الأربعاء

1447-05-21

|

2025-11-12

من أسباب هلاك الحضارة الإنسانية الأولى ..

(الكفر والشرك بالله عزّ وجلّ)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

إنَّ نوحاً عليه السلام جاء في نهاية الحضارة الإنسانية الأولى، والتي بدأت من آدم عليه السلام، ثم انحرفت عن التوحيد وإفراد العبادة للخالق العظيم، وتطورت الحياة الإنسانية على وجه الأرض في قضاياها المادية، وضعفت وأخطأت السبيل في قيمها الروحية ومعرفتها يخالقها العظيم، فأرسل الله عز وجل نوحاً عليه السلام، فأقام على الكافرين والظالمين والفاسقين والمعاندين الحجة، ومضت سنة الله في زوالهم واستئصالهم، وآمن معه القليل الذين أنشأ بهم حضارة السلام والبركات بعد الطوفان. وإن من أسباب زوال ونهاية الحضارة الإنسانية الأولى عوامل عديدة من أهمها:

الكفر بالله عز وجل:

إنَّ من أهم أسباب العقاب الإلهي وهلاك الحضارة الإنسانية الأولى بالطوفان العظيم، الكفر بالله، وأصل الكفر في اللغة: الستر والتغطية، وقد سمي الكافر كافراً لأنه غطى بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان، والكفر ضد الغيمان الذي هو التصديق والاعتقاد والإقرار بوحدانية الله وبربوبيته والوهيته، والإيمان بالملائكة وشريعة الله ورسالة نوح عليه السلام واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشره من الله.

وقد رفض قوم نوح دعوة نوح للتوحيد ورسالات الله، وكفروا بها وحاربوها ووصفهم الله بالكفر كما مر معنا في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود: 27].

إنَّ وصف نهاية الحضارة الأولى التي عاشها قوم نوح بالكفر يعني انها في تلك الفترة التاريخية من تاريخ الإنسانية كانت منفصلة عن الدين ومتحررة من تكاليف الإيمان بالله وشرعه، وهذا يفضي بها على انحلال الأخلاق وانحطاطها، وهذا ما حدث لها من حالة الشقاء والتعاسة التي كان يعيشها قوم نوح عليه السلام من بُعدهم عن هدايات السماء.

وإنَّ الجنوح المادي الذي طالما تميزت به قوى الكفر منذ فجر التاريخ وحتى وقتنا الراهن كضرورة من ضرورات التصاقها بالأرض ورفضها أي إيمان بالغيب أو المثل العليا، لا يمثل تعبيراً عن السعادة بمفهومها الشامل، بل على العكس فإن هذا الجنوح يمثل نقضاً كبيراً وانحرافاً خطيراً في تجربة يملأ خلاياها وشرايينها بالتعاسة والشقاء (1). ومهما يكن من أمر فإن الحضارة – أية حضارة – محكومة بالسنن الإلهية، وهذه السنن في المجال الحضاري على نوعين:

- سنن جزئية تتعلق بعالم الشهادة، وهي سنن تعطي كل من يوظفها على قدر سعيه ولا تفرق بين مؤمن وكافر.

- سنن كلية حاكمة على هذه السنن الجزئية، وهي سنة الإيمان بالله تعالى وتوحيده، وهي التي تحدد مصير الحضارات، نمواً وسقوطاً، وتعتبر جميع عوامل سقوط الحضارات تبعاً لهذا العامل، أي غياب الإيمان بالله وتوحيده (2).

فقوم نوح مضت فيهم سنة الله، بأسباب عديدة منها: الكفر بالله عز وجل فكانت واقعة الطوفان العظيم والتي تعدُّ من أبرز الحوادث التاريخية وقعاً في النفس الإنسانية، حيث إنها من أقصى العقوبات التي عاقب الله بها الكفار (3).

الشرك بالله عز وجل:

ومن المعلوم أن التوحيد هو الأصل في حياة الإنسان، وهو الذي صنع الحضارة الإنسانية مع بداية خلق الله لأبينا آدم عليه السلام، ولكن في نهاية عهد الحضارة الإنسانية الأولى وفي عهد قوم نوح فشا فيهم الشرك، وبدأ بهم الانحراف عن دين التوحيد، كما جاء في حديث ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام (4)، وقد استدرجهم الشيطان إلى الشرك، حيث زين لهم وجوب تعظيم رجال صالحين منهم من موتاهم، ووسوس لهم أن ينصبوا إلى مجالسهم التي يجلسون إليها أنصاباً " تماثيل " على هيئة أولئك الصالحين، تخليداً لذكراهم وسموها بأسمائهم، وجاء آخرون من قوم نوح فوسوس إليهم الشيطان أن من كان قبلكم كانوا يعبدون هذه الأصنام فعبدوها (5).

وقد بينا في هذا الكتاب محاورة نوح عليه السلام إياهم واستعماله كافة أساليب الإقناع في سبيل دعوتهم إلى التوحيد ونبذ الشرك، وقد مضى فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل وكان نوح عليه السلام كلما أعرض قومه عن دعوته غيّ وبدل أسلوبه فإذا اعرضوا عن الدعوة العلنية عاد ليبلغهم الدعوة بصورة سرية، ولكن مع ذلك لم تلن قلوبهم لدعوته، إذ ران عليها حب الأوثان وعبادتها (6).

لقد كان قوم نوح هم أول مشركين في تاريخ الحضارات الإنسانية، وبهم بدأ الانحراف، وكانوا متوغلين في الشرك راسخين في العناد، وسجل القرآن عليهم موقفهم النهائي من الشرك وعبادة الأصنام بعد المواعظ البليغة والنصائح الغالية التي بذلها لهم نوح عليه السلام قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23]. وهذا الموقف ليس مجرد شرك وإصرار عليه بل هو تواص به، وتناصح بالإقامة عليه وتحذير من تركه (7).

وفي موقف من مواقف الثقة بالله والتوكل عليه يبين نوح عليه السلام عجز أصنامهم وضعفها، فتحداهم جميعاً هم وأصنامهم التي زعموا أنها آلهة تنفع وتضر، وتحداهم أن يسعوا في الكيد له والإصرار به ما أمكنهم ذلك، فلو كانت تلك الأصنام آلهة حقاً لانتقمت منه وأهلكته بما شنع عليها وذمها، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ﴾ [يونس: 71]، ولم تفعل اصنامهم شيئاً، وأنى لها ذلك؟ وهي جمادات لا إدراك لديها فضلاً عن جلب نفع أو دفع ضر، والقوم بعد هذه الحجج وهذا التحدي لم يقارعوا الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، بل أعلنوا تبرمهم من الحجج التي يأتي بها نوح عليه السلام، وأغلقوا باب المحاورة والمجادلة وطلبوا نزول العذاب، قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [هود: 32]، إنه عناد ما بعده عناد، وكل ذلك من أجل أصنام صنعوها بأيديهم وسموها آلهة بغير سلطان أتاهم (8). وفي النهاية قضى الله تعالى بهلاك المشركين، وهي سنة فيمن أشرك به وحادّ رسوله، وانهدت أركان وقواعد شركهم بالطوفان العظيم.

المصادر والمراجع:

1. عبد الله محمد الأمين، الرؤية الإسلامية والمسألة الحضارية دراسة مقارنة، إدارة البحوث والدراسات الإسلامية، قطر، (كتاب الأمة)، العدد (153)، السنة (33)، 1434ه، ص 103.

2. المرجع نفسه، ص 103.

3. وفاء محمد سعيد، فقه السنن الإلهية، دار الأمة، ط1 2016م، ص 169.

4. أخرجه الحاكم في المستدرك، 2/442.

5. صحيح البخاري، كتاب التفسير، 2/442.

6. محمد أمحزون، السنن الاجتماعية في القرآن الكريم وعملها في الأمم والدول، دار طيبة، ط1 1432هـ، 3/385.

7. سعيد محمد بابا سيلا، أسباب هلاك الأمم السالفة، سلسلة إصدارات الحكمة، بريطانيا، 2000م، ص 128.

8. سيلا، المرجع السابق، ص 128.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022