).

فالظالمون وهم الأكثرون اتبعوا الذي أنظرهم فيه ربهم من نعيم الدنيا ولَذاتها، إيثاراً له على عمل الآخرة وما ينجيهم من عذاب الله.

قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16]، فإذا أراد الله عزَّ وجل إهلاك أمة فإنه يأمر هؤلاء الذين أترفوا بالطاعة فيفسقون فيها ويبقون على ترفهم، ويبقون على معاصيهم ومخالفتهم لأمره سبحانه، فيجيب عليهم بمعصيتهم لله وفسوقهم فيها وعيدُ الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله من الهلاك والدمار، فيخربها سبحانه تخريباً، ويهلك من كان فيها إهلاكاً.

إنَّ المترفين هم أولوا النعمة والحشمة والثروة والرياسة (2)، وهؤلاء المترفون هم المعنيون بالملأ من القوم، وهم الذين تولوا كبر معارضة الرسل كما ورد في آيات كثيرة منها قوله تعالى عن قوم نوح ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [الأعراف: 60]، وبين نوح أن جماهير قومه اتبعوا رؤساءهم وأهل الثروة منهم الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالاً في الدنيا وعقوبة في الآخرة (3).

قال تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ [نوح: 21]. ومجتمع قوم نوح ساد فيه الترف والطبقية فهو مكون من: الرؤساء والمرؤوسين، الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والمترفون من كل أمة هم طبقة من الكبراء المنعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم والراحة، فينعمون بالراحة والسيادة حتى تترهل نفوسهم وترتع في الفسق والمجون وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات وتلغ في الأعراض والحرمات، وكانوا من أسباب الهلاك والدمار في أقوامهم الهالكة والأماكن التي عاشوا فيها (4).

وقد أخبرنا الله عز وجل عن كثرة القرى الظالمة التي كان أهلها مترفين، فاستحقت عقاب الله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ* فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ* لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ* قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾ [الأنبياء: 11 - 15].

ومن الجرائم التي يعاقب عليها الأمم: البطر، والبطر: هو الطغيان والإشراك وكفر النعم

قال تعالى: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص 58].

وقوم نوح عليه السلام بطروا النعمة وطغوا فيها ولم يقوموا بشكرها ولا بحقها وجحدوها فجمعوا بين الكفر وفساد المعتقد والطغيان والاستعلاء في الأرض وعدم القيام بشكر المنعم (5).

وقام نوح عليه السلام بتذكير قومه بنعم الله عليهم فقال لهم: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا* أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا* وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا* وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا* لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا﴾ [نوح: 13- 20].

ولكن القوم اعتادوا البطر وكفران النعم، إذ بعد فتح أبواب الخيرات عليهم، لم يزيدوا على أن فرحوا فرحاً أشراً وبطراً وطغياناً وعجباً من غير انتداب لشكر أو عرفان للمنعم سبحانه، وكان شركهم وتكذيبهم من اعظم الكفران، إذ جعلوا لأصنامهم حظاً من الإنعام والإكرام، وصرفوا لها العبادة التي لا ينبغي أن تكون إلا لله تعالى الكريم المتفضل بجميع النعم مع الإصرار على عبادة أوثانهم متواصين بالتمسك بها، وكان عاقبتهم الطوفان الذي أبادهم ولم يترك منهم أحداً (6).

المصادر والمراجع:

1. عماد الدين خليل، التفسير الإسلامي للتاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط5 1991م، ص273.

2. تفسير ابن كثير، 3 /548. وانظر: سعيد محمد بابا سيلا، أسباب هلاك الأمم السالفة، ص 366.

3. سيد قطب، تفسير ظلال القرآن، سورة نوح، 6/3716.

4. أحمد سليمان الرقب، منهج الدعوة إلى الله في سورة نوح، المرجع السابق، ص 215.

5. محمد أمحزون، السنن الاجتماعية، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1432ه- 2011م،1/504.

6. محمد أمحزون، المرجع السابق نفسه، 3/ 406.

7. علي محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم، دار ابن كثير.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022